لماذا غاب منصور خالد عن محاضرة محمد أحمد محجوب … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 


waqialla1234@yahoo.com
ساند المحجوب في دعوته التي أطلقها في شكل نبوءة عن مستقبل العروبة والإسلام في السودان، قادة الجيل الماضي، وأقطاب التيار الوطني العربي الإسلامي الأصيل، منهم من كان موقفه موقفا حزبيا معتدلا، كالأستاذ الجليل محمود الفضلي، ومنهم من اعتزل الأحزاب جميعا، والتزم الوطن وحده، كالأستاذ الجليل إسماعيل العتباني، الذي رحل عن دنيانا هذا الأسبوع. رحمهم الله تعالى وأحسن مثوبتهم في عليين.
وشهد المحاضرة من قادة التيار الثقافي الإفريقي، الأستاذ الكبير النور عثمان أبكر، رحمه الله، ونال فرصة للتعقيب على حديث المحجوب، وجاء خطابه متزنا أعرب فيه عن فكرته الداعية إلى تأصيل الثقافة الإفريقية في السودان، وتحدث بتهذيب وتعقل، من دون أن ينازع المحجوب في فكرته عن العروبة، إذ ليس بين الفكرتين نزاع من حيث التأصيل.
وزاغ عنها منصور خالد:
وزاغ عن شهود المحاضرة أرباب الزيغ، وعلى رأسهم الدكتور منصور خالد، صاحب النخبة الفاشلة، والسفاه الذي لا حلم بعده.
 ومع أنا لم ندعه للمشهد، إلا أنا كنا نتمنى أن نراه في النَّدِيِّ.
تراكمت أوزار منصور خالد، وإصره، وأغلاله النفسية، ولا تزال تتراكم، وتثقل كاهله، وتنقض ظهره. فقد تتلمذ قديما على محمد أحمد محجوب في مهنة القانون، ولكنه بما عرف عنه من قلة وفاء لمعارفه، وغدر بأصدقائه، تنكر له وجفاه.
وزادت رزايا منصور خالد ثقلا، بانخراطه في خدمة النظام الديكتاتوري،  نظام ضباط الجهل المسلح، الذين أطاحوا بالمحجوب عن رئاسة الوزراء.
 وتفاقمت جرائر منصور خالد  بتوليه عبء الدفاع الخطابي، والكتابي، المتطرف، عن هذا النظام الفاسد، وسب خصومه الشرفاء، في الساحات والمحافل الخالية، التي يسهل عليه فيها أن يمارس الطعن والنزال!
حيث لم يكن الدكتور منصور خالد من شاكلة الرجال الفرسان، الذين يمكن أن يثبتوا لمنازلة المحجوب ومقارعته. وجبن عن لقائه، حتى وهو شيخ مريض مهيض. ولم يأت لشهود تلك الليلة ذعرا من حضرته، وهيبته، وجسارته، واستعداده الأكيد، الناجز، الماضي، وعدم تردده في تهشيم خصومه، اللُّدِّ، المراوغين، من أمثال منصور خالد.
وهكذا آب منصور خالد إلى خليقته وسجيته، وفضَّل أن يتماشى، ويتماهى، مع شيمته الشخصية، الملازمة له، أبد العمر، تلك الشيمة التي لا تمت إلى المروءة بصلة، ولذلك انتظر المحجوب حتى انقضت أيامه في الدنيا، ثم أتي ليتخرص عليه، ويحشد في أفقه التاريخي، الدعاوى، الخائرة، البائرة، التي هي محض أكاذيب!
هذا زمانك يا مهازل فامرحي:
وهكذا بقي منصور خالد صامتا، ثم جاء بعد ربع قرن من وفاة المحجوب، فألقى محاضرة عنه، بلندن، ناقش فيها دعوته ونبوءته الثقافية، التي لم يتجرأ قط على مناهضتها قبل وفاة صاحبها، ولكنه جاء بعد ذلك ليقول عنها قولا نكرا، زاعما أن فيها :" ما يرقى إلى هيمنة عنصرية ثقافية "!!
نعم، والله، إلى هذا المدى في التجرئ، غير المتحري، ذهب منصور خالد، بعد أمن بأس المحجوب وشدته، إذ غيبه الردى. فجعل يطيل عليه من اللجاجة في الخصام، ويصاول مقامه الفكري العليِّ، ويزور كلامه البيِّن الفصل، ويدسُّ فيه ما لم يتضمنه من سقط القول. كل ذلك ليمهد لمناوشته بشعار (التهميش) الرائج ابتذاله في هذه الأيام، من قبل العنصريين ودعاة  التمرد والتخريب.
