يقول الشاعر الكبير محمد الفيتوري في رائعته "إبتسمي حتّى تمرَّ الخيل": هذا مسار نجمِهم يركضُ في الزاويةِ الكُبْرى قليلاً ثم ينهارُ رماداً ، راسماً في جبهةِ الشرقِ وعيْنَيْهِ علامهْ.. شهادةَ الميلادِ ، و الموتِ و شارةَ القيامهْ فابتسمي حين يجئُ قمرُ الثورةِ في أرديةِ القتْلَى ويمشي الهوْدجُ الأسودُ محمولاً على محفّةِ الأصيلْ ابتسمي حتّى تمرَّ الخَيلْ !
كانت ليلة أمس الأول طويلة وقاسية بما حوته من انتظار. سهرتُ مثل غيري من الملايين من أبناء وبنات هذا الوطن نترقّبُ ما يسفر عنه حوار الغرف المغلقة بين ممثلي قوى الثورة السودانية والمجلس العسكري. المجلس القادم للمشهد من بطن نظام أضاع من عمرنا ثلاثين سنة، وما فتئ يبحث في دماء شهدائنا عن موضع قدم! سهرت مثلما سهر الملايين المنتشرون في أصقاع الكرة الأرضية ، ويدي على قلبي. كنت أعرف مثل غيري أنّ ما سوف يعلنه علينا المجتمعون والوسيطان لن يخرج من أحد احتمالين: إما التوافق على ما جاء في الوثيقة الدستورية، بحيث يبرز منها وجه الدولة المدنية الديموقراطية ناصعاً - ووثيقة السلام التي تم توقيعها مع حركات الكفاح المسلح كأولوية في بنود الوثيقة الدستورية. أو أن يصل الحوار إلى طريق مسدود ؛ فنعود للمربع الأول: الشارع الذي لا يخون، لكنه أيضاً شارع الرصاص والموت. والإحتمال الثاني هو ما كان ينتظره أعداء الثورة السودانية: فلول النظام البائد وكفلاؤه من محاور ضربت الثورة السودانية مصالحها وأطماعها في السودان في مقتل! نعم ..كانت ليلة طويلة وقاسية بما حملت من انتظار صعب!
(2) أصدّق دموع الدقير وآخرين! وتحوم حولي أسراب الأسئلة. كل سؤال يغرس خنجره في لحمي. سؤال يقول : هل كتب عليك وجيلك ألا تروا طلوع شمس الحرية من وراء غابات النخيل والتبلدي والجوغان في بلادك؟ وأقسى منه ذلك السؤال: هل تذهب سدىً تضحيات ملايين أبناء وبنات هذا الوطن الذين زهق نظام الإبادة الجماعية مئات الآلاف منهم في قرى وحلالات دار فور وفي جبال النوبة والأنقسنا وهضاب الشرق وفي كجبار؟ هل تذهب هدراً أرواح مجدي وجرجس وعلي فضل والتاية ومحمد عبد السلام وكل شهداء الجامعات وشهداء سبتمبر 2013 ومن بعدهم رتل من الشهداء - جلهم من الشباب - منذ الإنفجار الكبير في عطبرة يوم 19 ديسمبر 2018 لواحدة من أكبر ثورات العصر بما تميزت به من تفوق للسلمية على الرصاص الجبان؟ يعصر قلبي السؤال تلو السؤال. تسع وعشرون سنة بالمنفى، هي عمر أصغر أطفالنا. هو - وأخته وأخوه - وإن لم يحظوا بمشاركة أقرانهم تظاهرات رفض الحكم الفاشي داخل الوطن – إلا يعرفون بأن لهم وطناً يعيش محنة..وأنه ببطولات بناته وأبنائه على مرمى حجر من صناعة التاريخ!
.. وتخرجني من صمتي ضجة تطلع من شاشة الهاتف، وإذا بالمندوب الأفريقي البروفيسور لباد وزميله السفير درير ابن الشقيقة إثيوبيا وهما أمام كتلة مايكرفونات فضائيات لا حصر لها. كان العالم كله حضوراً ليزف البشارة (عدا ما يعرف بتلفزيون السودان، ذلك الوليد غير الشرعي للإنقاذ)! وما أن أعلن المندوب الأفريقي وزميله السفير الأثيوبي خبر انتهاء الجولة بالتوافق التام بين الطرفين، حتى ضجّت القاعة بالهتاف والتصفيق. ثم أعقبهما ممثلا الوفدين: المهندس عمر الدقير عن الحرية والتغيير والفريق محمد حمدان دقلو عن المجلس العسكري، مبشرين بإطلالة شمس جديدة لوطن جديد، يولد من رحم المعاناة بكل ما تعنيه الكلمة! وتخنق العبرة المهندس عمر الدقير وهو يقدم لكلمته بأبيات للشاعر السوداني الراحل النور عثمان ابكر. وتكتظ الساحة أمام مبنى قاعة الصداقة وشارع النيل بالآلاف الذين هم مثلي - عصاهم النوم. جاءوا من أطراف عاصمة البلاد التي كانت تترقب الخبر. ملأوا ساعات الصباح وحتى طلوع الشمس بهدير هتافهم تعبيرا عن انتصار ثورة لا يشبهها في عزيمة وشجاعة شبابها وشاباتها ورجالها ونسائها حدث في عصرنا. ثورة يقف الرصاص عاجزاً لثمانية أشهر أمام صدور أبنائها وبناتها العزل وهم يهتفون: سلمية .. سلمية!! ويتعانق الشباب في الشوارع المكتظة بالحشود وهم يهتفون: البلد دي بلدنا ، ومدنية حقتنا ! وحق لهم ذلك!
