كيف زادت المحكمة الجنائية شعبية البشير؟ … بقلم: د. محمد وقيع الله
د. محمد وقيع الله
12 March, 2009
12 March, 2009
عندما يخفق الأمريكيون في فهم الشعوب
waqialla1234@yahoo.com
النماذج التحليلية لأقدار القوة النسبية التي تملكها مختلف الدول، وما يستتبع ذلك من تكوين علاقات الدول ببعضها البعض، أي ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الدولة القوية، أو الأقوى، بالدول الأضعف، تفترض أن هذه العلاقة ينبغي أن تكون علاقة ضغط مستمر من أجل إضعاف قدرت الضعيف، وزيادة أقدار القوة التي يحوزها القوي إلى أقصى حد ممكن
Maximization of Power
وهذا أسلوب تحليلي جامد يقيس أقدار القوة الخشنة دون الناعمة. أي أنه يركز على حساب الامكانات الاقتصادية والعسكرية، ويتجاهل الطاقات الروحية والثقافية والقومية للشعوب، بدعوى أنها لا يمكن أن تقاس بمعيار كمي دقيق.
وهكذا يتجاهل المحللون السياسيون الأمريكيون الذين يعتمدون على هذا الأسلوب التحليلي الجامد، حساب هذه القوى المعنوية، بالرغم من أنها قد تشكل الجانب البارز أو الأبرز من امكانات البلاد المضطهدة، وكثيرا ما تكون هي القوى والطاقات والذخائر التي تعتمد عليها البلاد المضطهدة بشكل أساسي في مقاومة ضغوط القوى العظمى.
الغطرسة ليست السبب:
ومع أن المرء لا يبرئ السياسيين الأمريكيين من داء الغطرسة والغرور. ولكن هذا العامل ليس مسؤولا وحده عن توجيه السياسة الخارجية الأمريكية تلقاء تلك الوجهة الضالة، فالمسؤول الأول عن ذلك الضلال المنهجي المنظم هو هذا النموذج التحليلي العلمي (أو العلموي إن شئت مخالفة قانون الصرف!) الذي يدعوهم إلى التركيز على بعض أنماط القوى التي يسهل قياسها وتجاهل القوى التي يصعب قياسها.
وقد طال العهد باتباع هذا النمط التحليلي في حساب القوة النسبية في دوائر اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، وأدى بهم إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء القاتلة.
وهي أخطاء أملاها عليهم هذا الضرب من العلم المغشوش، الذي لا زالوا يعتمدون عليه بإصرار لا يشبه إلا إصرار أرباب الخرافات على خرافاتهم. ومن قبل ذكر فيلسوف العلوم توماس كون أن مناهج البحث العلمي تحتوي على الكثير الخرافات العجيبة التي يتواطأ على قبولها والإيمان بها كبار العلماء!
صدام أستاذي:
وإن أنس لا أنس لحظة ذلك الارتطام الحاد العنيف المفاجئ الذي وقع بين اثنين من أساتذتي أثناء مناقشة أطروحتي للدكتوراه، التي كان تركيزها على السياسة الخارجية الصينية، وهو ارتطام خشيت على نفسي عواقبه، لأنه كان سيعقد الأمور على نحو لا يخلو من حرج.
كان الارتطام في حقيقته بين مدرستين، أو أسلوبين مختلفين في التفكير. وربما جاز أن يقال إنه كان بين جيلين من أساتذة العلوم السياسية. الجيل الأول القديم: الذي يعتمد على البصيرة وتحليل دروس التاريخ والاجتماع البشري.
والجيل الثاني الحديث: الذي يكاد الآن يحتل بالكامل كراسي الأستاذية في أقسام العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية، وهو جيل من العلماء الذين يعتمدون على نماذج رياضية تحليلية رياضية جامدة، ويسلمون أنفسهم إلى أي استنتاجات تسفر عنها تلك التحليلات، ومنها النموذج التحليلي الذي تحدثنا عنه قبل قليل.
الاستنتاجات شبه الميكانيكية:
والقول الذي وجهه أستاذي المشرف إلى ذلك الأستاذ الشاب كان هجوما مستفزا ومسيئا، إلا أنه كان صحيحا. وهو أن الاستنتاجات شبه الميكانيكية التي دأب أساتذة الجيل الجديد على الخروج بها، وتقديمها في شكل استشارات لصناع القرار، هي السبب الأساسي وراء اخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية وتخبطها الذي أصبح مضرب الأمثال.
