ليلي ابو العلا والخوف من النظرة الثانية
هذه منتخبات من مواقف وأحداث وقضايا متفرقة نجمتها علي ايام الأسبوع، لكن يجمع بينها خيط ناظم وهو الإحتفاء بقيمة الثقافة التوثيقية خاصة في جانب التأليف الأدبي أو السياسي والإجتماعي.
الأحد: ليلي ابو العلا والخوف من النظرة الثانية
قارنت بين المقابلة التي اجراها تلفزيون السودان نهاية الأسبوع الماضي مع الروائية السودانية العالمية ليلي أبو العلا اثناء زيارتها للخرطوم بعد غيبة وبين المقابلة التي اجرتها معها اذاعة (يو بي آر الأمريكية) الشهر الماضي عن روايتها الجديدة (كرم الأعداء) التي يعكف بروفيسور بدرالدين الهاشمي علي ترجمتها. لقد جاءت سهرةتلفزيون السودان رتيبة الإيقاع وتقليدية الطرح لم تكشف عن مكنون ابداع الكاتبة سوي الحديث عن أثر البيئة وبناء الشخصيات خاصة في روايتها (حارة المغني) عن سيرة عمها الشاعر الراحل حسن عوض ابوالعلا. في المقابل كشفت ابو العلا في مقابلتها مع الإذاعة العامة في أمريكا عن صراع الهوية واثر الغربة في اكتشاف موهبتها الإبداعية حيث قالت إن الحنين والشوق للوطن والديار كان دافعها الاول للكتابة والابداع، اذ بعد انتقالها الي مدينة أبردين في اسكتلندا في سن الثالثة والعشرين وانتقال زوجها للعمل في حقول النفط ببحر الشمال أصبحت وحيدة مع طفلها فدفع بها الحنين والوحدة لعالم الكتابة الروائية، وهذا ايضا ما أشار اليه الطيب صالح عندما برر كتابته الإبداعية بانه يحاول ان يحفظ عالما يخاف عليه من الضياع. لا ادري قدر النخبة السودانية مع الغربة والنجاح إذ قال المليونير مو ابراهيم انه لو عاد للسودان بعد الدكتوراه لانتهي الي موظف مثقل بالاطفال وأداء واجب المناسبات الاجتماعية ، لكن تعلق سر نجاحه بمواصلة عمله في بريطانيا حتي اصبح من اغني أغنياء افريقيا والعالم. وقالت ليلي ابوالعلا للإذاعة الأمريكية وهي تتحدث عن هويتها كمسلمة في مجتمع أوروبي أنها ارتدت الحجاب في سن العشرين من عمرها، وقالت انه حفظها من مغامرة النظرة الثانية للرجل، وأشارت أن الرجال أصبحوا يتعاملون معها باهتمام اقل بعد أرتدائها الحجاب مما حفظ خصوصيتها وحماها من نظرات التلصص وهي تعلن ان خطوطها الوجدانية مشغولة. وقالت أنها لم تستطع اجبار ابنتها علي ارتداء الحجاب لأنه قرارها الخاص الذي يجب ان يصدر وفقا لقناعتها الذاتية. ما أعجبني هو اعتزازها بهويتها وتمسكها بقيمها وشخصيتها دون ان تذوب أو تتماهي مع الثقافة الطاغية في المجتمع البريطاني وهذا جزء من سر أصالتها الإبداعية وتميزها الأدبي.
الأثنين: محاكمة حسين هبري واسئلة العدالة والتمويل الغربي
اسدل الاسبوع الماضي الستار علي جزء من محاكمة الرئيس التشادي السابق حسين هبري امام محكمة افريقية خاصة في مدينة دكار بالسنغال. وقد ابرزت الصحافة العالمية الخبر بإعتباره نجاحا ونصرا للعدالة الدولية، خاصة وأن المحكمة قد تم انشائها بواسطة الإتحاد الأفريقي لتكون اول محكمة افريقية تحاكم رئيسا افريقيا سابقا. لكن المتأمل في وضع المحكمة يدرك سر النشوة الدولية بنجاحها الجزئي حتي الآن إذ من المتوقع أن يصدر القرار النهائي يوم 30 مايو القادم، وذلك لأن ميزانية المحكمة التي تبلغ 10 مليون دولار لم تدفعها الدول الأفريقية بل المجتمع الدولي الذي يشرف علي تمويل المحكمة الجنائية في لاهاي مما يقدح ليس في حيادية المحكمة فحسب بل يشكك في جدية العدالة في افريقيا ،اذ تسعي المنظمات الغربية لتأسيس فروعا للمحكمة الجنائية الدولية بوجوه أفريقية. لا سيما وأن المحكمة تعج بأصوات التجار والمحامين القادمين من باريس ويزدحم في ممراتها ممثلوا المنظمات الحقوقية الدولية مثل امنستي وهيومان رايتس ووتش ومندوبوا الغربية. إذا ارادت أفريقيا ان تخدم قضية العدالة والمسئولية والمحاسبة والإفلات من العقاب عليها ان تنفق وتمول محاكمها الخاصة لتحقيق العدالة من حر مالها، وليس من مال الدول والمنظمات الغربية التي تريد أن تؤسس فروعا للمحكمة الجنائية في أفريقيا بمال ابيض ووجوه سوداء
الثلاثاء: جمال قاسم وجه آخر للسومانية الفكرية.
