لماذا عجزت النخب السودانية عن بلوغ العقلانية تحت ظل أعتى محنها؟

 


 

طاهر عمر
8 May, 2023

 

الإجابة على هذا السؤال تدور حول أن النخب السودانية أسيرة ثقافة تقليدية لا تقوى على مجابهة الواقع المعقد بفكر جديد و بالتالي تمر على الشعب السوداني أعتى أنواع الإحن و المحن مثل حالة حرب البرهان و حميدتي الدائرة الآن و عقل النخب لا يغشاه التغيير بل يتشبث بفكر يصر على أن يكون خارج التاريخ بل يحاول أن يحكم على التاريخ بفلسفة تاريخ تقليدية.
و هم على هذه الحالة لم تضف الأحداث إليهم و الى فكرهم معرفة تمكنهم من أن ظاهرة المجتمع تحتوى على كيفية تحاورها مع عملية التحول في المفاهيم و أن عالمنا المعاصر تمسك بتلابيبه سلسلة من المشاكل تمثل قلب التحولات المتجددة و تحتاج لفك شفرتها و معرفة كنهها و كيف تسير في مسيرة تراجيدية و مأساوية منفتحة على اللا نهاية إلا أنها تحت سيطرة العقل البشري وفقا لمجد العقلانية و إبداع العقل البشري.
للأسف أن حركة المجتمع بطيئة مقارنة بوجود فلاسفة و مفكريين يتحدثون عن التغيير و يرونه برؤية العين و لكن حدوثة قد يحتاج لعقود نضرب مثلا أن فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية كان يرى أن التغيير لا محالة قادم و كانت كل أفكاره تراه كأنه سيحدث غدا إلا أنه قد إستغرق زمن طويل و دوما تذكر قصة عودته من فترة لجؤه الى إنجلترى و قد عاش لاجئ فيها و عندما عاد كان يقول بأن التغيير قادم لا شك في ذلك بل يسمع وشوشة مواكبه و هي مسرعة نحو فرنسا و كان متفائل بأنه لا يحضره و لكن لم يشك في مجيئه بل شجع الفرنسيين الى الإستعداد لقدوم الثورة و كان يحدوه أمل و فرح بأن أفكاره و شجرتها سوف تجني ثمارها أجيال قادمة.
فولتير كان يعرف أن أفكاره لم تحدث في زمنه و تتحقق أماله بعصا سحرية و لكن هذا لم يمنعه من التفكير للمستقبل البعيد من أجل تقدم مجتمعه و تقدم فرنسا و هذا هو البعد الغائب عن طريقة تفكير النخب السودانية. الأغلبية يفكرون بأن التغيير سوف يحدث في زمنه بل يجب أن يجزى على فكره بأن يكون وزيرا أو زعيم أو صحافيا شهيرا دون أن يطلب العلم الكثيرا الذي يسمح له بتقديم فكر تجني ثماره الأجيال القادمة من رحم المستقبل البعيد بعد موته و رحيله الأبدي عن هذا العالم.
هذا ما يجعل فكر النخب السودانية فكر مثل الوجبات السريعة التي تؤدي للتضخم في ذاتهم و سرعان ما يتبخر فكرهم تحت حرارة الأحداث و مثلما حدث لقحت التي ترى دوما بنظر لا يتخطى موقع أقدامها و يغلب على بالهم التكالب على السلطة و ها هي الحرب العبثية بين البرهان و حميدتي تبخر فكرهم و آمالهم لأنه فكر لم يؤسس على قواعد صلبة.
غفلة النخب السودانية غفلة موروثة و قد خلّفت حلقات مفرغة و محكمة الإغلاق كسرها و الشب عن طوقها يحتاج لتغير في طريقه التفكير السائد في حيز النخب السودانية و هو موروث منذ خيبة أتباع مؤتمر الخريجيين و قد عجزت الأجيال المتلاحقة أن تخرج من أسر ثقافته التقليدية و المضحك يريدون أن يقاربون بها ظواهر مجتمعات تقليدية تريد أن تلحق بركب انسانية قد فارقت طريقة تفكير المجتمعات التقليدية.
