كمال حنفي يوجعني أنك لن تقرأ رثاءك

 


 

 



abusamira85@gmail.com
أكبرت يومك أن يكون رثاء الخالدون عهدتهم أحياء أو يرزقون؟
أجل وهذا رزقهم صنو الخلود وجاهة و ثراء
محمد مهدي الجواهري
كانت اللحظة الأولى للتعارف مطلع العام الأول من ثمانينيات القرن الماضي حين زرته في الغرفة رقم 6 في الطابق الأول من العمارة رقم 5 في مدينة البعوث الإسلامية الكائنة شرق القاهرة التي شيدها المعز في منطقة وسطى بين حي الدراسة بحاراته وأزقته القديمة ومدينة العباسية الحديثة بقصورها وحسانها اللائي جعلن الطيب محمد سعيد العباسي ينأى عن بلد صلد قلب حوائها حجر.
حمل باب الغرفة الخشبي لوحة ورقية خط عليها بالرقعة الكوفية كمال حنفي منصور تراب ميت يمشي على تراب حي، وكان حديثنا بحسبان أنني كنت طالبا في سنة أولى صحافة بلغة تلك الأيام أن الصحافة هي المسؤولة عن بث الوعي الذي يقود إلى التنوير الذي يحدث التغيير المنشود في حياة البلاد والعباد.
وفي مثل من هذا النقاش في قضايا الوعي والتثقيف كانت لكمال قصصا لا تنتهى، يحدثني دائما عن حدث جديد بشيء من التفاصيل التي تنتهي غالبا بحالة أنه  معتذر عن تقصير أو ممازحا بطرفة أو مغتبطا بفكرة جديدة.
نحن الآن في القاهرة التي كانت تعيش أيام ما بعد حادث المنصة واغتيال أنور السادات. كانت سنوات كمال حنفي خصبة خبر خلالها الحياة وخبرته علمته أن يكتفي بسرد المفارقات والطرائف بديلا عن الوعظ وإسداء النصح.
وتلك أيام عطرة عشناها في القاهرة ونحن طلاب صحافة أصغر سنا من الراحل كمال حنفي وشهودي عليها أيوب إسماعيل أيوب الحافظ على تراث الأجداد في وادي حلفا وفتح الرحمن ناصر محجوب المقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية، تعلمنا منه أن الحياة مجموعة قيم ومبادئ لا تقبل المساومة، وأن التسامح شيمة الأقوياء، والضغائن والأحقاد صفة الضعفاء.
كان كمال حنفي حلو المعشر، حاضر البديهة والطرفة من غير تكلف، عميق الصوت مع غلظة لا تخفى، تكتسي قسماته البيضاء بداوة ملحوظة إلا قليلا.
كانت اللحظة الأخيرة حين اكتست مقابر البكري في بقعة المهدي أم درمان عصر الخميس 18 أبريل 2013م بحزن مضاعف وامتلأت بوجوه تتخطي كل المصاعب والمتاعب والعقبات وتحافظ علي ديمومة علاقات وصلات امتدت نحو ثلاثين عاما تذكرت فيها الجلسات الهادئة والنقاش اللذيذ حول كتاب أو حول قضية ساخنة.
وعند موارة الجثمان بكاك رجالا ليس من طبعهم التشاؤم، ولا يدعون الحزن يسيطر على نفوسهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. رأيت تلك الكوكبة القاهرية الرائعة: العميد طبيب عبد المنعم حمدتو تملأ الدموع عينيه وتزيدها إحمرارا، يعقوب عبد القادر الفجو يضع نظارة سوداء ضخمة ليخفي الدموع السائلة بين خديه، نادر السيوفي يتلفح عمامة على طريقة أسلافه مقاتلي الامبراطورية العثمانية ظنا أنها تخفي ملامح وجهه الحزين، الصحفي المهندس عثمان ميرغني كان على مقربة من حافة القبر يحدق في الأفق الغربي مليا ليمنع دمعوعا كانت تتحدر. أما المهندس أحمد البشير فقد كان صوت أنينه يأتيني واضحا عبر الهاتف من أحد مشاريع تنمية التخوم المجاورة للقضارف.
بعد مراقبتي للتلك الكوكبة القاهرية الرائعة تذكرت عبارة غربية تصف الحزن بأنه أعلى درجات الجمال لأنه يثير في النفس المشاعر الدفينة، ويجعل الدموع (زي مطر السواري). لكن الذين بكوا كمال حنفي أهل عقيدة راسخة ويقين يعلمهم (إنك ميت وإنهم ميتون).
ماذا تصنع لهفة الرحيل بنا حين نزور المقابر، ونرى الأجساد الطاهرة ترقد في جميع أنحائها، كأنما هو قدر أن يتقاسموا أطرافها، لتنتشر غمامة من الحب بين القبور، تظلل الراقدين بصمت. إذا وقفت على القبور، ولمست ترابها، لن تفلح (الكبرياء)، في أن توقف ماء غزير انبجس من عينين عذبهما الرحيل. وما تفتأ مطارق الفقد والوحشة تدق قلوبا تكسرت النصال فيها على النصال.
ويأتي رحيل كمال حنفي، وأحوالنا في غيابة جب، وغيبوبة غيهب، قد تهوي بنا إلى قرار سحيق ربما يحطمه غيابنا، وأطفالنا يتقصفون مثل أوراق خريف لم تهطل أمطاره بعد. وأنت (الأخ الأكبر) قد تشرئب إليك أعناق، وتطأطئ ذلا وعجزا وخجلا.
وعندما تأتي مواسم الرحيل يزداد الطفل في دواخلنا يتما ويصرخ: أين من عيني هاتيك المجال؟ وتلك ذكريات كلما آويت إليها، كلما ازداد التوحش.
ترى هل يستبد بنا الشوق، أم أن الذاكرة (أَرملة) لا تكتفي بِبكاء واحد وشهقة واحدة؟

 

آراء