صاغ أستاذي هذا الاتهام في مواجهة نماذج التفكير الاقتصادية والاستراتيجية الضيقة التي تواجه بها أمريكا الصين، من دون أن تراعي أنها تتعامل مع دولة أعرق منها في التاريخ والحضارة وعدد السكان. وهي كلها اعتبارات مهمة في التعامل، ولكن يلغيها أصحاب التحليل الاقتصادي الاستراتيجي الضيق، الذي يلخص الأمر في معادلات حسابية، يركنون إلى نتائجها، من دونما نظر أو بحث في مجريات الماضي، وتأثيره في حياة الشعوب.
وفي الحقيقة فإني كنت متفقا مع رأي أستاذي القديم هذا وإن لم استمده منه، وقد عبرت عنه أثناء النقاش عندما وازنت بين الأسلوب الذي تتعامل به كل من الولايات المتحدة واليابان مع الصين.
حينها قلت إن اليابان تتعامل مع الصين بأسلوب لائق محترم، وتراعي حساسيات كثيرة خلال التعامل معها، لأنها تفهم تاريخها وواقعا الاجتماعي. أما الولايات المتحدة فهي لا تؤمن إلا بسياسة الاستفزاز والابتزاز واللعب على الأعصاب والإرهاب وإيقاع العقاب، وهو ما لا يجدي على المدى الطويل في التعامل مع الصين، بل يثير أشد ردود الفعل من الشعب الصيني وقيادته على السواء.
وربما كان إبدائي لهذا الرأي أمام لجنة المناقشة، هوما حفز أستاذي إلى التعقيب عليه، وتسديد النقد العنيف لأستاذ الجيل الجديد، وهو الآخر أستاذي، وقد درست عليه مواد كثيرة، واستفدت منه أكثر مما استفدت من أي أستاذ آخر، ولكني لم أوافق قط على مناهج البحث العلمي التي يتبناها، ويظن أنها مناهج علمية صحيحة، تماما كما هي مناهج البحث المستخدمة في علمي الأحياء والكيمياء.
جريرة ماكنمارا:
هذا الجيل الجديد من علماء السياسة هوإلى حد ما من إنتاج الدكتور روبرت ماكنمارا، مدير البنك الدولي الأسبق، الذي جيئ به ليتولى وزارة الدفاع الأمريكية لمدة ثمانية سنوات، خاضت فيها أمريكا أعنف وأقسى معارك حرب فيتنام.
وقد شجع الدكتور ماكنمارا هؤلاء العلماء على تبني أساليب التحليل الرياضي، في مراكز البحوث الاستراتيجية وأقسام العلوم السياسية، وخصص المكافآت المغرية لمن ينخرطون في هذا الضرب من الدراسات السياسية، التي تقتفي المنهج التحليلي، ويقدمون له الاستشارات والخطط، التي ينبغي أن تتبع من أجل القضاء على المقاومين الفيتناميين.
وقد استمعت قبل نحو عشر سنوات إلى مكانمارا أكثر من مرة وهو يتحدث في لقاءات تلفازية عن تجربته العلمية والسياسية، وأسباب هزيمته وهزيمة أمته في الحرب الفيتنامية. وفي كل مرة حرص على أن يعرِّف الناس بأبرز أسباب الفشل الأمريكي في التعامل مع المعضل الفيتنامي، وهو فشل الأمة الأمريكية في تقدير قيمة الشعور الوطني القومي الفيتنامي، الذي كان يزداد اشتعالا وتوهجا كلما ازداد الأمريكيون عنفا وضراوة ووحشية في القصف.
ولأن الشعور الوطني القومي الفيتنامي لا يمكن قياسه كميا أو (امبريقيا) كما يقولون، فقد فضل المحللون السياسيون أن يتجاهلوه، ليركزوا على القياس الكمي للقوى الاقتصادية والعسكرية الفيتنامية، وينسبوها إلى القوى الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، ويخرجوا من هذه المناسبة أو الموازنة، باستنتاج ساذج يؤكد حتمية انهزام الفيتناميين واندحارهم في النهاية، وهو الأمر الذي لم يتحقق رغم تكثيف الأمريكيين للقصف واستخدامهم لأبشع أنواع الأسلحة ضد الفيتناميين.
