كمال الجزولي؟؟!! ماذا تبقى من رحيق الحياة؟؟؟

 


 

أحمد عوض
9 November, 2023

 

morlana333@yahoo.com

إنَّكَ ميِّتٌ،
وإنَّهم ميِّتونَ،
ولا فَكاكْ،
فاجهَرٌ، إذن، برفضِكَ الأبيِّ ههُنا،
تجهَر بهِ هناك،
ومُتْ
هُنا،
تحيا .. هُناكٌ !
(كمال الجزولي، هسيس)

(1)

درج الرثاؤون أن ينطلقوا من علاقة وذكريات تربطهم بالشخص الذي ينتقل إلى الضفة الأخرى، ولكن في حالتي يجدر أن أنوه إلى أنه ليس ثمة أي علاقة شخصية أو اجتماعية أو مهنية بيني وبين المفكر الفذ، والمحامي الضليع، والخبير القانوني، والأديب اللامع، والشاعر المجدد، والناقد العميق، والصحفي المجتهد، والباحث المجد، والسياسي الصلد، والمناضل الجسور وووو... كمال الإنسان، السودان، الوعي، الاستنارة، الثورة، العدالة بكل أشكالها، الفروسية، البهاء، الانتماء، الحقيقة... حيوات وطاقات إبداعية متنوعة اكتنز بها الفقد الجلل الأستاذ كمال الجزولي مما يجعل الكتابة عنه معضلة عسيرة تحتاج لتضافر جهود اختصاصيين حاذقين في مختلف فروع المعرفة الإنسانية. فمنذ انفصال العلم عن الفلسفة، وبروز تباشير النهضة وعصر الأنوار عرف العصر الحديث ظاهرة التخصص المحض، فتقلصت مساحات امتلاك الذات الإنسانية للحقيقة المطلقة والتعدد العلمي والمعلوماتي إلا في حالات نادرة وفق ما نجده لدى المفكرين الفذين، والذين غالباً ما تميزوا بنبوغهم في حقل معرفي أو إثنين. الشيء الذي يجعل كمال الجزولي يعد في رأيي المتواضع ظاهرة مستفزة وعلامة فارقة يصعب تكرارها؛ حيث اعتنق التضاد، ومازج بين جدليات وعرة، ومسارات متضادة الشكل والمضمون. ومساحات شاسعة تحتاج تغطيتها لمؤسسات تُشَبِّك جهودهاً سعياً وراء الإحاطة التي بَرَع فيها في كل ما طرقه من دروب. فالراجح أنه اكتسب من إسمه حظوة وسحر.

(2)

فما بين نصوص القانون ومنصاته الصارمة جدية وقطعية، والفعل السياسي الغارق في سطوة الأيديولوجية، والتقيد بتعاليم ورؤى المؤسسة المقدسة، وجموح المبدع وتمرده على الأقانيم والقوالب الجاهزة، وحساسيته الفائقة التي تجعله عصي على التطويع، وما بين أناة الباحث المدقق وما يميزه من أناة واستغراق صوفي في المصادر والمراجع، وما ميزه من مؤرخ اجتماعي اهتم بتوثيق حراك الجموع وهي تدب لصنع الحياة بسلاسة الأسلوب، وعمق الطرح، والمصداقية اللافتة، وضراوة المدافع عن حقوق الإنسان وحركيته الفائقة ركضاً وراء الأحداث، وما بين الأخوانيات الأمدرمانية والتماهي مع عطر المدينة ومناسباتها الاجتماعية، وجلسات الأهل والأصدقاء تحت شجرة نيم ظليلة أو قلوب وارفة بالمحبة وحب الحياة، بغض النظر عن لونهم السياسي أو المناطقي أو المهني أو ما غيرها من اختلافات موضوعية. وما بين العمل المدني والتزاماته الأثيرة وحميميته التي تبعد الإنسان عما بالحياة رغم أنه موجه للمجتمع. هذه غير التقاطعات العسيرة، والتباينات التي تصبغ الواقع السوداني بتعقيداته مما يجعل الإمساك بخيط واحد عملية شاقة إن لم تكن شبه مستحيلة، فما بالك الإمساك بعدة خيوط خاصة مع تعقد الحياة وتنامي التزاماتها، وانعكاساتها السالبة على الصحة الجسدية والنفسية، وأيضا على معدل انتماءاتنا على تنوعها.