و هذه واحدة من الأسباب التي تنتج كوارث متسلسلة و مصائب متجددة في فترات زمنية قصيرة جدا توضح فشل النخب السودانية و هي عاجزة من أن تدرك أن عالمنا المعاصر يحتاج لفكر ليس موجود في خزائنهم و أن فكرهم السائد الآن كعملة أهل الكاف لا تشتري شئ من معرض فكر عقل الأنوار و مجتمعات الحداثة.
من هنا ستكون الفترات التي تفصل بين الأحداث و الكوارث في ساحة الشعب السوداني لا تفصل بينها فترات زمنية طويلة بل ستكون سلسلة متلاحقة من الأحداث المؤلمة في قمة مأساتها و تراجيديتها تجر بعضها بعض بحريق سيقضي على المجتمع القديم و تقضي على فكر المثقف التقليدي و تقضي كذلك على فكر المؤرخ التقليدي.
و ما حرب البرهان و حميدتي إلا بداية لكوارث و محن و إحن لا يقطع تسلسلها و قصر زمن حدوثها غير طريقة تفكير النخب السودانية بفكر جديد يفتح باب اليقظة التي تفتح على مواجهة أنفسهم بأنهم لا علاقة لهم و فكرهم بعالمنا المعاصر و أننا نحتاج فكر عقل الأنوار.
حرب البرهان و حميدتي العبثية قد نبّهت النخب السودانية الفاشلة و أيقظتها من نومها العميق و لكنها للأسف قد إستيقظت من نومها على كوابيس الحرب و ما يلحقها من تدمير لمجتمع تقليدي يلفظ أنفاسه الأخيرة و ما أنفاسه الاخيرة خير النخب الفاشلة.
حال السودان الآن لا يختلف عن حال أوروبا و هي تستيقظ على كوابيسها في فترة نهاية ليبرالية تقليدية و ميلاد ليبرالية حديثة و النتيجة قد كانت مآسي حربين عالمتين و بعدها آمنت أوروبا بالسلام و الإزدهار المادي و هذا يفصلنا عنه ثمانية عقود و هي المسافة الفاصلة بين النخب التقليدية في السودان و نخب العالم الحديث أي أن نخب السودان تفكر بطريقة عقل ما قبل منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم في المجتمعات الحديثة.
مثلما دفعت المجتمعات الأوروبية كثير من الدم و العرق و الدموع بسبب كوابيسها و بعدها فارقت فكرها التقليدي و فلسفة التاريخ التقليدية كذلك اليوم يسير الشعب السوداني في طريق ملئ بالكوارث كحاله اليوم في ظل حرب البرهان و حميدتي العبثية و كما قلنا ستعقبها كوارث متسلسلة في فترات زمنية متقاربة مثل الهزات الإرتدادية للهزة الكبيرة إلا أنها لا تعيد المجتمع السوداني الى الوراء كما يعرف بأن عقارب الساعة لا تعود للوراء.
سوف تنفتح شهية الكيزان للعودة للسلطة بسبب قصر نظرهم و أحلامهم الطفولية و هي قد ضلّت عن فهم الماضي و قد أساءت للمستقبل لكنهم لا يعرفون أن أقدامهم الآن في منتصف مزبلة التاريخ و أن المستقبل له بيوت لا يدخلها كوز لأن أبناء المستقبل في السودان هم أبناء الحياة و أبناء الحياة لهم صفاتهم و لا يدركها من على عقولهم أغفالها.
مسألة إنفتاح شهية الكيزان للسلطة تشابهها ظهور الفاشية و النازية في إصرارهما على ديمومة كوابيس أوروبا و هي تحاول مفارقة فكرها التقليدي فكانت النازية و الفاشية فكرتين نتاج غفلة فكانتا عابرتين و كذلك الكيزان فهم أبناء غفلة النخب الفاشلة وما تاريخهم إلا لحظات عابرة في كتاب الزمن المتجدد.