وقد تعرض الدكتةر ماكنمارا إلى أشد النقد عندما اعترف بفشل هذا النموذج التحليلي في هدايته، وهاجمه الناقدون بمثل الهجوم الذي وجهه أستاذي إلى زميله، قائلين له كيف قمت بتعريض حياة عشرات الآلاف من أبناء الشعب للموت، ووضعت المصالح القومية الأمريكية على حافة الخطر، وجلبت الهزيمة المجلجلة للبلاد (ولاحظ أنهم لا يتحدثون عن الأضرار التي يلحقونها هم بالآخرين!) لمجرد تشبثك بهذا الضلال العلمي واعتمادك على هذا الأسلوب التحليلي المعيب؟!
أركان التوبة الأمريكية لم تكتمل:
وقد رد الدكتور مكنمارا مبديا ندمه وأسفه على ما فات. ولكن أركان توبته وتوبة الأمة الأمريكية لم تكتمل. فهذا هذا النمط التحليلي القاصر ما زال نافذا في دوائر اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، بل ازداد الاعتماد عليه في الآونة الأخيرة بعد سقوط نظام القطبية الثنائية. حيث تيسر للأمريكيين ممارسة الضغط على خصومهم، ونبذوا السياسة الحكيمة القديمة التي كانت توصي باستخدام العصا والجزرة معا.
أصبح الأمريكيون يستخدمون العصا وحدها مع الضعيف، وكلما كان خصمهم ضعيفا كلما زادوا في التلويح له بالعصا، واستخدموها ضده في صور متعددة، وأفرطوا في الاستخدام في بعض الأحيان.
وهذا النمط المتطرف من التعامل هو ما يحكم نمط علاقتهم الآن بالسودان. فهذا القطر الضعيف لا علاج له في نظرهم إلا العصا. هذا ما هدتهم وتهديهم إليه أنماط التحليلي السياسي القاصر التي يعتمدون عليها، وهي أنماط لا تفهم شيئا آخر في طبائع السودانيين ونفسياتهم، ولا تخبرهم أن السودانيين هم آخر من يرهبهم التلويح بغلاظ العصي!
ولذلك فعلى الأمريكيين أن يحاولوا أن يتفهموا طبائع السودانيين وطبائع قادتهم بأسلوب آخر، غير هذا الأسلوب التحليلي الجامد، الذي لا يخبرهم أن السودانيين قوم شم الأنوف، وأنه قد ظهر فيهم الكم الضخم من العباد والزهاد، والصوفية والسلفية، وأصحاب النوعات القومية القوية، وأن حكومة الإنقاذ حكومة وطنية شعبية، أن شعبيتها تتزايد كلما تصاعدت ضدها الضغوط الغربية، وأنها حكومة لا ترهب عصا الإرهاب الأمريكية، وأنها حكومة عقلانية، ذات نظرة وسطية واقعية، لا خيالية، وأنها حكومة يمكن التفاهم معها بالأساليب البراغماتية المصلحية، التي تحقق المصالح الأمريكية مثلما تحقق المصالح السودانية.
لا تدعسهم بالحذاء:
ومن ناحية حكومتنا فإن عليها أن تدأب على توصيل رسائل موضوعية هادئة إلى القيادة الأمريكية. بعد أن أكثرت من استخدام اللهجة القوية الأبية إزاء توجه الغربيين لإذلال الأمة السودانية. وقد خاطبهم رئيسنا المشير البشير أخيرا بأغلظ القول وأعنفه، إذ توعد هيئة المحكمة غير المحترمة، وتوعد مدعيها الفاسق، وهم في جملتهم من أبخس عملاء وممثلي ومستخدمي أمريكا والغرب، بأن يستقروا تحت حذائه.
ونحن ندعو رئيسنا البشيرإلى أن يكف عن بذل هذا التحدي الكبير، فحذاؤه أكرم من أن يدنس بلمس هؤلاء الأنجاس الأوغاد.
كما ندعو زعيمنا البشير إلى أن يكون أكثر عقلانية من خصومه. فيقدم لهم الجزرة بعد أن لوح لهم بعصا المناجزة، وتعهد بالرد الحاسم على تآمرهم وإساءتهم على بلادنا الكريمة.
فالمطلوب الآن من قائد أمتنا أن يقدم إلى الأمريكيين الجزرة السودانية الشهية، وهي جزرة النفط ومعادن بلادنا وثرواتها الأخرى، ويدعوهم دعوات مؤكدة بالتكرار الدائب لكي يدخلوا في هذا النعيم الاقتصادي السوداني الحيوي، مستثمرين شرفاء، مثلهم مثل الصينيين، الذين لم نعهد فيهم نزعة إلى التآمر أو الإساءة أو الطغيان أو الاستغلال.