كتب الدكتور جمال قاسم استاذ العلوم السياسية بجامعة (قرانت رابت) بأمريكا مقالا عن علاقة الحب والكره بين الخرطوم وواشنطون علي خلفية حملة التوقيع لوقف العقوبات الأمريكية علي السودان نشره في موقع هيفتنتون بوست، وقد أثار المقال جدلا واسعا بين المثقفين والقراء المتابعين للصحيفة لما احتواه من تحليل عميق ومعلومات غزيرة ورؤية سياسية ناضجة لمجمل التطورات التاريخية، وقال الدكتور قاسم إن النخبة السودانية التي تخرجت من الجامعات الغربية تكن أعجابا واضحا للنموذج الأمريكي تبدي ذلك في تبني سياسة التحرير الإقتصادي والحكم الفيدرالي والتوسع الأفقي في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. لكن لم تستطع التجربة السودانية ان تستلهم النموذج الأمريكي في الليبرالية والإنفتاح السياسي والديمقراطي، والحراك الإجتماعي. الدكتور جمال قاسم يميني الهوية وصنعاني القسمات لكنه سوداني الجنان والوجدان، حيث ولد ونشأ وترعرع في مدينة السوكي من اسرة يمنية محافظة ومتعلمة،وتخرج بدرجة الشرف في العلوم السياسية من جامعة الخرطوم، وبعد عودته الي صنعاء مع اسرته ابتعث لتلقي تعليمه العالي في الولايات المتحدة وأصبح استاذا اكاديميا مرموقا في دراسات الشرق الأوسط في الجامعات الأمريكية. رغم اهتماماته الأكاديمية والعلمية المتعددة، إلا أن التطورات السياسية والإجتماعية في السودان ماتزال تحتل جزء حيويا من ذاكرته وابحاثه ودراساته الأكاديمية. وسبق وان كتب مقالا عن الذكري الستين للاستقلال نشره في ذات الصحيفة قدم فيه تحليلا عميقا لتحديات بناء الدولة الوطنية في السودان.
رغم تباعد سنواته عن السودان التي قاربت الثلاث عقود الا ان روحه ومناقبه ونكاته وسخريته الذكية ما تزال سودانية كاملة الدسم، رغم ان هويته الانسانية تتقاسمها الخرطوم وصنعاء وميتشغان .
الأربعاء: مدام ياجي من باريس الي ام درمان
يحفظ تاريخ السودان المعاصر الوفاء لأهم امرأتين أوربيتين أرتبطتا بالسودان منذ منتصف عقد الخمسين من القرن الماضي هما جيرزلدا عبدالله الطيب وفيفيان محمد احمد ياجي.
(من باريس الي أم درمان:الدكتورة فيفان ناجي حياتها واعمالها)، واحد من امتع كتب السيرة الذاتية التي طالعتها مؤخرا، حيث عكف عليه مؤلفه الدكتور والصديق مكي بشير الذي يعمل في قسم الترجمة بالأمم المتحدة في نيويورك علي تحرير مسودته لمدة فاقت العقد من الزمان. وتحكي مسودة الكتاب عن ملحمة إنسانية نادرة مليئة بالوفاء والعبر،والعرفان. فقد أحبت أمينة ياجي السودان وأهله بدرجة تفوق الوصف، وهي تنحدر من اسرة كاثوليكية كانت تقيم بباريس.دخلت في رهانات روحية عميقة وهي ترتاد مدرسة الدراسات الشرقية بالسربون وتتلقي الدروس علي يد اشهر المستشرقين مثل ماسينيون وبلاشير اللذين تتلمذ علي ايديهما عميد الأدب العربي طه حسين. وقد حاول ماسينيون اقناعها بعدم اعتناق الإسلام وكذلك اثنائها عن الزواج من الطالب السوداني حينها محمد احمد ياجي الذي اعجب به طه حسين عندما كان وزيرا للتعليم. وتؤكد الروايات ان طه حسين اعجب بالطالب النابغة ياجي وهو يقدم خطاب الطلاب المبتعثين عند زيارته لجامعة فؤاد الاول (القاهرة حاليا). وأصر علي ابتعاثه الي جامعة السربون لمواصلة تعليمه العالي. يسرد الكتاب رحلة فيفيان غاغي الإجتماعية والفكرية والروحية والخدمات الجليلة التي قدمتها للثقافة السودانية من مؤلفات وتراجم وكتب هذا فضلا عن عملها الأكاديمي بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الخرطوم. ويعتبر كتابها عن الخليفة عبد الله الذي اعدته في الاصل لرسالة الدكتوراة وعكف تلامذتها علي ترجمته من الفرنسية من اهم كتبها علي الإطلاق لما تضمنه من دقة في البحث والتحلي بروح الإنصاف والدفاع عن الخليفة عبد الله الذي يكفيه كما ذكرت أن تشرشل في الجزء الثاني غير المنشور من كتابه (حرب النهر) قال أنه عندما انضم الي الهاربين من جيشه استقبلوه وقدموا له الحماية بدلا من قتله والإنقضاض عليه.
