لماذا انتصر توكفيل على ماركس وريموند أرون على سارتر؟

 


 

طاهر عمر
11 September, 2023

 

لماذا إختفت أفكار ماركس في وسط النخب الفرنسية و أصبحت فرنسا توكفيلية؟
طرحنا هذه الأسئلة لأن النخب السودانية حتى غير الشيوعيين يظنون و هم على خطاء فادح أن الفكر الاشتراكي و نظام الحزب الواحد هو أقرب الطرق للتنمية كما ذكر الدكتور منصور خالد.
و بالمناسبة مقولة الدكتور منصور خالد رغم تأخرها تجعله يظل من أكثر السودانيين نباهة و تغيره لوجهة نظره تجعله على أقل تقدير يدرك و لو متأخر بأن الطريق الذي سلكه غير صحيح كما رأينا قوله بأن النخب كانت أيام اللوثة الجماعية تظن أن طريق الاشتراكية و الحزب الواحد هو أقرب الطرق الى خلق التنمية في دول العالم الثالث.
و هنا يظهر لك مجهود قاصري النظر من أتباع الحزب الشيوعي السوداني و هلوستهم عما يعرف بدولة ما بعد الاستعمار و في الحقيقة كلهم يمتاز عليهم الدكتور منصور خالد بأنه إنتبه بأن طريق الاشتراكية و الحزب الواحد ما هو إلا شرعنة لنظم الحكم و أنظمة الشمولية و هي لا تسلك الطريق الصحيح الى تغير المجتمع نحو اقتصاد الرفاة بل تكون أكبر تجمع للريادات الوطنية غير الواعية التي قد أوردت السودان الى موارد الهلاك.
ذكرنا منصور خالد و مقولته الخالدة لأنه يذكرنا بريموند أرون في فرنسا و لكن الفرق بين منصور خالد و ريموند أرون أن الأخير إنتبه منذ زمن مبكر أي منذ عام 1929 و هذا تاريخ بداية الكساد الاقتصادي العظيم أن هناك تمفصل للزمن أي أن فلسفة التاريخ التقليدية قد بدأت أشعة غروبها و ينبغي ترقب أشعة شروق فلسفة التاريخ الحديثة.
و لهذا السبب نجد أرون قد بدأ بحوثه عام 1930 و عندما جاء عام 1955 كان مستعد من ناحية الفكر لمنازلة الفكر الشيوعي و هذا قبل استقلال السودان و في زمن تكاد تكون كل نخب العالم تظن أن الشيوعية نظام فكر متكامل و لا يمكن الانتصار عليه من قبل فكر ليبرالي رميم. و من هنا تظهر عبقرية ريموند أرون في ظل إتفاق شبه كامل من أغلب النخب بأن الشيوعية نظرية متكاملة و لا يمكن تخطيها كما قال سارتر بأن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه و لكن مع مفكر و فيلسوف مثل ريموند أرون لا شئ مستحيل.
لهذا وصف بأنه أي ريموند أرون بانه كان الأخلاقي الوحيد في مواجهة الأيدويولوجيين. مسيرة ريموند و عبر مجهوده الفكري ترشدنا لشئ مهم أن الشخصيات التاريخية يندر ظهورها و لكنها تستطيع ترجيح الكفة و التغلب على فكر القطيع مثلا أرون في ظل ظروف اعتقاد أن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه كما قال سارتر لم تسد أمامه أفق التفكير بل كان يدرك أن المهمة التي يجب أن ينجزها مهمة شاقة و هائلة.
