لثمة في ثغر أم درمان: عمي ابراهيم ود الشفيع

 


 

 


rafeibashir@gmail.com

كان في المحطة الاسطى بأم درمان في نهاية الستينات والسبعينات الى مطلع الثمانينات ، يشتهر بأبو الشفيع او ود الشفيع ، كان يملك عربة تاكسي ويقودها بنفسه ، بين المحطة الاسطى في امدرمان وبين احياء أم درمان العتيقة ، ايام كانت امدرمان عاصمة الجمال الشعبي في السودان وكانت مع الخرطوم تمثل جوهرة افريقيا والعالم العربي لا ينازعها في ذلك الا بيروت وقاهرة المعز ، كانت تعتبر عمق الدائرة التي تتجمع فيها امدرمان وتتفرق منها ، وقد شهدناها في اوائل السبعينات تضاهي اعظم محطات المواصلات في العالم ، ألآلاف من عربات التاكسي الصفراء اللجميلة الانيقة النظيفة جدا ، بلونها الاصفر الغامق الجميل ، ترتص في عشرات الصفوف المرتبة تحت مظلة طويلة في المحطة الاسطى ، المكان أنظف من أي مكان في العاصمة اليوم ، شوارع العدني ومكي كانت نظيفة وانيقة ، ويترقرق (الترتر ) على لوحاتها وتنبثق الاضواء الملونة من دواخلها ، معارض الاقمشة والمطاعم ودور السينما ، ونافورة الأزهري أمام البوستة بمرمرها الملون الزاهي الجميل في حوضها منمق بمنمنمات الخزف الصيني الجميل تنبعث من حوفها نافورة مياه ملونة جميلة كان الناس يتحلقون حولها في المقيل وفي الاصيل ، واصوات ساعة البوستة تطلق دقاتها في بترتيب ووقع جميل ، تضيف للمكان رونق وجمال فائقين ، الناس نفسهم ، انيقين راقين، يوفضون لأماكنهم في حضارة واضحة ، من الاحياء المجاورة ، حي مكي وودرو وودنوباوي والعباسية والموردة وحي الضباط .

كانت اوائل السبيعنات بالنسبة لي نقلة شاسعة جدا ، من أصغر القرى الى بهارج المدينة ، والعمارات الطويلة والحضارة الفارقة جدا ، واسلوب الحياة المختلف تماما عن ما نعرف ، كان حضورنا لأم درمان ، البقعة شيء من الاحلام الوردية الجميلة، كنا نأتي للبقعة ونحن طلاب نشتغل بالأعمال الصغيرة جدا ، باليوميات في اعمال البويا والبلاط والنجارة ، والكعوب (صناعة كعوب الاحذية).

كنا نسكن في حي السوق بأم درمان مع الكبار من اخواننا من شبشة الذين سبقونا للحضارة ورأوا النور قبلنا ، بعضهم يعمل في النسيج وبعضهم يدرس في الجامعات وكان أخي يعمل في النجارة وانا احيانا اعمل معه واحيانا اخرى اعمل في اليوميات الظلية.

بعد سنوات انتقلنا من السكن في حي السوق للسكن في حي العرب ، وحي العرب ذلك الحي العتيق ما زال الى كتابة هذه الأحرف يحتفظه ببداوته وبمتحفيته الخاصة الموغلة في الريف السوداني وبود اهله حميميتهم الفريدة المتجذرة في النفوس ، لكنه حي أعتبره ايضا واحدا من الاحياء العبقة بالجمال أعطى وقدم للسودان كثير من الفن والشعر الغنائي والكلمة ، حيث كنا نسكن بجوار الفنانين الجابري وسيد خليفة وميرغني المأمون وسيد عبدالعزيز وكثير من الشعراء والفنانين أعطوا عطاءا أطر وجدان السودانيين بالفن والجمال المكنوف بالأخلاق والحياء والموغل في المعنى البليغ بتورية بليغة نابهة ، فن جميل يبقى محفورا ومنقوشا ، في الوجدان ولا يزال الناس يغرفون من معينه العطاء ويحجيهم من السقوط البلاغي والدلالي والاخلاقي السمج في زمان السقوط .