التَّزيُّد على المحجوب:
قال منصور خالد، وهو يعبث بكلام المحجوب، ويتزيد عليه، ويضاعف له في الذم:" في تلك المحاضرة أكد المحجوب أن الثقافة السودانية (المميزة) يجب أن تقوم على الموروث العربي الإسلامي مدعوما بفكر أوروبي بهدف تطوير أدب وطني حقيقي يستمد شخصيته وحياته من تقاليد شعوب هذا البلد ومن صحرائه وغاباته، وكلمة(مميزة) ربما أراد بها المحجوب تمييز هوية الثقافة السودانية عن المصرية وبقية البلدان العربية الأخرى، ومن هنا يبدو أن المحجوب كان يعي تماما خصوصية الثقافة السودانية، ولكن عندما أراد الإسهاب في هذا الموضوع أشار فقط الى نقطتين تاريخيتين هامتين: الأولى هي الماضي البعيد والذي حسب رأي المحجوب، تأثر (بالوثنية والحضارة الفرعونية والأديان السماوية الأخرى) والثانية هي (العروبة الإسلامية) وصرف نظره عن النقطة الأولى فيما يشبه المحو والتجاهل في حين أسهب في مسألة العروبة الإسلامية قبل أن يعرج على مساهمة الفكر الأوروبي المزعومة على الثقافة السودانية.
 أما التأثير التاريخي والمعاصر للثقافات الإفريقية الأخرى على الهوية الثقافية السودانية، فقد كانت طي النسيان في تلك المحاضرة، ولكن إذا تم تجاهل الآثار التاريخية النوبية والمسيحية، لماذا نتوقع من المحجوب أن يلتفت إلى الثقافات الإفريقية المعاصرة، ولكن مرة أخرى لماذا رسم المحجوب وكل المثقفين الشماليين على أيامه مثل هذه الخارطة الناقصة المعيبة للثقافة السودانية". وهكذا تطاول منصور خالد على المحجوب، مستخلصا من كلامه، أنه يتعالى على جزء من ماضيه، وكأنما كان المحجوب ملزما بتقرير ما يقرره منصور خالد، وغيره من وكلاء الغزو الفكري الصليبي والتغريبي، من ضرورة إرجاع المسلمين إلى ماضيهم قبل الإسلام!!
 لقد ذكر المحجوب ذلك الماضي الآفل، ولم يتجاهله، واكتفى بإعطائه قيمته الحقيقة، وهي قيمة تاريخية متقادمة، وليس لها تأثير كثير على الحاضر، اللهم إلا عند دعاة التنظير الإيديولوجي، غير العلمي، من أمثال منصور خالد، وزمرته من المناوئين للعروبة، وثقافتها، هؤلاء الذين يزوِّرون صورة الحاضر، ويزوقونها، لتتماشى مع ما في أذهانهم الكليلة، من صور التاريخ الوثني البعيد.
التحريض على الشماليين:
وزاد منصور خالد على ذلك فافترى على المحجوب أنه بالرغم من أنه كان على المستوى الثقافي:" مؤمنا راسخ الإيمان، بالديمقراطية وكان مدافعا غيوراً عن المساواة والعدالة، لكنه كان أيضا المدافع الناطق بوضوح عن الاستراتيجية الشمالية الشائعة وهي أسلمة وتعريب الجماعات الإفريقية غير المسلمة في السودان كي تتم الوحدة ".
وكدأبه في إشعال نيران الفتن ونشر مشاعر الكراهية، وتأليب غير المسلمين على المسلمين، وتهييج الجنوبيين على الشماليين، زعم منصور خالد أن المحجوب برهن بمحاضرته تلك على عدم حساسيتة تجاه الدين النصراني:" الذي ينتظم عدداً لا يستهان به من السودانيين". وزعم أن هذا الموقف الذي طمس به المحجوب تراث الديانة النصرانية في السودان:" هو في الواقع عدم إحساس بمعتنقي هذا الدين وهو موقف ثابت إلى اليوم، رغم كل هذا الضجيج عن احترام التعددية الدينية".
وبالطبع فليس لنا، ولم يكن للمحجوب، وليس للشماليين، من متدينين، وغير متدينين، من موقف ديني سلبي، تجاه نصارى السودان، فهم مواطنون مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
 ولكنا نقرر بعد ذلك، حقيقة لا ينكرها أكثر نصارى السودان، وهي أنهم، في غالبيتهم العظمى، جاؤوا نتاجا لحركة التنصير الحديثة، ولم يكونا امتدادا للنصرانية السودانية القديمة، التي يتحدث عنها منصور خالد، ولا كانوا من مذهبها الديني، في شيئ،  بل اتبعوا مذهبا مخالفا له، تمام المخالفة، وهذا ما يشهد به علماء مقارنة الأديان، الراسخون في علم الأديان.
