كيف دمّر نظام الإنقاذ الدولة السودانية، وقوّض مؤسساتها، وأجهض مستقبلها.. (دروس للمرحلة الانتقالية وما بعدها)

 


 

 

ما نراه الآن من حاضر قاتم ومستقبل مظلم في السودان، بانهيار (بل غياب تام) للدولة ومؤسساتها وأنظمتها، وقدرتها على القيام بأبسط واجباتها، نتاج طبيعي وحتمي ومباشر لثلاثة عقود من حكم الجبهة القومية الإسلامية/المؤتمر الوطني/المؤتمر الشعبي ومن لفّ لفّهم، وتعلق بركابهم، وأكل من فتاتهم، وحكم جنرالات اللجنة الأمنية لعمر البشير وحلفائهم في الدعم السريع و"الحركات" المسلحة والفلول الذين واصلوا في همة عجيبة هدم ما تبقى من الدولة ومؤسساتها واقتصادها وأمنها ونسيجها الاجتماعي، مستخدمين أبشع أصناف العنف والتدليس، ومواصلين استباحة موارد البلاد، وناسخين كل إنجازات الشهور الأولى لثورة ديسمبر.
إذن، كيف دمّر نظام الإنقاذ الدولة السودانية وقوّض مؤسساتها، وأجهض مستقبلها، واوصلها إلى هذا الدرك السحيق الذي جعل الناس في السودان يفقدون الأمل والعشم ليس فقط في عودة لوضع طبيعي، بل في بقاء السودان كدولة موحدة ذات سيادة على أرضها وثرواتها ومكانتها في محيطها الإقليمي والعالمي.
باختصار (إذ ليس ثمة مجال للتطويل في هذه الظروف)، فيما يلي بعض ما قام به النظام سعيا نحو تدمير الدولة السودانية:
1. لعل أخطر ما قام به النظام، طواعية وبقدر هائل من عدم المسؤولية، هو فك احتكار امتلاك واستخدام الدولة للعنف المشروع (من خلال أجهزة الأمن وإنفاذ القانون)، وهو السمة الوحيدة التي تُميز الدولة عن سائر التنظيمات البشرية الأخرى. فقد أنشأ النظام، وموّل، ودعم، وسلّح المليشيات و"الكتائب" الحزبية والقبلية، وأخطرها ما يُسمى بالدعم السريع (الجنجويد سابقا) الذي استن له النظام قانونا يجعله قوة عسكرية موازية للقوات المسلحة السودانية لكنها لا تخضع في الواقع لأي سلطة عسكرية أو مدنية، ولا تخضع لأي مساءلة. بذلك "خلق" النظام (فرانكنشتاينه) ثم فشل في السيطرة عليه، وأخرج ماردا من قمقمه ثم اكتشف صعوبة (أو الأحرى استحالة) إرجاعه للقمقم. وما نراه من فوضى لا تُصدق، من إضعاف لقومية القوات النظامية، وانفراط في حبل الأمن، وتعدد "للرؤوس" ومصادر القرار، وانتشار السلاح الثقيل والاليات العسكرية، والصراعات القبلية المسلحة، بعضا من نتائج هذا القرار الكارثي.
2. القرار الخطير الثاني الذي اتخذه نظام (الإنقاذ) هو انهاء ولاية وزارة المالية على المال العام التي تشمل تحصيل وجمع كل الإيرادات، وتخصيص جميع المنصرفات وفق قوانين ولوائح محددة، وميزانيات مفصلة ومجازة؛ واعتماد ما أسموه بالاستقلالية المالية لكل وزارة ووحدة حكومية أو عامة، مما فتح الباب على مصراعيه لاستغلال النفوذ والفساد لاستباحة المال العام، والالتفاف حول القوانين المالية والمحاسبية للحكومة، وتجاهل قوانين ولوائح التعاقد والمشتريات المؤسسية وغير ذلك من نتائج انهاء ولاية وزارة المالية على المال العام. ولعل أبرز وأخطر نتائج تلك السياسة، مثلا، “اختفاء" إيرادات صادرات النفط السوداني التي تُقدر ما بين 50 إلى 80 مليار دولار، وإيرادات صادرات الذهب الآخذة في الازدياد، و"اختفاء" قروض ومنح إقليمية دولية سيبقى على أجيال السودان المقبلة سداد ديونها، وانتهاء "قدسية" الميزانية العامة للحكومة، واستحواذ كل وزارة أو هيئة حكومية بمعظم إيراداتها لاستخدامها في بناء الأندية الفاخرة، وتضخيم مرتبات ومعاشات منسوبيها، وتزويدهم بالمواد التموينية وخرفان الأضحية، والاحتفالات والمآدب وغير ذلك من أوجه الصرف البذخي المخالفة للقوانين المالية، في وقت تم فيه، ليس فقط إهمال القطاعات الإنتاجية والمنتجين، بل خنقها وتعويق مسيرتها بالضرائب والمكوس، وتغيير السياسات، والفساد الإداري والمالي.
