لماذا يريد السودان أن يتعلّم الدرس في نفسه؟

 


 

 

هذا سؤال محزن لكنه يفرض نفسه في ظل ما يجري في السودان من حرب وقتال في عاصمته الخرطوم، بعد أن كان لعقود في الجنوب السابق وما زال مندلعاً في أطرافه، في الشرق وفي كردفان وجنوب النيل الأزرق ودارفور وانضم الشمال مسرحاً إضافياً لما سبق. والموت هو نفسه والإنسان الذي يموت هو نفسه والأرض التي تحترق هي نفسها. هل تتوقف الحرب الدائرة قريباً؟ هذا ما نتمناه وندعو له ويجب أن يعمل جميع السودانيين له، يجب أن تتوقف اليوم قبل الغد، ولكن ليس كل ما نتمناه هو الذي يحكم الأمور. فالتجارب هي التي تجيب بما لا نتمنى وهو أن هذه الحرب ستستمر وستتوسع، حالها كحال كل الحروب ما لم تطغ ما يمكن أن أسمّيه قوة الدرء الذاتية أو الدولية، وسأتحدث في ختام المقال عن ذلك. إذن فاتساع رقعة وشدة الحروب حقيقة بديهية ومعلومة لأي شخص، الإنسان يولد طفلاً فينمو ويكبر، النباتات تنمو وتكبر، كل شيء حي ينمو ويكبر، والحرب كائن حي يتغذّى بفعل ناشبيها سواء من المحليين أو من الخارج وآخرين بعيدين لهم مصالحهم، لذلك فهي ستكبر وستصبح أكثر فظاعة كلما استمرت وكبرت وتوسّعت، هذه هي الحقيقة المرّة التي نتجرّعها رغم أنفنا، لأننا لا نريد أن نتعلم ونعتبر من تجارب الآخرين، وظللنا نهوى التعلّم والعبرة في أنفسنا.

لقد ظلّ الشعب السوداني ولثلاثين سنة، يقبع صابراً تحت الحكم الدكتاتوري الشمولي الذي اعتقل وعذّب وقتل الشعب ودمر الوطن، بينما نرى الآن أن أولئك الدكتاتوريون لم يستطيعوا الصبر على الشعب السوداني لثلاث سنوات فقط، أراد خلالها أن يؤسس لسلطة مدنية تنقذ البلاد بما فيها هم أنفسهم من حالة التدهور التي أسسوها ورعوها، والحديث عن الجيش الموازي لا ينبغي أن يوجّه للشعب، فهو لم يبن جيشاً موازياً. من ناحية أخرى، فقد قلنا من قبل أن دخول العسكر إلى السياسة عبر المؤسسات العسكرية يفسد السياسة ويفسد المؤسسات العسكرية، لأنهم في حال الخلاف يستخدمون الحرب وأدواتها وسائلاً للحسم، وتعلمون عواقب ذلك من دمار لا يُبقي ولا يذر، عكس الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تستخدم الكلمة وسيلة وأداةً لتجاوز الخلاف، وفرق النتائج شاسع بين الإثنين. هذا كلام قلناه مراراً وقاله كثيرون غيرنا، بل هي حقيقة يعلمها القاصي والداني، لهذا فلا أريد في هذا المقال أن أتحدث عنها، ولكن أريد أن أوسّع زاوية الرؤية لنرى حجم وعمق السيناريو المرعب المنتظر، لعل الجميع ينتقل بحجم الفعل الإيجابي لمرحلة قد تساعد في وقف أو تخفيف وطأة ونتائج وافرازات ذلك السيناريو.

وصول الدول الكبرى (أمريكا وروسيا ودول أوروبا) بقناعة إلى قرار إجلاء رعاياهم الذين يعملون في السفارات والمنظمات المتنوّعة من السودان، وهو قرار وعطفاً على تجارب مماثلة (نراه متعجّل جداً) بالنظر إلى انه اتخذ بعد مضي فقط ثلاثة أيام على اندلاع القتال. هذا القرار يُعطي رسالة قاتمة عن توقعاتهم لهذه الحرب وهي رسالة أكثر رعباً للشعب السوداني الذي لم يبق له إلا الأمل الضعيف جداً في التعويل على الدور الإقليمي والدولي والذي يرى بريقه يتلاشى، بعد أن صّم الطرفان المتقاتلان أذنيهما عن سماع مناشداته وآلامه. هذا الإجلاء يفتح الباب على مصراعيه الآن للسناريو الأكثر قتامة، وهو أن الطرفين سيستخدمان كل ما يملكان من عتاد ضد بعضهما البعض، بعد أن تحررا من الخوف في إغضاب الدول العظمى فيما لو أن رعاياهم ظلّوا متواجدين مع احتمالية إصابتهم بأذى بما لا يُحْتَمل رد الفعل تجاهه.

