كيف أُرثيك يا خليلي؟

 


 

 



mahdi osman [mahdica2001@yahoo.com]
مشهد أول:
الزمان: منتصف عام 1970
المكان: نادي الوطن الرياضي الثقافي الإجتماعي بمدينة النهود (غرب كُردفان)
شاب (أو بالأحرى صبي) نحيل القوام لم يبلغ سن العشرين، يعتلي المنصة بثبات وجُرأة، ويُقدم محاضرةً بعنوان "الوعاء التنظيمي لثورة مايو"، وحينها كان يتحلق حوله صبية في مثل عُمره أو أقل، يجادلونه أيهما أجدى للوطن ولمسيرة التقدم والنماء؛ وحدة القوى الثورية أم وحدة القوى الوطنية؟!، بينما وقف نفرُ آخر، لا يخفون ضجرهم وتبرمهم من هذه البدعة وهذا المفعوص الذي أضاع عليهم وقتهم وحرمهم من لعب الوست و(السيك) والكونكان و (جر الخمسين)!!.
بعد إنفضاض السامر وإنتهاء المُحاضرة ذهبنا إلى كُشك زنك بجوار نادي السلام، والذي أسميناه تنطعاً "كافتريا الطليعة" وخط يافطته الفنان المُبدع/ إبراهيم السنوسي، الذي رحل عنا وهو في شرخ الشباب وفي عامه الأخير بكُلية الآداب، جامعة الخرطوم. تواصل حوارنا بالكُشك (الكافتيريا) ونحن نستمع بإندهاش وإنبهار للحلفاوي القادم من البندر وأقصى الشمال يُحدثنا عن الإشتراكية العلمية والرجعية والثورة الشعبية والبرجوازية الصغيرة، ويُفتِح مداركنا على عوالم مجهولة.
مشهد ثاني:
الزمان: نهار جُمعة من نوفمبر 1971
المكان: مدرسة خورطقت الثانوية
مجموعة من الطُلاب جالسين يتسامرون (وأنا بينهم) في غرفة رئيس داخلية إسماعيل الولي (الطالب حسن الأمين)، وإذا بنا نرى ناظر المدرسة (المُدير بلغة اليوم) المُربي الفاضل/ أحمد علي نمر "طيب الله ثراه"، ومعه شخص يرتدي حُلة سفاري كنغولية (زي الزعيم التنزاني/ جوليوس نايريري) متوجهان إلى داخلية ود التوم، فعلقت مازحا وقائلاً  "يا بخت الزول الماشي ليهو الناظر شخصياً مع هذا الضيف المُهم، أكيد  سيناوله خمسة جنيه على الأقل"، ولكن وبعد قليل أتانا زميلنا/ هارون الطيب هارون (د. هارون ناظر عموم قبيلة الجوامعة حالياً) وخاطبني قائلاً "يا مهدي الناظر والزول المعاهو قالوا ليك تعال". واتضح أن هذا الزول ما هو إلا مُدير الأمن بشُرطة مدينة الأبيض، وإنه قادم لتفتيشي والقبض علي بتهمة تقويض نظام الحُكم، والإخلال بالأمر الجمهوري الرابع!! (تصوروا قلة عقل العسكر) وبعد التفتيش وسين وجيم، ركبت كومر الشُرطة ولوحت مزهواً للطُلاب الذين خرجوا عن بكرة أبيهم لمُشاهدة الموقف غير المألوف!!. وفيما بعد عرفت أنه تم القبض على صديقي الحلفاوي الذي حاضرنا في نادي الوطن، إذ أنه التحق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم وواصل في مُحاضراته، ولكن بدلاً عن الحديث عن وعاء مايو التنظيمي، أصبح حديثه عن ردتها وإنحرافها، ومن ثم أصبح أمثال صديقي أعداء ألداء لمايو 1969، بعد يوليو 1971، وما أدراك ما يوليو 1971، فبدلاً عن مايو الخلاص أصبحت مايو الرصاص في صدر عريس الحمى وإخوانه، ومنهم خليلنا وخلنا الذي تواصلت مسيرتنا معه بعد أن التحقت بجامعة الخرطوم واتصل حبل الود في فناء جامعة القاهرة الفرع، وإمتداد ناصر (بُري)، إلى أن افترقنا ولم نلتق منذ مُنتصف السبعينيات، إلا في أوائل التسعينيات.
