ليس لهذا تأخرت الانتفاضة السودانية
بسم الله الرحمن الرحيم
أثبتنا في مقالنا (هل ستقوم الثورة السودانية؟ وهل نحتاجها؟) أن حال بلادنا في كافة مسببات الثورة أسوأ من البلاد التي تفجرت فيها ثورات بما لا يقاس، واليوم نتساءل لماذا تأخرت إذاً الثورة السودانية؟ سنتعرض اليوم لبعض الإجابات الرائجة والتي لا نراها السبب الحقيقي لتأخر الثورة، وفي المقال القادم نورد ما نراه أسباب تأخر الثورة.
تأخر الثورة السودانية برغم تاريخنا الغني كان مدعاة لتهكم بعض قادة المؤتمر الوطني أو مثار تنظيراتهم المطمئنة لعدم قيام الثورة في السودان. وقال بعض الإنقاذيين إن ذلك بسبب اتباعهم للإسلام بينما كانت قواه سندا أساسيا للثورات، وقال واحد استخف قومه منهم إننا قد أقمنا ثورتنا منذ يونيو 1989!! يقصد الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكم ديمقراطي نصبته ثورة شعبية فهل تصدق يا قارئي ويا قارئتي مبلغ ما وصل إليه القوم من استخفاف بالعقول؟ وقال أحد خبراء المؤتمر الوطني وهو مشهود له بدماثة الخلق وهدوء الكلمة –الدكتور حسن حاج علي- متسائلا لجمع من كوادر حزبي الأمة القومي والحركة الشعبية في يوم 12/4/2011م بدار الأمة: مهما ذكرتم من ضرورات الثورة في السودان إلا أنها لم تقم فهل نقدم عطاء (مطلوب إقامة ثورة) أم ننتظرها كما ينتظر غائب الشيعة؟
وتعليقا على كلام حاج علي نقول: نعم مطلوب إقامة ثورة، ولكن لن يكون أمامنا طويلا حتى ننتظرها لأن قوى الطرد المركزي تغلبت على قوى الجذب للدولة السودانية وكان أول الأجسام ذهابا الجنوب وهناك من ينتظر الفكاك، هذه العملية مربوطة بأحداث محلية وعالمية وإحداثيات إقليمية متعددة يمكن أن تجعل الثورة غير ممكنة في وقت ما لأن عوامل التشبيك والتناغم للتحرك الشعبي تكون قد فقدت للأبد بفقدان هيكل للدولة معروف، وهذا الانهيار للدولة هو ما تصفه التقارير التي تتحدث عن دول معرضة لخطر الانهيار والسودان ثالث دولة في مؤشر الدول الفاشلة (أي المعرضة للانهيار). علينا أن نوقف هذه العجلة الدائرة باتجاه الانهيار بأية وسيلة. الوسيلة الأولى هي التحول الاستباقي المتفق عليه فهل يستجيب النظام؟ هناك ملامح خلخلة وتذمر وتراجعات هنا وهناك ولكن فيما يبدو حتى الآن ليس هناك استعداد حقيقي وسط الجماعة أو الجماعات المتنفذة لمراجعة السجل بشكل ينذر بتراجع أصيل. هنالك محاولات للملمة التذمر ولشراء الوقت ولضرب هذا بذاك وغيرها من استراتيجيات (أموت أنا أو يموت الحمار أو يموت الأمير). وبالتالي علينا أن نعول على الثورة، وألا ننتظرها انتظار غائب الشيعة، بل علينا أن نحضرها. ولا بد أولا أن نعلم لماذا غابت؟ وقبل ذلك سوف نختبر التفسيرات السائدة حول غيابها.
بالنسبة للمسألة الإسلامية فنحن نعرف أنه كان للثورات القائمة ضلع إسلامي ولكنه لم يكن المبادر في تفجير الثورات دائما وإن شارك فيها بفعالية حتى صارت الجمع تـُتقى من قبل الطغاة لمسيرات ما بعد الصلاة. وفي السودان هناك قطاع هام من رافعي الشعار الإسلامي يقفون معارضين ومن بعضهم خرجت مسيرات الجمع ضد نظام المشير في 1985م ولن ننسى مسيرة الجمعة التي خطب فيها السيد الصادق المهدي بمسجد الهجرة بودنوباوي مؤكدا أن المتخلف عن هذا الركب المقدس "شيطان أخرس"، أما ما يسمى بالحركة الإسلامية (والمقصود الحركة التي أنشأتها النخبة) فهي منقسمة نصفين ونصفها الأقدر على استثارة الشعار الإسلامي والأوفر ثقة لدى أهله في الأرضين (المؤتمر الشعبي) والذي في صفه عراب الإنقاذ ومؤلف النص الأصلي يقفون معارضين، صحيح إنهم لم يبادروا بشرارة ولكنهم سوف يكونون إلى جانب الثورة لدى قيامها.