إزاء ذلك، سيختار الناس النزوح واللجوء إلى خارج العاصمة أملاً في الهرب من شبح المؤت، وهو أمر طبيعي حيث يؤثر كل فرد الحفاظ على حياته وحياة أسرته على ما عداه، وقد تحول شدة المعارك أمام الكثيرين فلا يجدوا ملاذاً غير البقاء في منازلهم مرغمين، وسيتبع ذلك انعدام الحاجات الأساسية للمعيشة والخدمات الضرورية كالماء والكهرباء والاستشفاء وغيرها رويداً رويداً، لهروب من يجلبها أو يعمل في مؤسساتها، فينقلب المتواجدون تحت وطأة الحاجة وشبح الموت على سلب بعضهم البعض من القليل الذي يتأملونه قد يكون عند الآخر، إلا من رحم ربي ممن قد يتقاسمونه حتى الرمق الأخير بما تبقّى لديهم من وازع ضمير وشهامة. هذه الجزئية من الحالة المرعبة يا للأسف، ليست محكومة بأخلاقيات الأوضاع الطبيعية لحياة الناس، ولكنها مفروضة بتحوّل نمط الحياة عند التواجد في مسرح الحرب، وهي ليست قصراً على أمّة دون غيرها، فالتجارب تخبرنا بأنها طالت كل الأمم التي مرّت بظروف مشابهة. أما البنيات التحتية والمساكن والمباني التي ستصبح خالية بعد أن ينزح ويهاجر عنها قاطنوها، فستتحول إلى بؤر حرب ومعارك وكر وفر وقصف متبادل، فتُحال إلى ركام؛ يا للحزن، رأيتم ذلك في أي مدينة اندلعت فيها الحرب في المحيط الإقليمي والدولي، بل لنا شواهدنا في مناطق النزاعات في بلادنا في القرى التي احترقت وأصبحت أثراً بعد عين؛ حيث مضت عقود ولم يعد ساكنوها إليها.

ما العمل لتفادي السناريو المرعب؟
الوضع الآن في السودان يمضي إلى الانضمام للنماذج الماثلة في سوريا وليبيا واليمن، ليس لأنه لم يكن كذلك من قبل؛ لا، بل هو النموذج الأسبق لها؛ حيث كانت الحرب منتشرة في عدة ولايات وقُتِلَ فيها مئات الآلاف وشُرِّد الملايين وفقاً لتقارير منظمات دولية ومحلية، لكنها لم تنتقل إلى العاصمة حيث القرار والتواجد الدولي والإعلام بما يبيّن ضخامة وفظاعة نتائجها ويُكمل تصفيفها إلى تلك النماذج وتسميتها بما يوازيها. من المعلوم أنه في الحالة الحالية التي يصطرع فيها طرفان كلٌ يملك جيشاً وأسلحة وامكانيات لوجستية ومالية ضخمة، يتساجلان في معارك عسكرية تُستخدم فيها كافة أنواع الأسلحة، فالوصول إلى وقف دائم للقتال يتم عبر أحد أربع وسائل ليس من بينها المناشدات التي تطلقها مختلف الجهات. الوسيلة الأولى، هي عبر توقّف الطرفين مع ذاتهما في لحظة صفاء ذهني وتأمل ما يمكن أن تقود إليها هذه الحرب من نتائج مدمّرة للوطن بما في ذلك أنفسهم، وهي حقيقة مجرّدة ينبغي ألا تخفى على أي بصيرة، قيادة الطرفين وضفا هذه الحرب بأنها عبثية، والسؤال البسيط لهما، فإن كانا يريانها كذلك، لما لا يوقفانها؟ الوسيلة الثانية، هي أن ينتصر أحد الأطراف فيفرض أجندته وتتوقف الحرب وفي هذه الحالة، لا يستطيع أحد أن يحدد طول ومدة الحرب وحجم دمارها في الأنفس وغيرها. الوسيلة الثالثة، هي أن تتساوى الكفتان ويحدث الإنهاك المتوازن، وهنا تحدث هدنات تتفاوت في مددها ليس للوقف الدائم ولكن لالتقاط الأنفاس وشحن الغبن والبحث عن عتاد وأسلحة أكثر تطوراً، وقد يتطور الأمر إلى وقف دائم بحسبان أن الطرفين قد اقتنعا بأن المواصلة قد تودي بنايتهما المشتركة، على غرار ما نشهده عند توازن القوى عند الدول مالكة أسلحة الدمار الشامل؛ خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. الوسيلة الرابعة وتقع ضمن ما أسميته قوة الدرء الدولية، وهي أن يتدخل طرف ثالث يتفوّق في القوة والعتاد فيرسل رسالة فاعلة وقوية للطرفين؛ شديدة الإيلام عليهما يجدان فيها هول تجاهلها. هذا عن المعلوم للجميع من وسائل وقف القتال والحروب، لكن ماذا عن قوة الدرء الذاتية التي أشرت إليها في مستهل المقال ووعدت بالحديث عنها في ختامه؟

