قدمت صحيفة لوس انجلوس تايمز لقضية السودان في كلمة منشورة الأحد الماضي بالفقرة التالية "من سافر لكل من شمال السودان الأشبه بالصحراء، حيث تقع العاصمة الخرطوم، وإلى الجنوب المتعرض دوما للفيضان لا يمكن إلا أن يلحظ الفروقات العظيمة بينهما. أهل الشمال عرب مسلمون أفتح لونا. بينما الذين في الجنوب تميل ألوانهم إلى أن تكون داكنة وهم مسيحيون أو يدينون بأديان وثنية، ظاهرة افريقيتهم. يجاور الشمال الأقطار العربية، ليبيا ومصر؛ بينما يقود الجنوب إلى كينيا، يوغنده والكنغو. تم دمج هذين الاقليمين في بلد واحد ضمن التمارين الامبريالية الفجة التي شوهت كثير من مناطق العالم، حيث قرر البريطانيون أن يكون الأمر كذلك وبذا صنعوا بلدا بمساحة تقارب المليون ميل مربع برزت فيه التناقضات اللغوية والثقافية والعرقية والتاريخية قبل أن يصبح مستقلا في 1956. بدنو الاستقلال وقع أهل الجنوب بصورة متزايدة تحت هيمنة الشمال، فتم دفعهم إلى اتخاذ العربية لغة رسمية، وتعرضوا للتبشير حتى يتحولوا إلى الإسلام، وآخر الأمر تم وضعهم تحت السيطرة السياسية للحكومة في الخرطوم".
تكاد هذه المقدمة تختصر الافتراضات السيارة في العلاقة بين الجنوب والشمال ككيانين تفصل بينهما حواجز الدين والعرق والثقافة مما لا سبيل لجسره سوى بالهيمنة، وهي مثالية في تصور هذه الفروقات جواهر ساكنة تفارق التاريخ، أي عين التصور الاستعماري للشعوب ما قبل الحديثة كأسرى ثقافة لا سبيل لهم لمنازعتها سوى بالخلع. لكن، أليست ذات الافتراضات الاستعمارية، وذات المقدمة أعلاه، هي التي تشكل القوام الفعال للقومية الجنوبية اليوم، أي تصور الجنوب كضحية لهيمنة شمالية متطاولة أصلها عقيدة في التفوق عرقا ودينا وثقافة، ومن ثم لا سبيل للتحرر منها سوى بالاعتزال انفصالا. وأليست ذات الافتراضات هي حجة المؤتمر الوطني في صياغة "الانتباهة" لحتمية الطلاق بين الجنوب والشمال مضاف إليها رعب الجلاد المبطن من يوم ينتقم فيه الضحية، وإن كان فراشا أو زبالا فلا نريده كما تقول بذلك فتوى الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة. بل هي في ظني تشكل كذلك الافتراضات المبطنة لدعوى اليسار غير الشيوعي الانتصار للجنوب عن طريق خلع ما يشوب الشمال من إسلام وعروبة توبة لجوهر افريقي "رومانسي" طال قمعه على صعيد الثقافة والاجتماع كما على صعيد السياسة والحكم.
مثلت هذه الأحكام القاعدة الأيديولوجية للسياسة الجنوبية التي تبنتها الإدارة الاستعمارية للسودان في الفترة 1930 – 1946 حيث تقول مذكرة بشأن أهدافها "إن سياسة حكومة جنوب السودان هي بناء عدد من الوحدة القبلية أو العرقية المكتفية بنفسها يقوم هيكلها وتنظيمها، بقدر ما تسمح بذلك دواعي الحكم الرشيد والعدالة، على أساس من الأعراف الأهلية، والمعتقدات والسنن التقليدية"، ذلك في تناقض بين مع العزم الاستعماري تمديد الاقتصاد النقدي إلى الداخل الجنوبي عبر وسائل أشهرها ضريبة الدقنية بالنظر إلى ما يتطلبه من إتاحة مواعين التجارة وتيسير تنقل البشر وهجرتهم. وقع عنف السياسة الاستعمارية بأشد ما يكون على المناطق التي تتحدى التمييز السهل بين ما هو افريقي وثني جنوبي وما هو عربي مسلم شمالي. في هذا الخصوص نشر معهد الأخدود المتصدع (Rift Valley Institute) أول هذا الشهر دراسة لأدوارد توماس بعنوان "جيب كافي كنجي: الناس والسياسة والتاريخ في حزام حدود الجنوب والشمال غربي السودان" اضطلع فيها الكاتب بمهمة تقصي سيرة الهويات المتداخلة والمتنازعة في منطقة هامش في الشمال وهامش في الجنوب تقع عند تقاطع السلام والحرب في السودان وجواره في افريقيا الوسطى منذ القرن السابع عشر، وعادت مؤخرا إلى الأضواء بهجوم القوات الحكومية على مواقع لقوات مني مناوي وخليل ابراهيم في جهات تمساحة وراجا. الحجة الاعتبارية لكثير من القوميين الجنوبيين تعيب على الاستعمار البريطاني تخليه عن السياسة الجنوبية لصالح إدماج السودانين في سودان واحد، قرار يؤرخ له بمؤتمر جوبا عام 1947، أما الصفوة الحاكمة في الخرطوم فقد وجدت في السياسة الجنوبية تكأة للتحلل من أي مسؤولية ذاتية عن استدامة الفتق الجنوبي الشمالي. وفي الحالتين اتفاق على القبول بالعقيدة الباطنية لهذا الانفصال كما وصفتها لوس أنجلوس تايمز. اليوم، يبدو الخطاب الدائر حول الاستفتاء جنوبا وشمالا رجع صدى للسياسة الجنوبية، هذه المرة بيدي لا بيد عمرو.
Magdi El Gizouli [m.elgizouli@gmail.com]