كيف تفاعل الأدب الفرنسي مع الشرق وأهله؟
د. محمد بدوي مصطفى
28 December, 2011
28 December, 2011
mohamed@badawi.de
لقد كتبت في عدة مقالات سابقة عن قضايا الآداب الغربية وكيفيّة عكسها لصورة المسلم أو الرجل الشرقي، وكما تطرقت أيضا إلى أن فهم هذا التاريخ يعود علينا بمنافع عدة في حياتنا التي نعيشها الآن ومما في ذلك من أخبار في غاية الأهمية لفهم الشعوب بعضها البعض ومعاملتها لبعضها البعض بأدب واحترام.
لقد بدأ الشرق يجد طريقة إلى الأدب الفرنسي كموضوع أدبي بعد عصر النهضة، ونجد الروايات والتراجيديات التي تحمل هذا الاسم تفتقد إلى الصورة الأكزوتيكية الجميلة التي عُرِفت فيما بعد ويرجع ذلك إلى قلة الموارد التاريخية أو الاجتماعية، إذ أن اهتمام الفرنسيين بالرحلات الاستكشافية ما زال في المهد وقتذاك، وظل الأمر على هذا المنوال إلى أن بدأ التفكير الاستعماري يتفشّى في سياستهم الخارجية من أجل تقوية الحكم والنظام بالموارد البشرية والاقتصادية كما كانت الحال في كل الدول المستعمرة. من جهة أخرى انتعشت العلاقات الدبلوماسية ونشط التبادل التجاري وازداد انتشار أخبار الأسفار في الصالونات العلمية ومجالس الأدب التي كان يتردد عليها المستشرقون والأدباء كصالون (مدام سابلير) الذي كان يتردد عليه الأديب الفيلسوف والمستشرق (فرانسو برنيير) ومن الأدباء (جان دولا لافونتين) في القرن السابع عشر – هذا الأخير أدخل في قصصه حديث الحيوانات كما هي الحال في كليلة ودمنة المأخوذة من الأصل الهندي (بنشا تنترا) عبر الترجمة التي أتتنا من فارس كما في قصته "خطيبه ملك الجرب".
إن المتفحص لصورة الشرق في الأدب الفرنسي يجد أنها تختلف خلال القرون الوسطى تماماً عن الصورة التي نجدها في نهاية العصر الكلاسيكي في القرن السابع عشر وبداية العصر الرومنطيقي في القرن الثامن عشر - المعروف بعصر النور. كما أخبرتكم في مقالات سابقة، عرفت القرون الوسطى الصور الوهميَة المشوهة عن الإسلام وعن المسلمين، إذ أن كراهية الشرق والشرقيين وصلت درجة عظمى في قلب الإنسان المسيحي لما تركته الحروب الصليبية من مشاعر عدوانية ضد "المحمديين"، لكن ما أن أشرف القرن الثامن عشر بالبزوغ حتى بدأت حركة تنشد إحياء الشعور الأدبي الفرنسي في التعرّف على العالم الشرقي إلى أن بلغ ذلك الاهتمام قمته في عام ١٧٨٠ حيث توسدت العلوم الشرقية مكاناً مرموقاً بين سائر الدراسات الإنسانية في جامعات فرنسا المختلفة وبمراكز علومها المنتشرة في انحاء الجمهورية إذذاك.
المدهش أن فرنسا لم تعرف الشرق في عهد الملك لويس الرابع عشر فحسب، بل بلغت جذور هذه المعرفة وامتدت لعهد زهيد. فاهتمت به في آدابها منذ الوهلة الأولى، لكنها لم تعرف عنه هذه النكهة الأكزوتيكية التي نشأت متأخرا حتى صارت كلمة شرق مطابقة لكلمة اكزوتزم، عكس الصورة المعتمة والمظلمة التي عرفتها القرون الوسطى الأولى عنه والمتمثلة في صفات مثل: أناس أجلاف ذوو عادات قبيحة، يعبدون إله لا يرقى إلى مقام آلهتهم الخ. إن نظريتي هنا تذهب إلى أن بداية هذا الرأي الذي كان له أعظم الأثر في صورة الإسلام فيما بعد ترجع إلى ما كتبه رجال الدين بغية حماية أتباعهم من الدين الجديد. نحن نعتبر كتابات (الآب بطرس المدعو بالمبجل) لها دور كبير في ترويج هذه الأساطير، ويقول الباحث الفرنسي (بيير مارتينو)، إن "أملح وألطف" الصفات التي عرفها الأدب الفرنسي والرأي العام عن الإنسان العربي هي (الحقارة المطلقة) والتي بدت في صفات ك: (كريه، شنيع، ممقوت، بغيض)، وكان الرسول محمد (ص) قد وصف في كتابهم بأبشع الألقاب التي تضعه موضع من امتلك الشيطان نواصي عقله وكمحارب دنيء يرتكب أبشع الحقائر، كما هي الحال في (أغنية رولان) المكتوبة في القرن الثالث عشر من قبل (الكس دو بون)؛ ونجد صفات مثل المذكورة أعلاه من بين مجموعة صفات خرافية كثيرة كانت تُلقى في المحافل العامة لتحقير المسلمين ورفع شأن المسيحين مثل كتاب (قانون العرب) الذي كتب في القرن الرابع عشر. لكن لماذا لم يعكس الأدب الغربي الفرنسي صورة خيالية بديعة عن الشرق وأهله وعاداته كما حدث في العصر الرومنطيقي وفي عصر النهضة؟ وهناك أسباب عدة نذكر منها أن غزو إسبانيا وصقَلية كان يعني لفترة من الزمن تواجداً إسلامياً على أطراف العالم المسيحي اللاتيني، غير أنه في حد ذاته لم يكن يسبب ذلك خطراً ملحاً يستدعي رد فعل قوي، لذلك فقد كان للحركات الصليبية في ختام القرن الحادي عشر رد فعل نشط لمواجهة الإسلام، بيد أن مركز هذه الحركة كان في شمال فرنسا، بعيداً عن أي اتصال مباشر بالدولة الإسلامية
سوف نتحدث في المقال القادم عن نماذج أدبية عالجت بين صفحاتها الشرق والإسلام لا سيما تراجيدية محمد للكاتب فولتير.