ما بين الإحباط والأمل عودة للمربع الأول “العرجاء لمراحها”

 


 

 

كتبت من قبل وكذلك كثيرون غيري كتاب وشعراء عظماء وتشكيليون عن حب الوطن، ينابيعا تتدفق من الأشواق التي لا تنضب ، للبيوت القديمة، أبوابها ، شبابيكها ، عطر أوراق أشجار حولها ، ساحات وأزقة تحتويها وجيران هم أيضا السند والمحبة وجبر الخاطر. كنا نسترجع ذكرياتنا نسميها أيام الزمن الجميل ونجد فيها علاجا نفسيا وراحة من رهق الحياة المعاصرة التي برغم ما فيها من إيجابيات فصعوباتها تظل هى الصخور العصية التي تعرقل الحركة السلسة وسليمة وعلى الخصوص فى طرقات وطن حدادي مدادي هو السودان.


صعوبات وطننا الحبيب ليست صعوبات إمكانيات إقتصادية او بشرية، الحمدلله كلها متوفرة، لكنها تحتاج إدارة حكيمة. فكل أسباب المشكلة هي السياسة العرجاء والحكم الغير رشيد منذ الاستقلال. ما يدور اليوم فى السودان خاصةً فى الخرطوم ودارفور صورة ناطقة تعبر عن الفشل المريع الذي أوصلنا اليوم إلى موت وطن بأكمله.
رحم الله النعام آدم طربنا له أيام الزمن الجميل، ومن حكمه " فاوضني بلا زعل ، ياخي فاوضني أنا عندي ظن". أقول من ما يحمد اليوم للفريق البرهان أن نشاهده يحمل السلاح مدافعاً صفاً صفاً مع جنوده عن نفسه أولاً ثم عن موقع قيادته. هكذا نريد القائد . لكن ما لا يحمد له أن صواريخه فعلت ما فعلت وحدث ما حدث ، ايضاً يلفت النظر بأنه هو الحاكم الأوحد "عسكريا محض" طبعاً بقوة السلاح ، يقيل من يشاء ويعين من يشاء "مدراء بنوك وسفراء ووزراء وولايات ….إلخ " وكل ذلك يتم فى وطن يتمتع بوجود ملايين الكفاءات من المواطنين الذين بإمكانهم إدارة شئون ألدولة مدنياً ويكفلون العدل والمساواة لكل مواطن عسكري ومدني لا فرق فى ديمقراطية حقيقية ديدنها النهضة بكل ما فيه مصلحة حاضر ومستقبل هذا الوطن .

أيام حكم النميري بما فيها من سلبيات كان التركيز على الريف ملحوظاً وكان لوجود المجالس البلدية والريفية حضوراً ملحوظاً وكان الناس يعيشون فى أمن وأمان قاطنين او متجولين فى أريافهم ومدنهم الصغيرة. بدأً من العام 1990 هبت رياح التغيير العارمة من تمكين وغيره نتيجة حكم شمولي سلطوي استمر على مدار عقود ثلاثة عجاف اكتملت مسرحيتها التراجيدية بما نراه وتعيشه اليوم الخرطوم التي تحولت إلي أطلال بعد أن كنا ننتظرها أن تكتمل حديقتها يوما ونراها حقيقة جنة رضوان. لكن هذا لم يحدث

آخر رسالة بريدية أذكر وصلتني من بربر مباشرة كانت العام ١٩٩٠ من الأستاذ خالد علي شبرين " رحمه الله " مهنئاً حصولي على الدكتوراه في مجال أمراض الكلي الباطنية من جامعة اوبسالا بالسويد. ثم رويدا رويداً تقلصت خدمات البريد حتى مات كلية وتحول عبر حكم الانقاذ مكتب بريد بربر العريق الي مكتبة وجزء آخر لبيع السندوتشات. لكن هذا الصباح وصلتني رسالة من بربر لكنها عبر الإيميل من شقيقي مولانا الطاهر الذي لم أسمع منه منذ ساعة ركوبهم البص الذي يجليهم غصباً عنهم من الخرطوم نازحين الى بربر فينطبق عليهم المثل السوداني " العرجاء لمراحها" وبأسلوب الحكمة والسياسة " الرجوع إلى المربع الأول". الرسالة أوردها أدناه كما وصلتني ومعها صورة لمشربهم من قربة معلقة على متن سيبا تنضح ماءً قراحاً. السيبا حمالة (tripod-like) وهي تقنية موروثة من قدماء النوبة

اخى العزيز د. منعم
Back to square one!
أنعم الله عليكم و علينا أجمعين بالرضاء و العافية و التوفيق و السلام التام .
الحمد لله ننعم فى بربر بالطمأنينه و العروة و الكرم و الأمل برغم التجاذب ما بين الأضداد ، أمن و خوف ، رجاء و خيبة، قرب و بعد ، و و و …… إلى ما لا نهايه و لكن خيبات من يتصدون لأمور البلاد و العباد تجعل الأمر من سوء إلى أسوأ أقرب . و لكن ما يستحقه أهل السودان الأكارم ليس على الله بعزيز . أسأل الله أن يكون ما حدث حتى الآن الثمن و الفداء و الدرس .
شكرا لكم و لكل الاخوه و الأبناء و البنات على ما قدمتوه و تقدمونه و الحمد لله من قبل و من بعد

عزيزي القاريء الموقر، كانت هذه هي الرسالة حالها يحكي عن سؤالها. أسرتنا الممتدة الحمدلله الذي أفاء عليها بالكم الهائل من الاكاديميين من الجنسين فى المجالات العلمية والتقنية والعلوم الانسانية والهندسية والزراعية واليوم كل هذه الكفاءات فرضت عليها البطالة وتوقف الانتاج بل فرض عليها الرجوع اربعين سنة الي الوراء يأكلون الكسرة والبليلة ويشربون الماء من القرب بعد أن كانوا ينعمون بمستوى حياة رغدة غذاؤها لقمة حلال من كسب حلال ودرجات علمية لم يتحصلوا عليها منحة بل بعد الصعود قانونياً على درجات سلم "بالغانون" كان يتنافس عليه المتنافسون ولكل مجتهد نصيبه فكان جزاؤهم الفوز. وهكذا تفرقت هذه الأسرة الراقية المنضبطة ما بين بربر ومصر وإثيوبيا. وما حدث لأسرتنا هو عنوان الكتاب " موت السودان" فهل يعجبكم هذا يا حمتي ويالبرهان؟. الله سيسالكم ، والله سيسالكم وكل من هو من ورائكم. نعم لجيش واحد ونعم شعب واحد لجيش واحد لكن لجيش يحفظ أمن البلاد وحدودها وبحفظ عرض الحرمات ويحفظ موارده من التهريب والضياع واستهبال الغرباء ويعيد للوطن أراضية التي استبيحت ( حلايب، الفشقة، وغيرها "، جيش لا يتحزب ولا يمتهن التجارة او السياسة ولا ينجر وراء خرافات المتشعوذين. نريد جيشاً مستقلاً ، لا تبعية لجيوش بلاد مجاورة أو أنظمة دكتاتورية.

drabdelmoneim@gmail.com

 

آراء