 ثم إن عدد نصارى السودان في ذلك الوقت الذي ألقى فيه المحجوب محاضرته، كان ضئيلا جدا، بحيث لا يأبه به الباحث المنصف المجد، ولعلهم ما كانوا يزيدون على واحد بالمائة من تعداد السكان، فكيف يراد من المحجوب أن يجعل لهم كل هذا الشأن، الذي يمنحهم إياه، منصور خالد، الذي يحرضهم الآن، ويستعديهم، على مسلمي السودان؟!
القديسة المرتدة عن الإسلام:
ولم يكتف منصور خالد ببث هذه الدعاوى الفاسدة، حتى شاء أن يبتز أهل السودان الشماليين، بقصة فظيعة، تدين سادته الغربيين، ولا تدين أهل شمال السودان بشيئ، هذا لو كان منصور خالد يعي حقا ما يقول!
 وهي قصة امرأة جنوبية مسلمة، باعها النخاسة الأوروبيون للقنصل الإيطالي بالخرطوم، وأخذها هذا إلى روما، حيث تم تنصيرها، وسميت جوزيفينا. وقبل سنوات قلائل، قام بابا الفاتيكان السابق بإعادة ذكراها ومنحها لقب (قديسة)!
وهذه قصة عادية من قصص فجائع التاريخ، فكمٌّ عديدٌ من المسلمين كان من ضمن جرى استرقاقهم وتنصيرهم على يد المستعمرين الأوروبيين. وقصة مثل هذه أحرى بها أن تثير حنق المسلمين المعاصرين، وتفجر كوامن غضبهم على المستعمرين الغربيين، الذين اجتالوا بعض أسلافهم عن الدين القويم. ولكن منصور خالد يريد من المسلمين أن يحتفوا بهذه القصة مع الكاثوليك!
وفي هذا يقول:" وابتهج الكاثوليك السود في كل أنحاء العالم بهذه المناسبة، عدا في السودان لم يكن الحدث جديراً بأن يتناوله الإعلام السوداني الذي تسيطر عليه الحكومة ولا صحافة الخرطوم المولعة بالتحري والتقصي، ولا استحقت تلك السيدة الفريدة التي صعدت من العبودية إلى القداسة الذكرى في البلد الذي يفترض أنها تنتمي اليه".
 فيا لهذا من حشف ردئ، يبيعه لنا منصور خالد، في تطفيف بالغ، وسوء كيل!
فكيف يريدنا باسم تقديس ماضينا التاريخي، غير الإسلامي، أن نهلل لارتداد واحدة منا، ارتدت لا عن قناعة، ولا عن ظرف حر، وإنما عن ظروف الأسر والقهر والقسر؟!
 وكيف يسوق إلينا منصور خالد هذه القصة الأليمة الموجعة، ثم لا يعزينا فيها، بل يطلب منا أن نفرح بها، ونبتهج، ونُسَر ؟!
لماذا منحت درجة القداسة الآن؟!
ثم ماذا عن هذه القداسة الدينية التي يمنحها شخص لشخص؟! هذا من أعمال الجاهلية البدائية التي لا نؤمن بها نحن المسلمون. إننا في الإسلام لا نؤمن بشيئ من مثل هذا، ولا نجعل من شخص حكما على إيمان شخص آخر! 
فكيف يريدنا منصور خالد أن نبتدع في ديننا الكريم، ونخالف هديه القويم، ونضل عن سواء الصراط، ونُحجِّر واسعا، وندخل في جحر الضبِّ الضيق، مع من بدلوا دينهم، وحرفوه، واتخذوا آيات الله هزوا؟!
وهنالك سؤال مشروع في هذا المقام، وهو: لماذا لم تمنح درجة القداسة الدينية هذه للمرتدة بخيتة من قديم الزمان؟!
 ألأنها امرأة سوداء، وصلت إلى الغرب، في حين، كانت فيه أوروبا، والبابوية، وكنائسها، لا تعد السود بشرا كغيرهم من عبيد الله ؟!
 ولماذا تذكَّر البابا هذه المرأة  الجنوبية المرتدة في هذا الوقت بالذات؟!
 أما في ذلك من إشارة واضحة قدمها البابا، لدول الغرب، لكي تضاعف من جهودها، في دعم حركة التمرد، وتسليحها، بغرض أن تتمكن من تنصير المسلمين السودانيين كما يرومون ؟!
بلى، وإن منصور خالد لأدرى بذلك كله، وبدسائسه، وخفاياه، مني ومن الناس أجمعين! 