(3)

مَثَّل الأستاذ كمال الجزولي ظاهرة إنسانية فريدة. كاريزما ندر أن تتكرر بكل تلك القدرات المتنوعة، والطاقات المهولة، والديناميكية الفكرية، والحيوية الإنسانية، والاستنارة المعرفية، والخبرات النوعية، والاريحية الإنسانية، والريادة الذهنية، والمبادأة الأخلاقية، والروح النقدية. فسيفساء حازت على أفضل الميزات والسجايا. قصيدة دافئة ومحفزة للحياة والحب وللجمال والعدالة الاجتماعية. سفر مجيد وسنوات طوال من المثابرة والإلتزام بعيداً عن الدوغمائية الفكرية أو التكلس أو الهروب إلى الذاتي من مطالب كحال أفندية ما بعد الاستقلال. شعاع بهر الوجود، وأطفأ تاريخ مذل من الجهالات اللزجة. عنفوان وضاء من الالتصاق بقضايا الإنسان.. مآسيه.. حقوقه.. تطلعاته المشروعة، وفتح الطريق إلى البسالات العصية. يكفيه ما يكفيه من العطاء الثر والمستمر لما فيه من الكدح الذهني والمبادرة المتفردة والشجاعة الباسلة. فضاء متجدد من الإبداع واقتحام المستحيلات. نزوع فطري إلى لا مألوفية التناول وتذوق الحياة. ينطبق عليه ما قاله الأستاذ الفكي عبد الرحمن في رثائه للمبدع عبد العزيز العميري أنه " أحب الحياة، فكرع منها كرعةً، فشهق، فمات". لم تكن الحياة بالنسبة للفقيد نزهة جميلة يتخفف منها من وعثاء السفر وغبار الطريق، بل كانت بحث عن الذات الفردية والجمعية، ورحلة شاقة إلى النفس الغائبة، ونضالاً عسيراً دفع استحقاقاته بنبل وجلد يحسد عليه. ثباتاً على الموقف وتمثلاً لكل الفضائل والقيم الإنسانية السامية. كانت سبراً لأغوار الواقع السوداني بتعقيداته بأفق ما بعد حداثوي جمع بين السودانوية بكل ألقها وأثقالها وأحدث ما أنتجه العقل البشري من وعي واستنارة ومعرفة وتجارب. تخفف من انتمائه الطبقي، وأصوله الصوفية والأمدرمانية ليحلق ما وراء المجرات تنقيبا لأفضل السجايا، وأطرى الأمنيات.

(4)

شكل حالة وجودية تجتمع فيها أنضر الظواهر، وأبهى الإمكانات، وما بعد الخيال من أشواق وأشجان وتمدد في الزمكان بما يبز قوانين الفيزياء وهندسة الجينات الوراثية، وكل العلوم الإنسانية. فهو العاشق المدله للأرض والإنسان وقيم الحق. الخير والجمال. وهو ذاته العالِم المشغول بمناهجه وطرائقه القطعية الدلالة والخلاصات. وهو الفنان المنفلت من جاذبية الراكد من تجربة. وهو الصوفي قطب الحقيقة القصوى يبتدر رؤية بعد نبوءة، وكرامة بعد استثارة. ويقول ابن عربي: "الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين"، فماذا نقول في حالة كمال الجزولي الذي سلك كل الطرق إلى الحقيقة. وهو ظريف المدينة الذي يغرف من تاريخها وحكايتها الباتعة، وشخوصها الملهمين، يضيف بهار إلى الحياة العادية ونكهة مُثْلَى لتوليفة اليومي من تفاصيل، ويحافظ على الإرث الإيجابي مطوراً ومجدداً للحياة. وهو ذلك المثقف العضوي الذي يتنازل طواعية عن مقعده باللجنة المركزية للحزب الشيوعي خشية أن يتم تدجين ذلك الثائر أكثر من الثوريين، لينشغل بمشكلات الواقع العصية بدلاً من حذلقة الساسة وups and downs السياسة. وعلى ما لديه من مسؤوليات وارتباطات، فقد اشتغل حثيثاً بفلسفة الواقع مستلهماً الماركسية في أرقى مظانها وتنقيحاتها، مساهماً بدوره في تطوير النظرية، ثائراً على النصوص الجامدة والمسلمات المخاتلة، باحثاً عن أطرٍ فكريةٍ تستوعب كل تعقيدات الواقع وأسئلته الملحة والحرجة. ومع ذلك وجد كل الاحترام من خصومه قبل أعدائه، فلا غرو أن تتخذه الحركة الشعبية خبيراً لها في مفاوضاتها مع الحكومة، أو أن ينتخب عضواً مهماً في لجنة تأبين الإمام الصادق المهدي، أو أن يختاره زملاؤه بمعتقلات وسجون الفاشية متحدثاً رئيساً باسمهم ومنظماً للياليهم الثقافية وبرامجهم الترفيهية مع إختلاف مشاربهم السياسية والفكرية.

(5)