كانت جهوده الفكرية واسعة و إنتاجه قد جعله من أكثر النخب الفرنسية إنتاج للمعنى لأنه كما وصف بأنه لم ينخدع بماركسية ماركس و كانت كتبه و منها أفيون المثقفين من أجود ما كتب و هو ملئ بالثقة في أنه لا محالة منتصر و بفضله قد أصبحت فرنسا توكفيلية و قد إختفت فيها ماركسية ماركس. و بالمناسبة إحتلفت فرنسا قبل أيام بمرور ستة عقود على كتابه ماركسية ماركس و أكثر منها في جهده في ثمانية عشر درس في تشريح العلاقة بين الدول الليبرالية و الاتحاد السوفيتي و الاثنين تعتبر دول صناعية.
و عظمة ريموند أرون لأنه كان واحد ضد الكل في زمن كانت أغلب نخب العالم تظن بأن الشيوعية أفق لا يمكن تجاوزه إلا أنه كان كشخصية تاريخية يدرك بأن الأغلبية تقف في صف العقل الجمعي الكاسد و لهذا كان دوره تجاوز هذا الخطاء الفادح و من هنا تظهر عظمة عباقرة الرجال.
إختيارنا لريموند أرون و الكتابة عنه هي محاولة لتوطين فكره في مكتبتنا السودانية التي ما زالت أغلب نخبها منخدعة بفكر أتباع اليسار المتكلس الذي يمثله الحزب الشيوعي السوداني و قد نحجوا الى لحظة كتابة هذا المقال في ترسيخ فكرة أن الفكر الليبرالي فكر رميم مقابل فكر شيوعي سوداني لم يستطع مفكرونه إنتاج المعنى.
و بالمناسبة الكساد الفكري و نتائجه الماثلة في فشل النخب السودانية سببه غياب من يفتح الطريق أمام النخب السودانية و إيقاظها من نومها الدوغمائي العميق و تذكيرها بأن مستوى الفكر المتدني هو الذي يفتح الطريق الى أتباع الحركة الاسلامية السودانية في السودان بألا يتحرجون من الظهور في زمن أصبح فيه أن تكون من أتباع الحركة الاسلامية السودانية عار لا يمحى.
و قلنا قولنا هذا لأن فكر ريموند أرون يفتح الطريق لفكر ينتصر للديمقراطية الليبرالية ذات الصلة العميقة بمواثيق حقوق الإنسان و هي تجسد قيم الجمهورية التي يرفضها الكوز في عدم إيمانه بفكرة الدولة من الأساس كما يرفض الشيوعي السوداني فكرة الدولة من الأساس. لهذا نجد أن الكوز تتمثل دولته في سياجه الدوغمائي و الشيوعي السوداني دولته في حيز حزبه المقدس الذي يظن بأن دور الحزب أن يرفع من ثقافة العمال و الفلاحيين عبر نقابات العمال و إتحاد العمال الى مستوى العمل الثوري و هيهات.
لهذا نجد طرح الحزب الشيوعي السوداني في التغيير الجذري أكبر و أوضح من يفضح لنا كساد الشيوعي السوداني الفقير الى الفكر و بالتالي قد أصبح عملهم في الأونة الأخيرة عمل أخرق و خاصة في إسقاط حكومة حمدوك و قد وضعهم في مستوى واحد مع الكيزان و هم كذلك بسبب تدني مستوى وعيهم و سببه غياب الفكر الليبرالي من ساحتنا السودانية.
و هذا ما أريد الحديث عنه لأنه لا طريق غيره أي الفكر الليبرالي من إنقاذ النخب السودانية من أوهامها و خاصة الكوز و الشيوعي السوداني. الشيوعي السوداني ما زال في إعتقاد ماركس في عدم إيمانه بفكرة الدولة من الأساس و ما الدولة إلا أداة في يد الطبقة المهيمن لتحطيم بقية الطبقات و هذا وهم الشيوعي السوداني في طرحه للتغيير الجذري و لهذا نجد أن الحزب بالنسبة للشيوعي السوداني قد أصبح بديل للدولة و عمله رفع مستوى الثورية وسط العمال و الفلاحيين من أجل ثورة و نهاية تاريخ و غيرها من الاوهام.