حي العرب هو الحي المجاور من الناحية الغربية لحي المسالمة ، وحي المسالمة هو حي خاص جدا في الوجدان السوداني وواحد من فسيفساء الهوية السودانية يسكنة الأقباط آل مريم العذراء بجمالهم والوانهم الجميلة الصافية وذوقهم ورشاقتهم وسلامهم الاجتماعي وسماحتهم في الوجوه والقلوب وهو حي يكمل بأهله قوس قزح المكون السوداني ، وحي المسالمة أعطى ايضا السودان في مجال الادب والفن وكان حافزا ودافعا لكثير من الشعراء للتغني بجماله وجمال آرامه وفتياته وجمال اخلاق إنسانه.

واي ما يك ، فإن أجمل لحظاتي هي تلك التي اقضيها في المحطة الاسطى في انتظار عمي ود الشفيع ، ارغب بدهشتي العظيمة ، عربات التاكسي تدخل في هدوء لصفوف المحطة الاسطى ، وأرغب الوجوه النضرة والحركة والشوارع النظيفة الراقية ، واتنقل في المكان حول المحطة الاسطى من معرض لمعرض ، وكنت استمتع جدا بجمال زقاق النقادة ، الثياب والفراد الملونة وانواع الاصباغ وصور العذراء الجميلة المعلقة في الحيطان ، وكنت اندهش من جمال النقادة نفسهم ، وجمال ساكني حي المسالمة وحي السوق ، كانت هذه الوجوه والسحنات تمثل لي بوتقة جميلة من الوجوه النضرة والمدهشة ، والمشحونة بالطيب والسماحة والجمال الأخاذ ، النقادة والاقباط والهنود ، والحلب محترفي الحديد غرب الجزارة الى مداخل حي العرب ، قيل لنا ان هؤلاء الحلب أتوا من أعماق أوروبا وهم الغجر ، البلغار والمجر ، ومع ذلك يطلقون عليهم الحلب ، بمعناها العام الذي يطلقونه على الرجل الأبيض غير الاوروبي (الخواجة ) ، وكان يجب ان نقول لهم الغجر ، حيث اكتشفنا ان لهم ثقافة خاصة وشقاء اجتماعي خاص وذوق خاص وممارسات خاصة جدا تصل لدرجة خدش الحياء السواني ، لا تشبهنا في السودان او في سوريا او حلب .

كنت انوع تعاملي مع المطاعم ، اتناول طعامي الشهي في الافطار في اي مطعم ، والطعام نفسه كان نقلة بالنسبة لي واسعة جدا ، كانت هناك انواع من المطاعم الاجنبية الراقية ، اليونانية والارمينية والبقالات اليمنية والأغريقية والشامية ، كان حلم هؤلاء ايضا هو الاغتراب في السودان وفتح متجر او معرض او مطعم ، الطعام كان شهيا جدا بالنسبة لي ايضا ولا أدري أهي الفوارق في الطهي ونوع الطعام الذي تعودنا عليه في الريف أم انها بدايات التعرف على الاشياء والحياة والحضارة ؟ كانت أشهى الاطعمة لي هي وجبة الافطار بالسمك و (جرح ) العدس ، او الفول ، وباسطة عم بين ودوليب وشاي يوسف الفكي ثم ختم اليوم بدخول دور السينما في ادرمان او الوطنية وكنت مغرمين حينها بالافلام الهندية والعربية الراقية ، لفاتن حمامة وغيرها والتي أطرت فينا احلام الشباب .

كان أجمل مافي لحظاتي تلك وعلى مر الايام ، هي مقابلة عمي ابراهيم كنت وما زلت احمل لهذا الرجل حميمية خاصة جدا وكان يمثل لي المجهول في اعمق معانيه ، مجهول لوالد كنت اسمع عنه في الحكاوي والفزازير ونحن صغار وكان المنى بلقياه يتربع حينها لب احلامي الصغيرة ، فكنت انتظره في المحطة الوسطى وأحلم تماما واتشوق واتطلع لرؤية وجهه الحبيب لكي اتم دائرة الرفاه والسعادة التي استقيها من ذلك الزخم المكاني العتيق الراقي والجميل، المدهش ، والحالم عندي ، جدا ، لأواصل للغد.

 

آراء