هناك مثل شعبي يقول، "ما جبرني على ركوب الصعب إلا الأصعب منه"، ربما هذه هي صياغة المثل، فإن اختلفت فالمضمون هو المقصود، والشعب السوداني الذي توالت عليه الكوارث والخطوب فأنهكته، يعيش الآن لحظة فارقة قد تعصف بكل إرثه المتمثل في وطن ظلّ ثخين الجسد والوجدان. صحيح أن هذه الحرب ليست هي الأولى فقد خَبِر الوطن منها العشرات، ولطبيعة الفطرة البشرية قد لا تكون الأخيرة، ولكنها قد تكون الأفظع من حيث النتائج في كل شيء، لهذا فالشعب السوداني ولكي يأتي بما لم تسبقه عليه الأمم، ربما، وأقول ربما إذا تمكّن من فعل المستحيل، أن يوقف هذه الحرب في مهدها، تقول كيف؟ لقد استخدمت في بداية المقال عبارة "قوة الدرء الذاتية"، وهي عبارة استخدمتها للحالة التي أرى أنه لا مفر من اتخاذها، أي ركوب الأصعب. باستمرار الحرب، هناك موت أمّة بأكملها، الموت بفقدان الأرواح، الموت بالتشرّد، الموت بفقدان صفة الدولة، الموت بدمار كل مقوّماتها، الموت بالعيش في المهاجر بمصاحبة الذلّة في معسكرات النزوح واللجوء سواء كانت خياماً أو أبراجاً، الحصيلة واحدة، نمو فجيعة فقدان المواطنة المرتبطة بالأرض في دواخلنا ونمو الحسرة ونحن نشهد طرفا الحرب يتسابقان إلى بناء أبراج الغبن لاتخاذها كمائن للحرب، وما مواد بناء الغبن إلا جماجم الضحايا وأشلاء الناس التي تحصدها آلة القتل ودخان القذائف وبقايا المنشئات المحترقة.

أحسب أن لسان حال القارئ يقول "لقد عِيل الصبر يا هذا"، قل لنا ما هي قوة الدرء الذاتية التي تعنيها ويمكنها أن توقف الحرب، هي أيها السودانيون، أن يخرج جميع السكان في كل المدن السودانية ويقفوا في الطرقات، ويناموا فيها ليلاً، شيباً وشباباً، نساءً وأطفالاً، لا عودة إلى داخل المنازل حتى تتوقف الحرب ويُدرك الطرفان أنها مرفوضة قولاً وعملاً من الشعب. هذه هي الرسالة الأكثر بلاغة إلى طرفا النزاع، ولهما الخيار إن أرادا أن يقتلا كل هذا الشعب، فليقصفوه وهو في الطرقات، ليقتاتوا ويعيشوا على أشلائه ودمائه. وإما أن يرعوى الطرفان ويعود الرشد إلى العقول فيتّجه الجميع إلى أولوية أدنى تعقيداً من بعد الحفاظ على الوطن، وهي إعادة بنائه. أو يتماديا في الغي وينتظرا مصيريهما وأعني (الطرفان بالمفهوم الأوسع)، حيث ستتمدد الأيدي الخارجية الباحثة عن مصالحها من خلال الإبقاء على نار الحرب مشتعلة وتزويدها بالوقود فلا يبقى هناك وطن، ولا يخفى عليكم ذلك. قد يقول البعض أن هذا حلّ مجنون (قوة الدرء الذاتية)، ربما نحن في حاجة إلى تجسيد مقولة، "خذ الحكمة من أفواه المجانين"، فقد كان لكثير من اكتشافات العلماء التي بدت للغالبية أنها غير معقولة، أن غيّرت من حياة البشرية إلى الأحسن، ولا تحسبوا أنني أضع نفسي في مقامهم، ولكن احسبوها باعتبارها مقاربة عابرة في السياق. سيبرز سؤال فرعي حال القناعة بالفكرة، كيف يمكن إيصال النداء إلى جميع قاطني المدن والقرى، ومن الذي يبدأ؟ أقول، الوسائل المرئية والمسموعة والمقروء ما زالت متاحة، وعلى الشعب في الخرطوم ضربة البداية. باختصار، إما الوسائل الأربعة التي ذكّرنا بها سابقاً لوقف الحرب بكل افرازاتها، وإما قوة الدرء الذاتية وإما ضياع شعب ووطن وما أقسى ذلك من أن يُكتب وتقرأه الأجيال على صفحات التاريخ.

jabdosa@yahoo.com

 

آراء