3. تبع ذلك إنهاء سلطة الدولة على الرقابة، وضبط المشتريات، وتوحيد مركبات الحكومة، وترشيد الأشغال العامة، وذلك بإلغاء مصلحة النقل الميكانيكي (والتي كان لها سلطة اختيار وشراء وصيانة جميع مركبات الحكومة عبر وحداتها وورشها في جميع انحاء السودان)، ووزارة الأشغال (التي كانت مكلفة بتصميم وبناء وصيانة جميع المباني الحكومية في جميع أنحاء السودان)، وإلغاء مصلحة المخازن والمهمات (المكلفة بتزويد جميع الجهات الحكومية والعامة بالأثاثات، والمعدات، والأزياء وكافة والمستلزمات، بما في ذلك أثاثات المكاتب والمدارس والمستشفيات، وفق أسس وأنظمة ومعايير معلومة، وتوزيعها في مختلف مناطق السودان). وقد أدى إلغاء هذه المؤسسات، وإلغاء ما تقوم به من مهام لا غنى عنها لتسيير وترشيد عمل الحكومات، إلى فوضى عارمة وفساد شامل باللجوء للقطاع الخاص (أي شركات منسوبي الجبهة الإسلامية وأسرهم ومن والاهم) للقيام بهذه المهام وما يعنيه ذلك من تجاهل للوائح والقوانين المالية الصارمة، وافساح المجال لفساد وإفساد عظيمين يمكن رؤيتهما بالعين المجردة: شراء الدولة لكل أنواع السيارات الفاخرة من جميع الماركات، وانتشار الورش الخاصة (والفواتير المتضخمة) لصيانة مركبات الحكومة (لغياب مصلحة النقل الميكانيكي وورشها)، وانتشار محلات بيع الأثاثات والمستلزمات المكتبية في كل ركن من أركان البلاد (بفواتيرها المتضخمة وذوقها السقيم)، وانتشار المباني الرسمية التي تُجافي الاعتبارات البيئية والهندسية والاقتصادية، والحس الجمالي، واعتبارات الطقس في السودان، واستخدام مواد البناء المستوردة، والتكلفة المتضخمة بسبب الفساد الإداري والمالي (لغياب دور وزارة الأشغال). وانظر حولك في الخرطوم وعواصم الولايات لترى المباني المسخ المُشيدة من الزجاج والمجلدة بالبلاستيك (في جو السودان المعروف) الناتجة عن إلغاء وزارة الأشغال ومهامها.
4. تبع إنهاء ولاية المالية على المال العام نتائج كارثية على سيطرة الوزارة (والحكومة) على المال العام، أدخلت تشوهات في الاقتصاد الوطني من الصعب تصحيحها لسنوات طويلة، ومنها "خدعة" التحرير الاقتصادي، و"بدعة" ديوان الزكاة الذي استحال إلى مؤسسة لا صلة لها بشعيرة الزكاة المفروضة على المسلمين: جهاز تستخدمه سلطة الدولة للجباية القسرية والعشوائية للزكاة، وصرف مليارات الجنيهات على "العاملين عليها" وعلى منسوبيها، وعلى مقارها الفاخرة، ورمي الفتات للفقراء والمساكين وباقي المصارف الشرعية، بعيدا عن أي رقابة من وزارة المالية أو أي جهة رقابية أخرى. وقد رافقت هذه الاستباحة للمال العام "بدعة" أخرى هي تكوين المئات مما يُسمي "المنظمات الطوعية/الخيرية" "العالمية" والمحلية الوهمية، ومنظمات "المجتمع المدني"، التي يمتلكها رجال (ونساء) الصف الأول والثاني والثالث للمؤتمر الوطني/الجبهة الإسلامية وأسرهم واصهارهم، والتي يأتي تمويلها من المال العام ومن "دم" دافع الضرائب، ولها امتيازات وحصانات لا تتمتع بها المنظمات الدولية، وجميعها تتخذ اسماءً "إسلامية" غطاء للولوغ في المال العام دون رقيب أو حسيب أو وازع.
5. أكمل النظام تدميره للاقتصاد الوطني باعتماد سياسة "التحرير الاقتصادي" الذي لا هو "تحرير" ولا هو "اقتصادي"، والذي يعني فقط افساح المجال للرأسمالية "الإسلامية" الطفيلية المتوحشة لتنمو مثل نباتات الظل السامة في كنف وحماية الدولة والتي لا صلة لأنشطتها الاقتصادية بالاقتصاد الحر الذي يقوم على مساواة الجميع أمام القانون وعلى المنافسة الشريفة. ولعل أخطر ما قام به النظام في هذا المجال خدعة "الخصخصة" التي استطاع نظام الإنقاذ من خلالها بيع المؤسسات العامة الناجحة لمنسوبيه، وعلى رأسها دار الهاتف، بثمن بخس يقل عن تكلفة أسلاك النحاس الممتدة عبر السودان، ناهيك عن عقارات دار الهاتف التي تحتل مواقع استراتيجية في العاصمة والولايات، وكافة الأصول المملوكة لدار الهاتف، ونصيبها من المكالمات الخارجية، في نفس الوقت الذي واصلت دول الجوار الأهم (مصر وإثيوبيا) على حرص الدولة على ملكية القطاع العام لشركات الاتصال (وخدمات البريد) علما بالدور الاقتصادي (والمربح) الهام لهذه الشركات في ظل الثورة الرقمية والشيوع الهائل لاستخدام الهواتف النقالة والإنترنت. كما أقدم النظام على بيع أصول مشروع الجزيرة من آليات ومحالج ومباني، وبيع بواخر الخطوط البحرية السودانية "خردة"، وتدمير الخطوط الجوية السودانية وإحلال شركات الطيران الخاصة المملوكة لأجهزة الأمن ولمنسوبي الجبهة القومية الإسلامية مكانها، وبيع عقارات وأصول النقل الميكانيكي، وأصول وأراضي النقل النهري الموجودة في أثمن أراضي مدينة الخرطوم، و"تشليع" مشروع الجزيرة وبيع أصوله وآلياته وعقاراته (بما في ذلك آليات الري الضخمة والمحالج وحتى قضبان سكك حديد الجزيرة، وسيلة النقل الوحيدة والاقتصادية لنقل المدخلات والمنتجات)، وغير ذلك مما لا يُحصى.
6. ثم جاءت الضربة القاضية للاقتصاد السوداني بسيطرة القوات المسلحة وجهاز الأمن والشرطة على مفاصل الاقتصاد ودخول القوات النظامية في قطاعاته الرئيسية بما في ذلك مؤسسات القطاع العام المربحة، والصناعة، والتعدين، والصناعات التحويلية، والنقل، وفي التعليم التجاري الخاص، والعلاج التجاري الحاص، وعشرات الأنشطة الاقتصادية دون رقابة أو مراجعة أو شفافية، أو فائدة للخزينة العامة مما شوّه بنية الاقتصاد، وأهدر موارد الدولة، وخنق القطاع الخاص، وجعل القوات النظامية دولة داخل الدولة ولكنها دولة يحميها السلاح الذي اشتراه دافع الضرائب.
7. ثم أقدم النظام على تنفيذ أحد أخطر قراراته المُدمرة التي قضت بفصل عشرات الآلاف من العاملين بالدولة في مختلف المرافق بما في ذلك الوزارات السيادية والخدمية، والجامعات والمعاهد العليا، والقوات النظامية (القوات المسلحة والأمن والشرطة)؛ ومن مختلف الدرجات الوظيفية والرتب، وبغض النظر عن مؤهلاتهم واحتياج جهاز الدولة والبلاد لخبراتهم، وللمبالغ الطائلة التي أنفقها دافع الضرائب في تدريبهم وتأهيلهم وتزويدهم بالخبرات، ودون تمحيص أو تردد، وبدون ابداء أي أسباب – كل ذلك بدعوى "الصالح العام" والصحيح هو "الضرر العام والعميق" الذي سيحتاج لجيل أو جيلين لإصلاحه (والدليل ما نراه من انهيار لمقدرة جهاز الدولة على القيام بأبسط واجباته من التخلص من النفايات إلى حماية المواطن من الجريمة والعنف في عاصمة البلاد، ناهيك عن أطرافها، والحفاظ على الأمن القومي). ولم يكتف النظام بجريمته في حرمان البلاد من مواردها البشرية، بل أكمل "جميله" بتعيين منسوبيه في الوظائف التي شغرت ومعظم من عينهم من فاقدي التأهيل، والخبرة، والأمانة، والحس الوطني، والحياء!