و من هنا ننبه لأهمية حديثنا عن فكر توكفيل و ريموند أرون و إنتصاره للفكر الليبرالي و هذا ما سنحاول تناوله و خاصة في حديثه عن فكرة الصراع الطبقي و الفرق الهائل عن فكرة الصراع الطبقي عند الماركسية التي ما زالت الهادية للشيوعي السوداني. و بالمناسبة فكرة الصراع الطبقي عند كل من توكفيل و ريموند أرون تختلف عن فكرة الصراع الطبقي عند ماركس.
و هنا يكمن سبب كتابة هذا المقال لأن تفسير الصراع الطبقي عند توكفيل المنتصر على ماركس يختلف عن الصراع الطبقي عند ماركس و لهذا نجد ريموند أرون في الدروس التي كان يدرسها في جامعة السربون يفسر في دروسه الثمانية عشر و من بينها الصراع الطبقي كيف تسير فكرة الصراع الطبقي في المجتمعات الليبرالية و كيف تظهر في الاتحاد السوفيتي مع ملاحظة مهمة أن الاتحاد السوفيتي مجتمع صناعي مثل مجتمع الغرب الصناعي و كيف فسر ريموند أرون وفقا لفكر توكفيل خطاء ماركس و ماركسيته و فكرته عن الصراع الطبقي و نهاية التاريخ.
و من هنا أطلب من النخب السودانية و من أجل توطين الفكر الليبرالي فهم فكرة الصراع الطبقي عند كل ماركس و إختلافهما هو و توكفيل و هي عند توكفيل أي فكرة توكفيل عن الصراع الطبقي قد إنتصرت على فكرة ماركس و كذلك فكرة ريموند أرون قد إنتصرت على سارتر و هذا مهم جدا لأنه لم نجد له أي أثر في مكتبتنا السودانية.
لذلك نجد أن في جميع أنحاء العالم يحتفل العالم بإنتصار توكفيل على ماركس و ريموند على سارتر إلا في السودان فاذا عرف المثقف السوداني تفسير توكفيل لفكرة الصراع الطبقي يعرف الفرق بينه و ماركس الذي يريد تغيير العالم قبل أن يفهمه كما يقول ريموند أرون أن ماركس يريد تغيير العالم قبل أن يفهمه و هو يصر أن كل الفلاسفة يحاولون تفسير العالم و هويفكر في تغييره.
لهذا نقول للنخب السودانية أنتم تريدون تحول ديمقراطي و لكن عليكم فهم الفكر الليبرالي قبل طرح التغيير و أبسط قاعدة هي أن الديمقراطية ذات علاقة طردية مع الرأسمالية و الماركسية ذات علاقة عكسية مع الرأسمالية و لا يمكننا تحقيق تحول ديمقراطي في السودان بغير توطين الفكر الليبرالي الذي يفتح على الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن و تفترض بأن الفرد أخلاقي و عقلاني و تسوقه معادلة الحرية و العدالة.
و هذا يطلب من النخب السودانيةعلى أقل تقدير فهم فلسفة التاريخ الحديثة و فهم التحول الهائل في المفاهيم على أقل تقدير في سير القرن الأخير من تجربة البشرية فيما يتعلق على صعد السياسة و الاقتصاد و الاجتماع. هذا ما إنتبه له ريموند أرون أي أن ماركسية ماركس و علم اجتماع دوركهايم و وضعية أوجست كونت و أستاذه سان سايمون قد ألغت أهم بعد و هي تضع علم الاجتماع في مرتبة أعلى من السياسة و الفلسفة السياسية و هذا بالضبط ما تعاني منه النخب السودانية و هذا ما أريد نقله و توطينه في الساحة السودانية و لهذ كان حديثنا على الدوام عن علم اجتماع ماكس فيبر و قد فضله ريموند أرون على الفلاسفة المذكوريين أعلاءه.