مشهد ثالث: ديسمبر 1993
بورتسودان: سألت عنه حتى عرفت مقر شركته، صعدت سلالم العمارة، ودلفت إلى مكتبه وطلبت من السكرتيرة أن أراه، ولما ألحت في معرفة إسمي وحكايتي، قُلت لها إنني مُتعامل، أُريده لتخليص بضاعة هامة، فقادتني إليه فسلمت عليه، وجلست قبالته وأكثرنا من أهلاً وسهلاً، وعلامات الإحراج باديةً على محياه البشوش وقد وخط الشيب فوديه. راقت لي مسألة أنه لم يعرفني، فطفقت أُثرثر عن "حق الله وبق الله، وسلامات بلا غرض وطيبين بلا مرض"؛ وأخيراً وقعت في المحظور إذ قُلت له أنني علمت أنه ترأس بعثة نادي هلال بورتسودان إلى عروس الرمال، وأجاب بنعم، فسألته كيف وجد عبد الوهاب صالح عبد الوهاب، فقفز من كُرسيه واحتضنني صائحاً: مهدي إسماعيل؟! أكادُ لا أصدق، وبعدها لم نفترق طيلة الأسبوع الذي مكثته في بورتسودان لتخليص عربتي وبعض متعلقاتي الشخصية. وأذكر أن سيولاً إجتاحت المدينة وألحقت أضراراً بمزرعته للدواجن، فذهبنا إليها وتحدثنا وتسامرنا طويلاً وإستعدنا تفاصيل أيام مضت لن ننس ذكراها، فتلك أياماً مضت مرحاً قضيناها.
مشهد رابع خاطف وقصير:
بريتوريا: ناجي مكي (شقيق راشد مكي) يتحادث عبر الهاتف وأنا إلى جواره، فإذا بي وللفُجاءة، أعرف أنه يحُادث خليل ‘ثمان خليل، أخذت منه سماعة الهاتف واستمعت لآخر مرة لخليلي وهو يُمازحني قائلاً "أقرأ مقالاتك في الراكوبة وسودانايل، فأحس بأني عملت حاجة، ولم تضع جهودي معك سُدى".
الختام: قبل أسبوعين (يوم الأثنين الأسود، الموافق 9/9/2013): وأنا في مكتبي أتهيأ لأسبوع عمل جديد، وأبدأ يومي - كما تعودت منذ حين من الدهر - بتصفح بريدي الإلكتروني ثُم مُطالعة الراكوبة وسودانايل، فإذ بي أقرأ ما كتبه/ عبد الله موسى "يا للفجيعة والحُزن الأليم فقد رحل خليل عُثمان خليل".
إلى: ناظم وعصام وسلوى وسميرة ومدينة وعبد الوهاب والراوي وعبدالمنعم حسين ومحمد المحجوب عبد الله، وكافة أصدقاء الزمن الجميل، وكُل الذين عرفوا خليلنا، (وقطعاً أحبوه وأحبهم) أُعزيكم ونفسي، وإنا لله وإنا إليه راجعون وخربانة أُم بنايةً قش "وجالوص".
شهادة على اليمين: أشهد الله أنني استدنت من خليل ما يُعادل مبلغ 750 دولاراً، لا تزال في ذمتي، وقد حاولت مراراً ان أردها إليه فذهبت إلى مكتبه في عمارة الإمارات بالسوق العربي (شركة ديناميك) ولم أجده!!. فيا ناظم عندما ألقاك في الكلاكلة أو بورتسودان أو عندما أحج إلى قبر الخليل برفقتك، لن تحتاج إلى أن تُذكرني يا بُني!!.

بريتوريا الحزينة : مهدي إسماعيل مهدي     
////////////

 

آراء