للأسف قحت و هم زبدة النخب الفاشلة قد أصبحت مثل البقرة الرزية إلا أنها نطّاحة و هي بهذه الخيبة و العجز عاجزة عن أن تكون عقلانية و أخلاقية لأنها كانت معارضة للحركة الاسلامية التي قد كانت ثمرة مرة لفكر منذ بدايته خارج التاريخ. فكر قد أنتجه عقل الكوز قارئ التراث بذاكرة محروسة بالوصاية و ممنوعة من التفكير.
في نفس الوقت كانت المعارضة التي تعارض الحركة الاسلامية تحمل نفس أعراض مرض الكيزان و هو مرض يقتل كل فكر متجاوز لعقل المجتمعات التقليدية لهذا ها هو السودان يصل الى نهايته المؤسفة و هذه النهاية بداية لكوارث و أحداث و مصائب و حروب تظنون أنها النهاية إلا أنها مبتداء الأوجاع كما يقول السيد المسيح.
من مقولات السيد المسيح أن البذرة عندما تدفن للزرع تموت ثم تنبعث في نبت جديد و هي مقولة توضح لنا أن بذرة المجتمع السوداني قد بذرتها يد الزمن الآن و هي في مرحلة موتها لكي تنبت من جديد لتعلن عن موت المجتمع السوداني التقليدي و ستكون النبتة الجديدة مجتمع حديث مفارق و غير مصادق على عقل الكيزان و معارضتهم التي تحمل نفس أعراض الكيزان و هم كذلك لأنهم أتباع الامام و مولانا.
هم كذلك غاصين في وحل الفكر الديني مثلهم مثل الكيزان أي أتباع أحزاب الطائفية. حرب البرهان و حميدتي العبثية و ما يعقبها من كوارث متسلسلة تفصل بيها فترات زمنية قصيرة هي فترة الثلاثة أيام التي تموت فيها البذرة و تظهر من جديد كنبتة جديدة و تحتاج لعقل و فكر جديد لا علاقة له بفكر المجتمع التقليدي السوداني السائد الآن.
لا شك في أن كوارث السودان المتسلسلة يعقبها إنبعاث لمجتمع سوداني جديد منتصر للفرد و العقل و الحرية فاهم لمعنى المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا يعيد لنا لحظة كيف إستيقظت النخب في أوروبا نتيجة لثمرة الثورة الصناعية بأن المجتمع قد غشته تغييرات هائلة و بالتالي انتبه لها الفلاسفة و المفكريين و المؤرخيين و علماء الاجتماع.
و هذه التغيرات الهائلة في المفاهيم قد ظهرت في الأدب الأوروبي كمؤشر لعلاقة الأدب بتاريخ الفكر الاقتصادي مثل إبداع شارلز دينكز في قصة مدينتين و نجد نفس فكره قد كان الشغل الشاغل لفيلسوف و مفكر و مؤرخ فرنسي مهم جدا في إنتباهه للتغيير الذي قد غطى المجتمعات الاوروبية و قد أحتاج لتطوير فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و أقصد توكفيل.
و هذا هو الذي ينتظر النخب السودانية في إدراك أن الكوارث المتلاحقة تحتاج لنفس طريقة تفكير كل من شارلز ديكنز في آدابه و توكفيل في فلسفته و علم اجتماعه كمؤرخ غير تقليدي قد تحدث عن الديمقراطية بمعناها الحديث كبديل للفكر الديني و نهاية لكوارث و حروب و مصائب متسلسلة تفصل بينها فترات زمنية قصيرة كحال حرب البرهان و حميدتي العبثية.
و هذا يحتاج من النخب السودانية لإعادة ترتيب بيتهم من الداخل و مواجهة مع النفس لكل فرد منهم و خاصة الذين قد بلغ زمنهم و هم على مشهد الفكر ما يزيد على الستة عقود في ظل فشل موروث و قد ناولوه لمن بعدهم.

taheromer86@yahoo.com
/////////////////////////

 

آراء