ولعل من أنبه الكتابات التي اطلعنا عليها لتفسير تأخر الثورة مقالة البروفسر عوض محمد أحمد المنشورة في سودانايل بعنوان (لماذا تأخرت انتفاضة أهل السودان ضد نظام الانقاذ؟) وقد فند ما يذكره كثيرون من سبب متمثل في ضعف المعارضة أو الأحزاب ووجود (الجلاكين) على سدتها قاطعا بأنه في ظل نفس هذه الأحزاب قامت ثورتا أكتوبر وأبريل وهم الآن أكثر تقدما منهم يومها بل هناك كثير من الأحزاب الحديثة ويقف على قيادتها شباب صغار ليس لها "صوت في تحريك الناس" و"ليس من (السلامة) دعوة عضوية الأمة والاتحادى للثورة على قياداتها: ففوق ما يبدو من الدعوة من لؤم وإثارة لشكوك القواعد وهم حلفاء محتملين فى أي انتفاضة: فللنظر إلى ما صنعه من ثاروا على الأحزاب التقليدية: لقد كانوا أسوأ وأضل: انظروا لمسار ونهار والدقير والشريف الهندى..إلخ". ونضيف إلى ذلك أنه في البلاد التي قامت ثوراتها كانت الأحزاب أبلغ ضعفا من الحالة السودانية والأحزاب ليست صانعة التغيير في كل الدنيا وإن كانت جزءا من طليعته. ربما قال البعض إن قوة التركيبة الحزبية الاستقطابية في السودان تحتم دورا أكبر للأحزاب منه في غيرها من بلدان الثورات، وظهر هذا جليا في اجتماع مزارعي مشروعي الرهد والجزيرة مع وفد حزب الأمة القومي الزائر في أبريل هذا كأنهم ينتظرون من الأحزاب أن تقول لهم اخرجوا دافعوا عن حقوقكم! لكننا نؤكد أنه إذا تهيأت الظروف للثورة فسوف يخرج الناس سواء كان للأحزاب شرف المشاركة أم لم يكن لهم ذاك.
واهتمت الكثير من التقارير بذكر معوق للثورة يكمن في سؤال (البديل) وقال البعض إن السودانيين جربوا الثورة مرتين من قبل ولم تحل قضاياهم وهم يتساءلون من سيأتي هل هي ذات الأحزاب التقليدية المجربة؟ هذا السؤال يعبّر عن حالة الشخصنة التي تسيطر على ذهنيات مأزومة لأن البديل بعد الثورة ليس مبارك أو بن علي أو بشير جديد، إنه نظام جديد لا يهم من يكون على سدته طالما سيحكم في دولة سيادة القانون، والأحزاب التي ستأتي مهما كان وصفها إنما يأتي بها الشعب السيد الذي يجب أن نحتكم إليه لا إلى سواه من هوى النخبة المدنية أو المعسكرة وعلى قدر اقتناع الشعب ببوارها سوف يكوّن بدائله المجدية. ولذلك قال البروفسر عوض محمد أحمد إن هذا التخويف من فلان أو علان أو وضع فيتو ضده ينم عن روح وصاية وإقصاء وتعالٍ على إرادة الجماهير، و"يشبه الخلاف على طريقة طبخ السمك وهو لا يزال فى جوف البحر"!! ونراه بدورنا صبرا على مسغبة عظيمة وإحجام عن صيد السمك بسبب الخلاف ليس على طريقة الطبخ ولكن على الطباخ! كلنا متفقون على طريقة الطبخ (نظام ديمقراطي وحكم راشد) ولنقل إن الطباخ هو الحائز على الثقة الأكبر بين الآكلين كائنا من كان، انتهى!