هذا نذر يسير من التركة المرعبة التي أورثنا إياها نظام الإنقاذ ولا أعتقد أن المجال يتسع لحصر ما قام به النظام من جرائم ترقى لمصاف الخيانة العظمى في حق هذا البلد وأهله، ومنها، على سبيل المثال، تقويض حكم القانون، وتدمير النظام القضائي بتسييسه وتعيين القضاة الحزبيين أو فاقدي المعرفة والخبرة والتأهيل والأمانة (وعلى رأسهم رئيس للقضاء لم يدرس أو يُمارس القانون المدني أو الجنائي لساعة واحدة)، وتدمير النظام المصرفي ببدعة "المصارف الإسلامية" التي تنشط في أسوأ أنواع الربا واستباحة أموال المودعين دون رقابة تُذكر من البنك المركزي، وتدمير التعليم النظامي (واحلال "التجهيل المنظم" مكانه)، وافراغ التعليم العالي من محتواه، وإحالة التعليم مجالا يمرح فيه القطاع الخاص ولا يطيقه إلا الأغنياء، وتدمير النظام الصحي وتسليعه بخروج الدولة من مجال تقديم الرعاية الصحية وتسليم المهمة للقطاع الخاص المتوحش دون رقابة (في بلاد كان فيها التعليم والعلاج مجانيا)، وتشويه سمعة البلاد بسياسات داخلية وخارجية فاسدة جعلت السودان كالأجرب في محيطيه العربي والأفريقي وفي العالم أجمع، وفوق هذا وذاك ما فعلوه بالقيم السودانية (والإسلامية) السمحة، بل بالقيم الإنسانية، بجعلهم امتلاك المال (بأي وسيلة) مقياسا للنجاح الاجتماعي والقبول المجتمعي، وتحليل الكذب وسرقة المال العام، واستخدام التعذيب الممنهج والحبس دون مخول في ملاحقة مخالفيهم في الرأي، واجتلاب المخدرات لتغييب شباب الأمة حتى لا يثور ضد ظلمهم وطغيانهم، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لحصره، وفي قلبه ما فعلوه بالإسلام الذي حكموا باسمه وارتكبوا كل ما نهى عنه.
لخص حكيمنا وضمير أمتنا الطيب صالح، ببصيرته النافذة، هؤلاء القوم في صفحته المشهورة في بدايات عهدهم المشؤوم بقوله:
" وجدوا شعبا حسن الإسلام، فآلوا على أنفسهم أن ينزلوا عليه الإسلام من جديد؛ وجدوا أمة كريمة أبيّة متراحمة فأهانوا كرامتها، وجرحوا كبرياءها، ومزقوا شملها. وجدوا شعبا صابرا راضيا بقسمته، يعيش مستورا ولو على الكفاف، ولكنه يعمل ويكدح وتتحسن أحواله عاما بعد عام، فأذاقوه وبال الجوع والهون، كي يقولوا إن الشعب كان جائعا قبلهم، وإنهم هم من جاءوه بالمن والسلوى. وجدوا دولة ذات هيبة، تنصر الأخ وترعى حقوق الجار ويحسب حسابها الأمم، فحولوها إلى دولة تافهة لا يُقام لها وزن، لا تنصر مظلوما ولا تردع ظالما".
وانظر وصف يس عمر الإمام (شاهد من أهلها وأحد قادة الحركة) فيما آل إليه حكم جماعته حين قال في آخر أيامه حين أنار الله بصيرته بعد طول عمى:
"الحركة الإسلامية دخلت السلطة وخرجت مُضعضعة وفيها فساد شديد وفيها ظلم وأدت مفاهيم معاكسة للقيم التي تحملها للناس. وزارني بعض الإخوان بالمنزل وكان من ضمنهم حسن الترابي وقلت لهم بأنني أخجل أن أحدث الناس عن الإسلام في المسجد الذي يُجاورني بسبب الظلم والفساد الذي أراه، وقلت لهم بأنني لا أستطيع أن أقول لأحفادي انضموا للإخوان المسلمين لأنهم يرون الظلم الواقع على أهلهم، فلذلك الواحد بيخجل يدعو زول للإسلام في السودان؛ أنا غايتو بخجل!"
يبقى السؤال المُلح الذي لا بد من البحث عن إجابة له: لماذا قامت الجبهة القومية الإسلامية (في جلودها المتعددة والمُخاتلة) بكل هذا التدمير الممنهج والمتواصل للسودان، واتباع وسياسة "الأرض المحروقة" ضد البلاد وثرواتها البشرية والطبيعية، ولحاضرها ومستقبلها؟ وما هي "الغبينة" الدفينة التي لا تبرد ضد البلاد وشعبها التي دفعت هذا التنظيم الغريب للتنكيل بهذا البلد الطيب الذي أفسح لهم حرية العمل السياسي (والاقتصادي) في وقت قمعت فيه أنظمة المنطقة التنظيمات المماثلة؟ ولماذا أرادوا قتل الدجاجة التي تضع البيض الذهبي لهم وقد أخبرونا أنهم سيحكمون السودان لحين ظهور السيد المسيح؟ ولماذا سرقوا من المال العام مما يفيض عن حاجتهم ويُشبع "زلعتهم"، وأبدلوا هذه الموارد ديونا لا سبيل لسدادها، ولماذا الإصرار على اللؤم والبشاعة والوحشية في معاملة النساء ومخالفيهم في الرأي، والمحايدين، وحتى (إخوانهم) في التنظيم، لدرجة الإذلال، وقطع الأرزاق والأعناق، والاعتقال طويل الأجل في ظروف غير إنسانية، والاختفاء القسري، والتصفية الجسدية، وغرز المسامير في رؤوس المعارضين (وبعضهم من زملاء الدراسة والعمل والجيرة)، ودفن بعضهم أحياء في قبور مجهولة المكان أو رميهم في النيل؟؟
أترك الإجابة على هذا السؤال الهام للمختصين في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي لأن الأمر يتصل، في رأيي، بمرض نفسي عُضال يتطلب الاهتمام من الجميع.
والآن، وقد تجاوز السودان "مفترق الطرق" وبدأ في الانزلاق نحو هاوية لا قرار لها نتيجة لتهتك بنيان الدولة، وانهيار حكم القانون، وتعدد الجيوش والمليشيات، وانفراط عقد الأمن، وتفسخ النسيج الاجتماعي، والعودة لقبلية "مصنوعة"، وانهيار اقتصادي وضع أكثر من 90 بالمئة من سكان السودان تحت خط الفقر (بينما ازدادت فئة قليلة ثراءً فاحشا)، الدرس الوحيد الذي يتوجب على الجميع استخلاصه من التركة المُثقلة والدمار المتعمد (مع سبق الإصرار والترصد والتشفي) التي خلّفتها ثلاثة عقود من حكم الجبهة الإسلامية، وثلاثة سنوات من التخبط والشد والجذب والفوضى من حكم شراكة الغفلة بين المدنيين والعسكريين في الظاهر (والفلول وراء الستار)، هو التيقن من أنه لن يتيسر لحكومة "التسوية"، إن رأت النور، أو أي حكومة أخرى منتخبة أو مفروضة بالقوة، أن تُنقذ البلاد، وتصلح حالها، وتُعيد حكم القانون والعدالة، وتبسط السلام والحريات، وترحم الشعب الذي عانى طويلا من الفقر والمذلة والهوان، إلا إذا جعلت على رأس أولوياتها مواجهة ذلك الخراب العميق الذي طال جميع أوجه الحياة في السودان، وإعادة بناء بنية الدولة والمجتمع والاقتصاد.
وختاما، يبدو المستقبل مظلما، ولا نرى في الأفق ما يدل على أن اللاعبين في الساحة السياسية مدركين حق الإدراك خطورة التركة التي ورثوها من حكم الإنقاذ، أو العزم الأكيد والمقدرة اللازمة لإصلاح ما تم تمديره. ولكننا لا نملك إلا أن نتفاءل خيرا وأن نتعلق بأهداب الأمل والعشم في الطاقة الجبارة والخلاقة لشباب السودان الذي كان له الفضل في اقتلاع نظام الإنقاذ وفي إبقاء جذوة الثورة مشتعلة رغم الأعاصير.
نسأل الله السلامة!

27 ديسمبر 2022

aelhassan@gmail.com

 

آراء