هذا ما حاوله ريموند أرون في مقارنته بين مجتمعيين صناعيين الاتحاد السوفيت و دول الليبرالية في أوروبا الغربية و كيف كان دور النخب في تفسير فكرة الصراع الطبقي في المجتمعات الليبرالية حيث أصبحت فكرة أن الطبقة الوسطى تتوسع في الدول الليبرالية و يقل الفقر و بالتالي تسير بإتجاه التقارب الطبقي و التضامن بين الطبقات و عليه يكون التصالح بين الطبقات عكس ما يزعمه ماركس بأن الرأسمالية بسبب الإستغلال للطبقات الفقيرة تزيد مساحة الفقر و بالتالي يصل المجتمع الى مرحلة الثورة التي تقضي على الرأسمالية و يتوج التاريج بدكتاتورية البروليتاريا. إلا أننا نجد أن التاريخ قد توج بتاريخ الليبرالية الذي لا يتوج بهاية و هذا عكس ما كان يسعى إليه ماركس في فكر لاهوتي ديني غائي.
المهم في الأمر محاولتنا لتوطين أفكار توكفيل و ريموند أرون هي محاولة قد سبقتها محاولتنا توطين فكر مدرسة الحوليات الفرنسية في مكتبتنا السودانية لأن المكتبة السودانية ترزح تحت بحوث مؤرخ سوداني تقليدي ما زال أسير الوثيقة المقدسة و أسير المنهجية التاريخية التي قد رفضتها مدرسة الحوليات كما رفض ريموند أرون الوضعية.
و بالتالي نجده أي ريموند أرون قد فضل علم اجتماع ماكس فيبر على علم إجتماع دوركهايم و نتمنى من النخب السودانية تجاوز المؤرخ التقليدي في وثيقته المقدسة كما نجده في بحوث محمد ابراهيم ابوسليم في وثائق المهدية و نجد يوسف فضل كمؤرخ تقليدي يحاول تلاميذه بصورة بائسة إلحاقه بهامش مدرسة الحوليات و حتى تلاميذه الذين يحاولون إلحاقه بهامش مدرسة الحوليات تفضحهم بحوثهم طيلة الأربعة عقود الأخيرة و تدل جهودهم و بحوثهم على أنهم مؤرخيين تقليديين و لا علاقة لهم بمدرسة الحوليات الفرنسية.
و أقصد بالتحديد أحمد ابراهيم أبوشوك في محاولته إلحاق يوسف فضل بمدرسة الحوليات إلا أن بحوثه خلال الثلاثة عقود الأخيرة لا توافقه الرأي في علاقة مزعومة له بمدرسة الحوليات الفرنسية لأن من المتأثرين بمدرسة الحوليات الفرنسية مثل محمد أركون لا تشبه بحوثه و كتاباته بحوث و كتابات أحمد ابراهيم ابوشوك كمؤرخ سوداني تقليدي و لا تشبه كتابات يوسف فضل و بقية المؤرخيين التقليديين السودانيين.
و ذكرنا المؤرخيين هنا لأن ريموند أرون كان مؤرخ و فيلسوف و عالم اجتماع و اقتصادي لذلك جاءت بحوثه متكاملة عندما جاء بفكر توكفيل من قلب النسيان و بالمناسبة عندما حاول ريموند أرون مكافحة ماركسية ماركس كان في ذلك الوقت قليل من النخب الفرنسية من كان ملم بفلسفة و أفكار توكفيل و من هنا تأتي أهمية المؤرخ غير التقليدي الذي يخدم توطين الفكر الليبرالي في السوداني كما فعل ريموند كمؤرخ و جاء بفكر توكفيل بعد معرفته بأن فلسفة التاريخ التقليدية قد أفلت و أن الليبرالية التقليدية قد غادرت لتحل محلها الليبرالية الحديثة التي لا نجد أفكارها في كتابات كل من أحمد ابراهيم أبوشوك و يوسف فضل كمؤرخيين تقلديين.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء