لينين الكاتب: زيارة قصيرة في مئوية الثورة الروسية
صدرت في عيد الثورة الروسية المائة هذا العام سلسلة من الكتب غنية البحث وحسنة الصياغة تروم الدروس والعبر وتستنطق الصامت من الأرشيف السوفييتي. بعضها استلهم بطولة لينين، السياسي المثقف صاحب الإرادة التي جرت التاريخ من قرونه دون تهيب، ككتاب طارق علي «معضلات لينين» وككتاب «أكتوبر الأحمر» للروائي جاينا ميفيل. قدم بعضها تاريخا جديدا للثورة من حادثات وملابسات العصر الروسي ذاك فاستنقذ حاضر الثورة، منعرجاتها ومطباتها الحرجة، من المستقبل الذي تلاها ليترك للقارئ فرصة أفضل للحكم على لينين والبلاشفة من واقعهم لا من أكثر ككتاب «الثورة الروسية، ١٩١٧» لركس ويد. كما صدرت دراسات اجتماعية رصينة للبيروقراطية الستالينية التي ولدت مع الثورة ورسمت طريقها رغما عن تحذيرات لينين العليل ككتاب شيلا فيتزباتريك «ضمن فريق ستالين: سنوات العيش الخطر في السياسة السوفييتية».
من ضمن هذه الكتب العديدة يبرز في صف لوحده كتاب «القرن السوفييتي» لصاحبه موشيه ليفن، حبر التاريخ السوفييتي، الذي سبق وجمر «وصية لينين»، الخطاب الذي كتبه لينين في الأسابيع الأخيرة من ١٩٢٢ والأولى من ١٩٢٣ على أمل أن يصوب به مسار الدولة السوفييتة من منبر مؤتمر الحزب الشيوعي الثاني عشر، في كتابه الرشيق «معركة لينين الأخيرة». أحاط ليفن بوثائق من بطن البيروقراطية السوفييتية الغريق حرر بها تاريخ الدولة الاشتراكية الأولى من ركام الحرب الباردة فأخرج للقارئ تاريخا لولبيا ينطق بالمستجدات والحلول الظرفية لمصاعب ضاغطة غير الصيغة النمطية الخطية التي تصور ذلك التاريخ سيرة واحدة للتدهور من خطيئة أولى، إما ثورة ١٩١٧ ذاتها عند أعداء لينين أو سلطة ستالين عند أنصار لينين المحبين أو انقلاب ستالين الدموي على البلاشفة في عهد «الرعب العظيم»، ١٩٣٦-١٩٣٨، وفق ترقيم خطاب خروتشوف أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام ١٩٥٦ لتاريخ دولة ستالين.
التقطت كاثلين سميث قفاز هذ التاريخ في عام «الذوبان» ذاك، تعبير صكه الكاتب اليا اهرنبرغ وكان عنوانا لروايته عن ذات القضية، لوصف عهد الخروج من «الخنقة» الستالينية والذي امتد ربيعا سوفييتيا حتى انقلاب البيروقراطية على خروتشوف في ١٩٦٤. يفصل كتاب سميث «موسكو ١٩٥٦: الربيع المكتوم» في ردود الأفعال داخل الاتحاد السوفييتي على خطاب خروتشوف ذو الأربع ساعات بينما ركز سواها على استقبال التحول عن الستالينية خارجه، بالدرجة الأولى في دول حلف وارسو وفي الدول الرأسمالية. تكشف سميث عن حيوية لينينية استعاد بموجبها شباب الكومسومول (رابطة الشباب الشيوعي) الثقة في مبادراتهم الذاتية فساقهم طلبهم الاشتراكية إلى الأرياف السوفييتة للعمل الطوعي في مواقع البناء وفي حصاد الأراضي التي امتدت إليها الزراعة حديثا في كازاخستان وفي سيبيريا. اصطدم اللينينيون هؤلاء بواقع بناء الاشتراكية الذي رشح له لينين «الثقافة» كاستراتيجية مقدمة في وصيته الأخيرة: إهمال وفساد القيادات السياسية المحلية وفقر وتخلف المجتمعات الريفية. اكتشفت فرقة من فرق الكومسومول مثلا تباينا ظالما في الأجور بين النساء والرجال في إحدى المشاريع الزراعية الجديدة حيث كانت تقل «يومية» النساء بكثير عن الرجال فكان رد فعلهم جمع كل أجورهم وإعادة توزيعها مساواة بينهم كأسنان المشط. كان هوى هؤلاء ما يزال لينينيا وجدوا الإلهام في تقاليد روسيا الثورية وفي جهاد لينين «سيد الإسم»من أجل الاشتراكية لا في الرأسمالية الغربية. نقلت سميث عن أحد منشوراتهم: ”أيها الطلاب! الستالينينة ما زالت حية! سقطت راية لينين تحت الأقدام بدليل تعاظم الاستبداد في بلادنا وبدليل أحداث بولندا والمجر حيث كرت الدبابات السوفييتية على الحرية“.
يبرز هنا صدق حدس اهرنبرغ فالذوبان دورة عاد بعد نفسه الدافئ جليد الشتاء السوفييتي الطويل تحت حكم برجنيف. تقصى موشيه ليفن في كتابه «القرن السوفييتي» تقريرا أعدتة لجنة من الأكاديمية السوفييتية للعلوم بتكليف من رئيس الوزراء كوزيغين في العام ١٩٦٦ لتقييم أحوال الاتحاد من زاوية المنافسة مع الولايات المتحدة الأميركية. أثبت العلماء السوفييت في تقريرهم أن الاتحاد متأخر عن الولايات المتحدة في كل المؤشرات عدا تلك التي كانت تعد مقياسا للتقدم في أواخر القرن التاسع عشر. ردة الفعل البيروقراطية كانت تجديد العقيدة في النظام السوفييتي كما هو مع تقرير أن العلة تكمن في تبديد الموارد وسوء إدارتها - أو في رأي أعداء كوزيغين داخل المكتب السياسي فشل رئيس الوزراء - دون اعتبار لتلميح علماء الأكاديمية أن التبديد الفاحش ليس سوى عرض لعلل البيروقراطية السوفييتية التي سبق لينين وحذر منها قائلا ما هي سوى البيروقراطية القيصرية في لبوس اشتراكي. على كل، شكل مجلس الوزراء في ١٩٦٦ مفوضية جديدة ذات صلاحيات واسعة بإسم «مفوضية توفير موارد الدولة» لدراسة قطاعات الاقتصاد الرئيسة. أصدرت هذه الهيئة تقريرا ضخما نقل عنه ليفن ضمن علامات مرضية أخرى تخزين المواد الخام حتى تفسد في المصانع خوفا من احتباسات التوريد، الارتفاع المتسارع لتكلفة توزيع السلع الاستهلاكية، تزايد الأجور دون زيادة مقابلة في الإنتاجية، التدهور الشديد لقدرات الاتحاد البحثية بسبب التخلف التكنولوجي والتباطؤ غير المبرر في تطبيق المستحدثات التكنولوجية في القطاعات الإنتاجية.
عند ليفن كان كعب أخيل الاتحاد السوفييتي، للمفارقة، عجزه عن الإدارة الفعالة لقوى العمل. الاتحاد الذي بلغ سكانه في ستينات القرن الماضي ٢٧٠ مليون نسمة وجد صعوبة شديدة في تحريك قوى العمل داخله لتقابل احتياجات الاستثمار فارتبك التوازن الحساس بين الأهداف الاستثمارية والمردود الاقتصادي والقوى العاملة. عرض رئيس معهد البحوث التابع لهيئة غوزبلان (لجنة الدولة للتخطيط) في الاتحاد الروسي، كازيموفسكي، هذه المعضلة على صفوة من المسؤولين السوفييت في محاضرة عام ١٩٦٨بعنوان «مشاكل العمل ومستوى المعيشة». نبه كازيموفسكي إلى النقص الحاد في قوى العمل في المراكز الحضرية الكبرى، موسكو ولينينغراد وكوبيشيف وشليابنسك وسفردلوفسك، بسبب تناقص أعداد الشباب الداخلين سوق العمل والسبب المباشر تناقص أعداد المواليد الملحوظ بخاصة في المناطق الحضرية رغم الزيادة المعتبرة في متوسط الأعمار. كان عدد المواليد في الاتحاد السوفييتي وقتها أدنى منه في الولايات المتحدة وفي الدول الاشتراكية الأخرى حيث بلغ المعدل في العام ١٩٦٨ ٢.٦ لكل سيدة (١.٩ في الحضر و٣.٣ في الأرياف) بينما يبلغ الحد الطبيعي المطلوب لإعادة الإنتاج الديموغرافي ٣ مواليد لكل سيدة. معنى ذلك أن المدن السوفييتية كانت تعتمد في إعادة إنتاج نفسها سكانيا على الهجرة من الأرياف. مرد ذلك في تقدير كازيموفسكي كان بجانب أهوال الحرب والمجاعة في الثلاثينات والأربعينات هو الزيادة الحادة في تشغيل النساء في القطاعات الإنتاجية، بخاصة الأعمال الثقيلة غير المميكنة كالتعدين وصناعة الماكينات وتحوير المعادن، التي لم يقابلها توسع مقابل في الخدمات اللازمة لرعاية الأطفال حتى تستطيع جموع العاملات تحمل مسؤولية إعادة الإنتاج الاجتماعي بجانب الإنتاج الاقتصادي. ضاعف من نقص العمالة هروب القوى العاملة إلى الإنتاج الزراعي المنزلي حيث أدارت نسبة مقدرة من قوى العمل ظهرها لقطاعات الإنتاج التابعة للدولة وفضلت عليها الإنتاج شبه المعيشي في المحيط المنزلى بجانب التزايد المتوقع لنسبة المعاشيين بسبب التحسن المضطرد لمتوسط الأعمار وتناقص أعداد المواليد. إلى ذلك، تسببت الهجرة المتضاعفة من الريف إلى الحضر في نقص شديد في القوى العاملة الشابة حيث الحوجة أعظم إليها، في قطاعات الزراعة الآلية. عام ١٩٦٨ كان متوسط أعمار العاملين في مزارع الدولة خمسين عام بمعدل رجل قادر واحد لكل أسرتين. شبه كازيموفسكي في محاضرته البحث عن قوى العمل في الاتحاد السوفييتي بكشط قاع برميل فارغ.
كان للثورة الروسية في شأن المرأة رأي آخر. أنشأ حزب لينين في العام ١٩١٩ زينودتيل (هيئة العمل وسط النساء العاملات والفلاحات) كقسم تابع لسكرتارية اللجنة المركزية. ضمت هذه الهيئة كما يخبرنا طارق علي في كتابه «معضلات لينين» رائدات شيوعيات كان لهن دور مقدم في النضالات التي أخرجت ١٩١٧ إلى الوجود مثل انيسا أرماند والكساندرا كولونتاي وصوفيا سميدوفيتش. جعلت الهيئة هدفا لها تحرير المرأة باعتباره أحد المهام التي تجابه الثورة وأول ما تصدت له هو تحرير المرأة من عبء العمل المنزلي وتحويل ذلك إلى مسؤولية الدولة الثورية. كان مطلب زينودتيل أن توفر إدارات المدن خدمات مجانية لرعاية الأطفال أثناء ساعات العمل ومواقع عامة للطعام والغسيل. وجدت أهداف زينودتيل تطبيقا لها في هندسة بناء المجمعات السكنية للعمال ما بعد الحرب الأهلية في الاتحاد السوفييتي خاصة على يد مويزيه غينزبورغ. نالت زينودتيل كل الدعم من لينين الذي اشتهر بكرهه للعمل المنزلي. ”العمل المنزلي الوضيع“، قال صاحب «الدولة والثورة» في ١٩١٩ في غضبة لفظية، ”يحطم المرأة ويقهرها ويحط من شأنها، يكبلها في المطبخ وغرفة الأطفال فتبدد كل وقتها في أعمال غير منتجة، حقيرة، تحطم الأعصاب وتبلد الذهن وتبعث على الملل الفظيع“.
لكن لم تدم الحرية طويلا إذا سرعان ما أطاحت الردة الستالينينة بهذه المكاسب وانتصرت عقيدة المحافظة لتؤكد الأدوار التقليدية للمرأة. كان لنشاط مناضلات زينودتيل عظيم الأثر على حياة المرأة في الاتحاد الوليد انتشرن في المدن والأرياف سلاحهن «الثقافة» التي بشر بها لينين، حاربن الأمية والجهل وأخذن بأيدي النساء حيثما كن حتى بلغن المسلمات في أقطار آسيا الوسطى. بفضل مجهودات زينودتيل شرع الاتحاد السوفييتي حق الإجهاض المجاني في مستشفيات الدولة عام ١٩٢٠ في سابقة هي الأولى في التاريخ. أثار نجاح زينودتيل الباهر في تنظيم النساء حفيظة ستالين ورجاله، خاصة وقد اكتسبت الهيئة ثقة النساء السوفييت بل مثلت زينودتيل قابلة المرأة السوفييتية الجديدة إذا جاز التعبير، فأطاح ستالين بالهيئة بأمر ديكتاتوري في ١٩٣٠ كما أطاح بعدد من التشريعات التقدمية التي كان لزينودتيل الفضل في اعتمادها ضمن نشاطها الثوري.
كل ما تخوف منه لينين في وصيته قد كان بدءا بما أصاب جثته على يد ستالين والمكتب السياسي، مات ليبعث صنما محنطا في الكرملين رغم الاعتراض الشديد الذي أبدته زوجته ناديه كروبسكايا وكل أفراد عائلته (آل اوليانوف). تحول الثوري الباسل على يد ستالين، طالب المعهد الكنسي السابق، إلى قديس بيزنطي. قدمت عند نعشه زوجته كروبسكايا دفاعا نيرا عن هذا الثوري قائلة: ”يا أيها الرفاق، العمال والعاملات، الفلاحين والفلاحات، أتوسل إليكم، لا ترفعوا له التماثيل ولا تسموا بإسمه القصور ولا تقيموا المهرجانات الفخيمة المهيبة في ذكراه - لم تكن أي من هذه الأمور تعني له شيئا في حياته بل كانت عبئا عليه. أذكروا كم من فقير معدم في بلادنا. إذا كنتم حقا تريدون إجلال أسم فلاديمير اليتش فأسسوا دورا ورياض للأطفال، بيوت ومدارس ومكتبات وخدمات إسعاف ومستشفيات ودورا للمعاقين، وفوق كل ذلك كونوا شهودا بأفعالكم على مبادئه.“ كان لينين على وعي جارح بما قد يصيب مأثرته وأفكاره خاصة في شأن أولوية السياسة والامبريالية وتقرير المصير للقوميات والدولة-الكومونة. وقد حذر كأنه يكتب شاهد قبره: ”متـى مات الثوري تكررت المحاولات لتحويله إلى أيقونة خالية، أو قل لتقديسه، لتفريغ إسمه من المعنى حتى يصبح بدرجة أو أخرى شارة لمواساة المقهورين بهدف خديعتهم وفي ذات الوقت اختطاف النظرية الثورية، ثلم نصلها و ابتذالها.“
عدت في مناسبة الذكرى المائة لثورة ١٩١٧ إلى بعض نصوص لينين التي تشع ما زالت بحيوية كاتبها وعقيدته في أولوية المبادرة البشرية فلم أجد أصفى معنى من كلمته البليغة في الحث على البدء من البداية، التراجع للتقدم مرة أخرى، كلمة كتبها لينين في أواخر فبراير ١٩٢٢ ونشرتها برافدا في ١٧ أبريل ١٩٢٤. سألت نفسي من يجدد حياتها بالنشر معربة وقد انكتم نفس الحزب الشيوعي السوداني وصد بابه فلم أجد سوى صاحب الممر، مأمون التلب، هذا اللينيني من جهة أنه لا يعدم المبادرة أبدا ولا تنتهي محاولاته يبدأ من البداية كأن كل مرة هي أول مرة، فهذا الجزء الأول منها والثاني لمن رغب.
ف. إ. لينين
من دفتر داعية
عن تسلق جبل عال، مثالب القنوط (…)
كتب في نهاية فبراير ١٩٢٢ ونشرته برافدا في ١٦ أبريل ١٩٢٤
ضمن الأعمال الكاملة، الإصدارة الانجليزية الثانية، المجلد ٣٣، ص ٢٠٤-٢١١، دار التقدم، موسكو ١٩٦٥
١. على سبيل المثال
دعونا نتصور رجلا يتسلق جبلا سامقا شديد الانحدار ولما يسبق استكشافة. دعونا نفترض أنه تفوق على مصاعب ومخاطر غير مسبوقة ونجح في الوصول إلى موقع لم يصل إليه كل من سبقوه لكنه لم يبلغ القمة بعد. يجد نفسه في موقع حيث التقدم في الوجهة التي اتخد والطريق التي اتبع ليس فقط شديد الخطر بل مستحيل. يجد نفسه مجبر على التراجع، على الهبوط، على اتخاد درب غير الذي سلك، درب أطول ربما لكنه يصل به إلى القمة التي يبتغي. يثبت للمسافر الذي نتصور أن الهبوط من الارتفاع الذي لم يبلغه سواه من قبل أشد صعوبة وخطرا من الصعود - فالانزلاق قريب، ليس من السهل أن يجد موطئ قدم ثابت وليس في مساره إلى أدنى تلك النشوة الذي تصاحب الصاعد إلى أعلى مباشرة نحو الهدف. لا بد لصاحبنا أن يؤمن نفسه بحبل، أن يقضي الساعات يحفر بعصاه ذات النصل موقعا لقدميه أو نتوءا يربط عليه حبل أمانه، لا بد له أن يتحرك بسرعة الحلزون متجها إلى الأسفل بعيدا عن هدفه المرتجى، ولا يدري أين سينتهي به هبوطه الخطر والعصيب هذا، أو إن كان ثمة سبيل آمن تمكنه من الصعود مرة أخرى وبثقة أكبر مباشرة نحو القمة.
لا مناص أن من تسلق إلى هذا العلو غير المسبوق ثم وجد نفسه في موقع المتراجع سيصيبه شئ من اليأس. الأغلب أن أحايين يأسه هذه ستتزايد وتتسارع ويشتد بأسها عليه متى ما سمع أصوات القابعين في الأسفل، في أمان السهل، يراقبون هبوطه الخطر عبر منظار مكبر، هبوط لا يمكن حتى توصيفه بأنه «صعود بفرامل»؛ الفرامل تفترض وجود سيارة مجربة حسنة التصميم وطريق معبدة. لكن، في هذه الحالة ليس ثمة سيارة ولا طريق، ولا شئ على الإطلاق سبق اختباره.
تجلجل الأصوات من الأسفل بسرور خبيث لا يخفيه أصحابه، يتضاحكون مرحين وتعلو أصواتهم: ”سيسقط في لحظته، يستحق هذا المجنون“. يحاول آخرون إخفاء شماتتهم ويتصرفون في الغالب كما فعل جوداس غولوفيلوف. يتأوهاون ونواظرهم معقودة نحو السماء بحزن ظاهر، لسان حالهم يقول: ”أشد ما يؤلمنا أن تحقق ما كنا نخشى! لكن ألم نحذر ألا بد من تأجيل هذا الصعود حتى تكتمل الخطة اللازمة ونحن الذين قضينا العمر كله نرسم خطة لإخضاع هذا الجبل وبلوغ مراقيه؟ ألم نعترض بكل ما نملك ضد اتخاذ هذه الطريق التي تراجع عنها الآن هذا المخبول (أنظروا، ها هو يعود الخطى إلى الأسفل! تأخذ منه الخطوة الواحدة ساعات من التحضير. رغم ذلك طالنا الهجاء النزق وقت كنا ننصح بالتريث والتأني!). وقت وقفنا ضد هذا المخبول وحذرنا الجميع من محاكاته ومساعدته فعلنا ذلك بدافع من التزامنا بالخطة العظيمة لبلوغ مراقى هذا الجبل ومنعا لتسفيهها!
لسعادته، لا يستطيع المسافر الذي نتصور في الظروف التي رسمنا أن يسمع أصوات هؤلاء «الأصدقاء»، مناصري فكرة صعود هذا الجبل. لو فعل لأصابه الغثيان، والغثيان كما يقال لا يساعد على رجاحة العقل وثبات الخطوة خاصة في الارتفاع العالي.
٢. دونما استعارة
لا يغني القياس عن الإثبات، وكل قياس ذابل. هذه حقائق معلومة وغير قابلة للتبديل؛ لكن لا تضر استعادتها لرسم حدود القياس بكل وضوح.
صعدت البروليتاريا الروسية إلى ارتفاع شاهق في الثورة، ليس فقط حين المقارنة مع ١٧٨٩ و١٧٩٣، لكن أيضا مقارنة مع ١٨٧١. يجب علينا الاعتبار فيما حققنا وفيما عجزنا عن تحقيقه بكل صراحة ودقة وبغير أيما انفعال. فقط عندها يمكننا الحفاظ على أذهاننا صافية. لن نعاني وقتها من الغثيان أو التهيؤات أو القنوط.
لقد أكملنا الثورة البرجوازية الديمقراطية بفعالية تفوق أي سابقة في العالم. هذا كسب عظيم وليس في يد أي قوة على الأرض أن تحرمنا منه.
حقننا مهمة الخروج من حرب امبريالية رجعية بطريقة ثورية. هذا أيضا مكسب لا يمكن أن تنزعه عنا أية قوة في الأرض؛ وهو مكسب تتأكد قيمته بمعرفة أن المجازر الامبريالية لا مهرب منها حتى في المستقبل القريب ما دام وجود الرأسمالية؛ ولن يرضى أهل القرن العشرين بذات السهولة بنسخة جديدة من «إعلان بازل» الذي استغفل به المتخاذلون، أبطال الأممية الثانية والأممية الثانية والنصف، أنفسهم والعمال في ١٩١٢ وفي ١٩١٤-١٩١٨.
لقد أنشأنا دولة سوفييتية الطابع وبذلك دشنا عصرا جديدا في تاريخ العالم، عصر حكم البروليتاريا والذي سيزيح ويتفوق على عصر حكم البرجوازية. ليس باستطاعة أحد أن يحرمنا من هذا أيضا رغم أن الدولة السوفييتية لن تكتمل سماتها سوى بتراكم التجارب الفعلية للطبقة العاملة في دول عدة.
لكنا لم نكمل حتى وضع أسس الاقتصاد الاشتراكي، وباستطاعة قوى الرأسمالية المتهالكة المعادية أن تحرمنا من هذا المنجز. علينا الاعتراف الصريح بذلك والاعتبار في تبعاته؛ ليس هناك من خطر أعظم من التهيؤات (والدوار، خاصة في الارتفاعات العالية). فوق ذلك، لا خطب في الاعتراف بهذه الحقيقة المرة ولا تبرير لأيما قنوط؛ لما، لأننا دعونا وأعدنا الدعوة لأوليات الماركسية - ألا مناص من المجهودات المشتركة للعمال في عدة دول متقدمة لنصر الاشتراكية. ما زلنا لوحدنا في هذه الطريق وذلك في بلد متخلف، بلد ناله الدمار أكثر من سواه، لكنا أنجزنا الكثير. أكثر من ذلك - لقد حافظنا على سلامة جيش القوى البروليتارية الثورية؛ حافظنا على قدراتها في المناورة؛ حافظنا على أذهاننا صافية وتدبرنا أمرنا بكل رجاحة، متى وإلى أين نتراجع (حتى نتمكن من الوثوب أبعد)؛ متى وكيف نستعد للعمل حتى نكمل ما تبقى ناقصا. إن الشيوعيين الذين يتصورون أن بإمكانهم التصدي لمهمة جبارة كإكمال أسس اقتصاد اشتراكي (بخاصة في بلد يسوده الفلاحون الصغار) دون ارتكاب أخطاء ودون تراجع ودون تصويبات عديدة لما تبقى ناقصا وما تأسس خطأ محكوم عليهم بالفشل. أما الشيوعيون الذين تحرروا من التهيؤات، والذين لا يستسلمون للقنوط ويحتفظون بقواهم وبالمرونة اللازمة «ليبدأوا من البداية» مرة تلو الأخرى وهم يتصدون لمهمة غاية في الصعوبة فلا خوف عليهم (وحظهم أغلب الظن البقاء).
فوق ذلك، المجال جد ضيق للاستسلام حتى لأدنى درجات القنوط، فليس من داع لذلك ولو قليل. رغم الخراب والفقر والتخلف والمجاعة التي تفتك ببلادنا أفلحنا في باب الاقتصاديات التي تفتح الطريق للاشتراكية في تحقيق بعض التقدم بينما لا زالت دول حول العالم، أكثر تقدما وأثرى بآلاف المرات وأقوى عسكريا، تتقهقر في مجالات الاقتصاد الرأسمالي الذي سلخت فيه قرونا من العمل والتجربة.
m.elgizouli@gmail.com