لم أر الشوارع معبأة بالفرح منذ ثلاثين سنة كما رأيتها طوال ذلك اليوم. ولم أشهد دموع الرجال سخية وهم يتعانقون داخل القاعة عقب تلاوة الكلمات كما شهدتها تلك اللحظة. شهدتهم وهم يتعانقون فتخونهم الدموع : الدقير وخالد سلك ومدني عباس مدني وآخرين. حبسوها طويلاً في الصدور ، وحان أن يذرفوها فرحاً.
أصدّق دموعهم: فهي دمعة الإنتصار على دولة القمع والإستبداد ودمعة الحزن على فوج الشهداء الذين مهروا هذا العرس بدمائهم الزكية..ثم دمعة الفرح بما نحلم به من سودان جديد قد نتقدم به أميالا ونتراجع ، ثم نتقدم أخرى حتى نبنيه (البنحلم بيهو يوماتي) كما قال شاعر الشعب محجوب شريف له الرحمة. رأيت دموع الشباب..لكن غلبني الدمع. انتظرته ثلاثين سنة، ولم يطاوعني!
(3) ما النصر إن لم يكن ما أنجزه شعبنا أخيراً؟ قرأت الوثيقة الدستورية. واستمعت لآراء بعض فقهاء القانون حولها. ثم إنني قرأت في اليومين الفائتين كثيراً مما أثير حولها من لغط. وسبب انحيازي دون تردد لما أنجزه شعبنا ممثلاً في قوى الحرية والتغيير بتوقيع هذه الوثيقة الهامة ألخصه في النقاط الأربع التالية: * أولاً: لم أقرأ عن أي طاولة حوار بين طرفين متنازعين أن خرج طرف فيها وقد حقق كل ما لديه. إنّ النصر الحقيقي في حالتنا يحسب بالكم الأكبر مما أنجزه وفد الحرية والتغيير من أهداف رفعتها الثورة. وإذا كانت الوثيقة قد ضمنت الدولة المدنية ممثلة في جهاز تشريعي بأغلبية ساحقة وجهاز تنفيذي لا شراكة فيه لأحد وجهاز سيادي يعطي الثورة الأغلبية مقابل الطرف الآخر .. ما النصر إذن وكيف يكون؟
* ثانياً: لم يحدث في الانتفاضتين السابقتين أن ترأس مدني الفترة الإنتقالية. لكن بحرص الثوار على تحقيق أهداف الثورة كسبنا مرحلة انتقالية كافية لكنس آثار النظام البائد وتفكيك دولته العميقة. * ثالثاً: إعطاء السلام الأولوية في وثيقة دستورية بضمانة دولية (الإتحاد الأفريقي). * رابعاً: هذه أول مرة يكون الجهاز التنفيذي فيها مراقباً بهيئة تشريعية ممثلة بمختلف الفئات، مما يتيح لشباب الثورة وللمرأة كعنصر أساسي في الثورة أن يجدا مكانها في هيئة تشريعية تحقق ما خرجوا من أجله من أهداف وتضمن إرساءه كحق وليس منحة من أحد.
نحترم الرأي الذي يقول بعكس ما قلنا ، لكنا نرفض الغلو. وإذا كانت السياسة هي فن الممكن، فقد ضمنت هذه الوثيقثة كل ما بإمكانه أن يحرس هذا الإنجاز التاريخي الضخم من السرقة والإحتواء. وأي محاولة لأعداء الثورة لإجهاضها فإن الوعي الذي تسلح به الشارع قمين أن يضع عجلة قطار الثورة في مجرى التاريخ من جديد. الشيء الذي أعرفه مثلما اعرف باطن كفي أنّ ثورة شعبنا سجلت انتصارا يعرفه أعداؤها وأن نظام الإسلامويين المسمى بالإنقاذ في السودان قد صار في ذمة التاريخ. ولم أعرف أن نهر التاريخ قد جرى ذات يوم عكس مصبه. كانت المعجزة أن تتفق نقابات وأحزاب بلادنا لردم الهوة بينها في إجماع على الهدف لم تشهده بلادنا طيلة تاريخها الطويل. هل فكرتم كيف أنّ المشهد مختلف اليوم تماماً منه قبل عام! ما أحلى عبير الحرية.