ودحضا لفكرة (جربنا) هذه نعود لانتفاضة السودانيين في 1985م والتي جاءت بعد التجربة الديمقراطية الثانية التي كانت عثراتها أكبر من الثالثة بكثير حيث شهدت الحل غير الدستوري للحزب الشيوعي السوداني 1965م، بل الحل غير الدستوري للجمعية التأسيسية نفسها (والجمعية المنعقدة تحت الشجرة) 1968م وغيرها من المحن حتى أن الانقلاب حينما قام كان رئيس الوزراء السيد محمد أحمد المحجوب مستقيلا وكان هناك فراغ دستوري. وبعد 16 عاما من حجب ذكر الأحزاب وتلطيخ سمعتها المستمر قامت انتفاضة رجب. أما الديمقراطية الثالثة فلم تشهد تلك المساقط وحينما قام انقلاب الإنقاذ كانت على باب القضاء على وحش الحرب وحائزة على أكبر سند برلماني منذ ميلادها، ولم تفلح الإنقاذ ولا يوما واحدا في تخويف الناس ليعتزلوا الأحزاب كما فعل النميري. كانت جدتنا السيدة قوت القلوب عبد الرحمن المهدي تقول لنا كنت حينما أزوركم في المنزل (أيام النميري العجفاء) لا أجد على الرمل سوى آثار أرجل ود أبرك وغيره من الطيور ما كان أحد يتجرأ على زيارتنا خوفا.. وفي أيام الإنقاذ الحلكاء حتى حينما كانت الدبابات تحاوط منزلنا كان الناس يأتون ليسألوا، لقد ثبت بعد زوال النميري أن البطش مهما طال ليلته قصيرة، فإذا كان الشعب السوداني انتفض بعد تجربة الديمقراطية الثانية بعلاتها الأكثر وتشويه مايو الفاشل، فإنه أقرب أن ينتفض بعد تجربة الديمقراطية الثالثة بعلاتها الأقل ومحاولات التشويه الإنقاذي الأفشل.
وذكر البعض من ضمن الأسباب الآلة الأمنية الباطشة والتي تفرق الجموع بوحشية وتمنع التظاهر، وهذا برأينا سبب مردود عليه بالتجربة العربية لنظم أشد بأسا من النظام الإنقاذي، إذا قامت الثورة السودانية الحقة فلن تقف أمامها ترسانة الأمن مهما اتخذت من إجراءات باطشة. وعجز محاولات التظاهر التي تمت ترجع إلى أسباب عديدة أهمها اختراق تلك التحركات أمنيا مما جعلها تستند إلى ساعة الأمن لا ساعة الشارع، وتكون في النهاية تحت السيطرة. وهذا ليس مربوطا بكفاءة الأمن بقدر ما هو مربوط بالاستناد إلى الطليعة الخطأ. سوف تفرز ظروف المقاومة السودانية رؤوسا حقيقية للثورة تستطيع التنظيم والتخطيط بنحو لا تدركه الغواصات، وحتى حينها فإننا نظن أن التحركات المخترقة مهما انتظم فيها من ثوار مخلصين هي وسائل لتثبيط الثورة وليست بشائر لها ولذلك توقفنا عن دعمها والتبشير بها ونعتقد أن أثرها كان سلبيا وصب في وعاء النظام لا في حافظة التغيير.
أما ما يقال من أنه سادت روح الأنانية والإثرة بين الناس فهذا ليس سببا لتأخير الثورة برأينا بل هو متلازمة مدنية في كل الدنيا، عبّرت عنها باقتدار قصة الشاعر والأديب السوداني سيد أحمد الحاردلو (ملعون أبوكي بلد) فالقصة تنتقد روح المدنية المتوحشة في مقابل روح الريف الطيبة وقد ذكرت لأستاذنا مرة إنني أشعر بالغبن له لتشويه مقولته تلك وسحبها على الوطن كأنه لعنه وهو من أفذاذ الوطنيين الغيورين، تبا للنقل الغبي والفهم المعوج وما أكثر ظلماته ومظالمه! الشاهد أن هذه المدنية المتوحشة ومتلازمتها من أنانية وتدافع كان أسوأ صورها في عالمنا العربي موجودا في القاهرة التي ضربت أروع أمثلة الثورة النبيلة في يناير وفبراير 2011م. هي عرضٌ لمرض الفاقة والعوز والصراع من أجل البقاء الذي تزيد الأنظمة الشمولية من أواره بإجراءاتها الكيدية ترغيبا وترهيبا مما يشيع الجبن بين الناس ويقلل المروءة ويعلي من الإثرة.. وحينما تأتي لحظة الانعتاق من ثقافة الأزمة والقهر تتحرر الشعوب من هذه الأمراض تحررها من الخوف استعدادا لخوض المنون نفسه من أجل غد أفضل.
نواصل بإذن الله حول الأسباب الحقيقية لتأخر الثورة السودانية، وهي تكمن في عوامل ديمغرافية وطبقية ودولية وإعلامية وفي مخاوف مما بعد الانفصال تصب أحيانا في الخوف من كل ما يمس الاستقرار، نشرحها تفصيلا بإذن الله.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]