وعلى ما احترفه من اختزال للمحاسن والمزايا الفريدة، فقد ارتبط بمدينته أم درمان على نحو وجداني عميق تتماهى فيه العلاقة بين الأرض والإنسان ببساطة الإنتماء الفطن دونما رياء أو تعالي أو تهميش لما دونها من بلدان. مواطنية تستشرف آفاق الاعتزاز بالديار بما تمثله من تاريخ وصخب الاجتماعي وتلاقح الأعراق والسمات المتباينة. فتمتد الوشائج بينه وبينها بسلاسة ونضج حياتي تضيف له العلاقات الإنسانية والمكانية تلك التي أنتجها بوله وتأني مزيداً من الحوارات المفتوحة الآفاق، لا تفتعل سدانة التميز، أو تماري ما انفلت من نشيج وشجون. فاليوم تفتقده كل المنابر، الشوارع والأزقة والساحات، والأحياء، والناس..... السيد المكي، ود اللدر، ود البنا، ود أرو، الهجرة، الكبجاب، الركابية، ود نوباوي، المهدية، الثورة، الخدير، الحفر، القماير، الدباغة، العمدة، حي العرب، المسالمة، حي الضباط، الهاشماب، المظاهر، الأمراء، أبو عنجة، العبابدة، الموردة، العرضة، العباسية، بانت، أبو كدوك، أبو روف، الملازمين، بيت المال، الشهداء، المستشفى، البوستة، المسالمة، أبو سعد، الفتيحاب، أم بدة. والشاهد أن المدينة التصقت به أكثر من عشقه لها، فأحبته وهيئت له المقامات والمسالك والمعالي التي رفدها بسعيه الهميم واشراقاته التي لم تخبو. وصلاً لكل البطولات والشرافات وفائق الوله. وكأني بكل من هم بالضفة الأخرى وفي مقدمتهم علي المك، ومنصور خالد، وفاروق أبو عيسى، وعلي السيد، والإمام الصادق المهدي، وفاروق حمد الله، وهاشم العطا، وخليل فرح، ومحمد عبد الحي، وعلي عبد القيوم، وجيلي عبد الرحمن، وأبو ذكرى، والنور عثمان أبكر، ومحمد المهدي المجذوب، والسر قدور، والفيتوري، وسيف الدين الدسوقي، والصادق الياس، وعبد الله شابو، وعوض جبريل، ومحجوب شريف، وحميد، ومحمد محي الدين، وصلاح أحمد إبراهيم، والقدال، والسر أناى، وعبد الله الطيب، وعيسى الحلو، وإبراهيم إسحق، وأحمد الطيب زين العابدين، وعبد الله بولا، والطيب صالح، والطيب محمد الطيب، ومحمد سعيد القدال، وإبراهيم عوض، والجابري، والعميري، وصالح الضي، ومحمد أحمد عوض، وبادي محمد الطيب، ومبارك حسن بركات، وأحمد المصطفى، وأبو داؤود، وزيدان، والحوت، ونادر خضر، وبشير عباس، ويوسف القديل، وعمر الشاعر، وأسماء حمزة، وبرعي محمد دفع الله، وعبد الله عربي، ومحمدية، ووليم أندريه، وحوة الطقطاقة، وبت بتي، وبنات المغربي، وعثمان صالح، وفاروق كدودة، وحسن نجيلة، وعبد الرحمن علي طه، والشيخ مصطفى الأمين، والأمين البرير، ويوسف تبيدي، ومحمد مصطفى جامسكا، والشيخ قريب الله، والشيخ مدثر الحجاز، والشيخ حمد النيل، وخالد الكد، وسعاد إبراهيم أحمد، وود نفاش، والهادي الضلالي، والفاضل سعيد، ومجدي النور، وبهنس، وإسماعيل خورشيد، وجوزيف وجون قرنق، وإبراهيم أحمد عبد الكريم، والشيخ صديق أحمد حمدون، والشيخ عوض عمر، والسماني أحمد عالم، وأسامة عبد الرحمن النور، والتجاني الماحي، والعميد يوسف بدري، وعبد الكريم ميرغني، وحسن الطاهر زروق، ومحمد عمر بشير، وحاج الماحي، ومولانا البرعي، وهنري رياض، وعبد الخالق محجوب، والتجاني الطيب، وسعودي دراج، والشفيع أحمد الشيخ، وفاطمة أحمد إبراهيم، وسميرة إسحق، وخالدة زاهر، وثريا أمبابي، والخاتم عدلان، والأستاذ محمود محمد طه، ومحمد علي جادين، وبشير محمد سعيد، ومحجوب عثمان، والمحجوب والأزهري، وخالد أبو الروس، وود الرضي، والعبادي، وعتيق، وعمر البنا، وعبد الرحمن الريح، واسماعيل محمد علي، وأمين مكي مدني، وحسن عبد العاطي، وجكسا، وسليمان عبد القادر، والحاج شاخور، والطيب عبد الله، وعلي فضل، وست النفور، وكشة، وأحمد الخير، وتبيدي، وكهربا، وبابكر عبد الحميد، وحنفي عبد الشكور، ومطر، ومحجوب التاج، ووووووووووووو قد شيدوا ممراً شرفياً من الحب والورود لك. وقلبي على أم درمان، وعابدين درمة وأحمد شرفي الذين افتقدوا هذا الشرف النبيل. الرحمة والمغفرة لكمال عوض الجزولي بقدر ما قدم لأهله، ومهنته، ووطنه، والفكر والأدب والقانون، والبحث، والسياسة، والثقافة، والشعر، والنقد، والصحافة، وخالص التعازي لأسرته، وأهله، وجيرانه، وأصدقائه، ومعارفه، وزملائه، وتلاميذه، وقرائه، ومحبيه، وعارفي فضله، وللإنسانية جمعاء. وإن كان هنالك ثمة رجاء، فهو أن ينقل جسده الطاهر بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة ليوارى الثرى بأحمد شرفي أو البكري.

 

آراء