وللدكتورة امينة ياجي وهو الاسم الذي اختارته بعد إسلامها تجربة اخري وهي تتنقل مع زوجها الذي عمل سفيرا في وزارة الخارجية في عدد من الدول والبلدان بدءً من واشنطون مرورا ببغداد والسعودية والكونغو الا انها لم تستبدل بلدا بالسودان، و اجزم ان حبها لأم درمان اذا سطر شعرا لأحتل مكانة مرموقة في اجمل اغاني الدلوكة والتم تم.
هذا نداء الي السيد وزير الثقافة والهيئات ودور النشر لطباعة هذا الكتاب ونشره ، وقد عكف مؤلفه الدكتور مكي بشير علي جمع مادته والتنقيب عن معلوماته عبر سنوات من البحث المضني والمقابلات والإستقصاء، فخرج في ثوب قشيب من المتعة والفائدة العلمية، وهو كتاب غير أن يمثل رواية شاهدة عصر علي كثير من الاحداث والتطورات في السودان من خلال سيرتها الذاتية فهو ايضا يحمل قيمة الوفاء لأحد اهم الشخصيات الاوروبية التي تعلقت بالسودان وعاشت فيه وصارت جزءا من اهله ، وقد ارتضت أن تغادر باريس عام 1956 الي ام درمان التي تعلقت بها واحبتها وكتبت عن الثقافة والأحاجي السودانية وتاريخ البطولات في هذا البلد، وترجمت عدد من المسرحيات والقصائد والقصص وغيرها الانتاج الأدبي الي اللغة الفرنسية. وكانت وصيتها ان تدفن في مقابر حمد النيل. وما يزال شاهد قبرها يقول انها اعطت ولم تستبق شيئا.
الخميس:معركة السودان الصامتة في منظمة الصحة العالمية
خاض السودان معركة دبلوماسية صامتة في اروقة منظمة الصحة العالمية كللت فيها جهود فريقه العامل بالنجاح وهو ينتزع موافقة المكتب التنفيذي رغم الاعتراض الأمريكي لإعتماد مرض (المايستوما) أو الإلتهاب الفطري كأحد الأمراض المدارية المهملة. ويعتبر مرض المايستوما الذي يشتهر بأسم (النبت) من الأمراض التي انتشرت مؤخرا في مناطق الرعي والانتاج الزراعي خاصة في وسط السودان،و مع انتشاره الواسع يصبح العلاج متعذرا للحالات المتأخرة مما يؤدي الي بتر الأعضاء رغم سهولة أكتشافه في مراحل مبكرة من الإصابة بالمرض خاصة في الأرجل.ويشرف بروفيسور الفحل علي مركز ابحاث المايستوما بجامعة الخرطوم الذي يعد المركز التخصصي الوحيد في كل المنطقة ويستقبل حالات من بعض دول الجوار منها المملكة العربية السعودية. وينتشر المرض كذلك في دول أمريكا اللاتينية، بهذا القرار يتبوأ السودان مركزا دوليا متقدما في ابحاث هذا المرض وتطوير خطط العلاج والوقاية.
الجمعة: كتاب عمر السنين ايام
اهداني سعادة الفريق اول يحي محمد خير نائب رئيس هيئة الاركان كتاب (عمر السنين أيام) لمؤلفه العميد (م) منير حمد وهو يشتمل علي سياحة تاريخية ومراجعات عميقة لكثير من الاحداث والمواقف، ولكني انتخبت رواية من الكتاب اطالعها للمرة الاولي وهي ان الصاغ صلاح سالم في زيارته المشهورة للجنوب طلب من احمد السيد حمد حفظ حقيبته لاستلامها بعد عودته. ونسبة لحرصه وخوفا من ضياعها احتفظ بها خارج بيته وسلمها للاستاذ النصري حمزة الذي وضعها في منزله بحي المقرن بالخرطوم. وعند عودة الصاغ صلاح سالم من جنوب السودان أعاد احمد السيد استلام الحقيبة من النصري حمزة فوجدها مملوءة بالأوراق النقدية، فتعجب من أمانة النصري ، كما تعجب صلاح سالم من أمانة احمد السيد حمد.
لكن من المؤكد إذا صحت الرواية السابقة ان الصاغ صلاح سالم عاد بحقيبته فارغة الي القاهرة، لأنه انفقها في شراء المواقف السياسية لقادة بعض الأحزاب وزعيق الوطنية يملأ حناجرهم..
khaliddafalla@gmail.com