إن هذا التطرف الفكري، المغرض، المغالَى فيه، والذي لم يبال منصور خالد أن يَلِغَ فيه، ويلغو به، لم يصل إلى عشر معشاره الدكتور عبد المجيد عابدين، الذي كان المحجوب يزمع أن يدهسه في محاضرته تلك على مرأى من الناس.
 وما أدري ماذا كان المحجوب فاعلا بمنصور خالد، لو تجرأ، وجاء ليتقيأ شيئا من أقواله هذه، وتقيَّح هكذا، بحضرته يومذاك؟!
عار الدهر:
 إن جلُّ ما قاله منصور خالد، أو أوحي به، في هذا المضمار، هو محض وهم، وبطلان، وخطل، وختل. حيث لم يحدث أن قام أحد بتضييق مجال الفكر أو النشر، أو قاوم أي محاولة لخدمة التراث الوثني والنصراني في السودان، وذلك لأنه لم يقم أحد من أنصار هذا التراث، ولا من دعاته، ولا ممن يتلفعون بشعارات الدفاع الزائف عنه، ولا من مناوئي الثقافة العربية الإسلامية، بأي محاولة جادة في سبيل إحيائه، أو تطويره، أو نشره وإقناع الناس به.
 لذا فليكف منصور خالد عن اتهام الشماليين، وإرهابهم، وابتزازهم بمثل هذه الأقاويل، التي طفحت في محاضرته، التي ألقاها بلندن، عن محمد أحمد محجوب.
ليكف منصور خالد عن هذا بعد أن كف مضطرا، وهو حسير، عن تحذير الشماليين المسلمين، وإنذارهم، وتوعدهم  بأنهم على وشك أن يسقطوا سياسيا وحضاريا، وأنه يوشك أن يأتيهم، ليحطم  ثقافتهم، وحضارتهم، وإرادتهم، ويسيطر عليهم، وعلى دنياهم، من لا ينتمي إلى عرقهم، ولا إلى ثقافتهم، ولا إلى دينهم!
 وذلك هو فيض الكلمات، الشاهدات، الشائهات، الشانئات، التي أفضى بها منصور خالد، في لحظة من لحظات الرعونة، وطغيان الهوى. ودلَّ بها على ما في نفسه من ضعف الإحساس، وقلة التهذيب، وعدم الانتفاع بدروس التاريخ، وسوء التقدير لأحكام الثقافة الاجتماعية، وسلطانها، فضلا عن نفاقه الناضح بالغي، حين تشبث، وأطال التشبث بأهداب الديمقراطية، ثم لم يصدر عنها، وعن قيمها، وأطرها، في أخطر أحكام العنت، والعسف، والجور، التي أصدرها على مصائر الشأن الثقافي السوداني.
ولولا سيطرة الضغن علي منصور خالد، واستحواذه عليه، واستبداده بعقله، وتعطيله لإرادته، فقد كان  شخصا مثقفا مثله مرجوا أن يدرك أن ثقافات الشعوب، لا يمكن أن تنسخها سطوة الأحكام القسرية، ولا قسوة الأوضاع الاستبدادية، مهما استطال مكرها، وكيدها، وتضليلها، واستغفالها للشعوب.
وهذه العبرة القوية من عبر التاريخ، وأحوال الاجتماع البشري، أدركها مفكرنا وزعيمنا الوطني الشريف، الماجد، محمد أحمد محجوب، بثاقب وعيه، ونفذ إليه بحكمته العميقة الراسخة، فاستيقن أن سلطة الاستعمار البريطاني، التي لم تتمكن طوال أربعين عاما، هي مدة مكثها في البلاد إلى حين ألقى محاضرته، من أن تطمس ثقافتها العربية الإسلامية، لن تتمكن من إنجاز تلك المهمة فيما بقي لها من عمر قصير، وتيقن أن طلائع المتعلمين السودانيين، من غير شاكلة منصور خالد، وهي شاكلة قليلة العدد، لن تنطلي عليها مكائد المستعمرين، ولذلك بشر بعودة أمتنا إلى منابع دينها وثقافتها عن قريب، وهذا ما تحقق بحمد الله.
 لقد هذا الشمالي الآبق منصور خالد، فقد ظن أن بندقية التمرد الجنوبية، التي كان يشارك في توجيهها نحو صدور الشماليين المسلمين، قادرة على دحر الثقافة العربية، الإسلامية، السودانية، بين عشية وضحاها!
ولذلك تورط في إصدار نبوءته تلك (الإرهابية)، التي باح بها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وهي النبوءة التي ستظل الجزء الخالد من تراثه الفكري، وستبقى عاره أبد الدهر!

 

آراء