محاولات في نقد ادب الصنغي: محاولات في التفريغ وإعادة التركيب
أبوبكر القاضي
2 December, 2022
2 December, 2022
١- السردية:
القصة القصيرة التي سوف اتناولها بالنقد والتحليل ، والإحلال والتبديل او التفريغ وإعادة التركيب هي قصة شفاهية بلغة صنغي (ادب افريقي) ، تبدو كالنكتة وما هي بذلك ، انها اقرب الي الحكمة او المثل ، انها استعارة تمثيلية يستخدمها المتحدث البليغ في موضعها الصحيح من الكلام. دعونا نورد نص السردية / الأقصوصة:
مسرح القصة داخل غابة ، علي ناحية فوق شجرة.. والأقصوصة هي عبارة عن حوار بين طائر وشجرة:
الطائر مخاطبًا الشجرة : خذي حذرك .. اعملي حسابك .. خلي بابك من نفسك .. اني اتهيا الآن للطيران.
الشجرة : هو من الذي علم بانك هنا ؟!.. ومتي هبطت هنا من الآساس ؟! (انتهت السردية). ملحوظة: علامة الاستفهام والتعجب قاصرة عن توصيل إيحاءات لغة الجسد لدي إنسان بيئة لغة الصنغي الذي يستخدم هذه السردية في صياغها الطبيعي .
٢-في نقد السردية :
تكييفي لهذه الاقصوصة انها من الادب الشعبي .. بمعنى انها من إنتاج العقل الجمعي لشعوب امبراطورية الصنغي .. (تأسست سلطنة صونغي حوالي سنة ٣٠٠ ميلادية وحكمها اربعة عشر ملكًا ، وقد تقبل الملك الخامس عشر الإسلام طواعية عام ٤٠٠ هجرية يوافق 1010 ميلادي وصارت امبراطورية إسلامية) وتشمل جغرافية لغة صنغي دولة النيجر ، مالي بركينا فاسو وجنوب الجزائر.
شاهدنا ان هذه الأقصوصة من الادب الشعبي بمعنى لا يعرف لها مؤلف بعينه. الأقصوصة تتمتع بدرجة عالية من السخرية.. وتبدو كانها صممت لتكون نكته ، ولكنها ليست كذلك لان الهدف من هذه الأقصوصة ليس الاضحاك والتسلية فحسب .. بدليل اننا في الصغر (في قرية الحجيرات شرق سنار ، عاصمة (لغة صنغي في السودان لم نكن نحكي هذه الاقصوصة في مجالس النكات في الليالى المقمرة.. تحكي هذه السردية في وسط الكلام في شكلٍ استعارة تمثيلية للسخرية من شخص (صغير.. خفيف .. بوزن طائر.. يريد ان يضخم من نفسه علي حساب ناس اضخم منه اجتماعيا.. فتروي هذه الأقصوصة للسخرية منه حتي يعرف حجمه.. فيكف عن التطاول على من هم اكبر منه .
تجدر الاشارة الى ان (السخرية) تشكل (احدي ) علامات القصة القصيرة .. والسخرية عنصر ثانوي في القصة القصيرة تعطي حركة وفاعلية تعوض (القصر) .. وهذا يؤكد ما ذهبت اليه في الاستنتاج بان هذه الأقصوصة ليست نكتة فحسب.
٢- في التفريغ واعادة التركيب:
لغرض التاصيل ، إعادة قراءة التراث بإلإضافة والحذف إذا اقتضت مصلحة النص ، هذه ثقافة قديمة في كل اشكال الادب ، ففي الشعر مارس الشعراء (التشطير) ، ويقصد به ان يتصرف شاعر في قصيدة كتبها شاعر أخر.. مثلًا.. بان يقوم الشاعر اللاحق بكتابة عجز بيت شعر من عنده لصدر بيت شعر كتبة الشاعر السابق. وهكذا لحين تشطير القصيدة كلها .. وقد اشتهر بذلك الشاعر الصوفي الكبير عبدالغني النابلسي.. والشاعر الجمهوري عوض الكريم موسي عبداللطيف.
وقد استمتعت بهذا الفن (التفريغ وإعادة التركيب) لدي مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي المعنوي حين قام بالتصرف في قصص كليلة ودمنة المشهورة ، (فجددها بطريقته) كما يقول الراحل السر قدور حين يقوم احد الفنانين المحدثين باداء أغنية قديمة لفنان سابق (فيجددها ) كما فعل الراحل محمود عبدالعزيز مع أغنية (يا ظبية الباص السريع لثنائي الدبيبة في الأصل .. فجددها محمود بادائه المميز.
واعود الى اقصوصتي :
في هذه القصة القصيرة سوف استخدم الفكرة العامة وهيكل (سردية الصنغي) المبينة في الفقرة (١) اعلاه لتطبيق فكرة (التفريغ واعادة التركيب) عند مولانا جلال الدين الرومي .. فالي الأقصوصة:
في غابة ابوجيلي وفوق احدي اشجار المهوفني المعمرة.. الطويلة بطبيعتها .. الكثيفة .. جري هذا الحوار بين شجرة المهوقني واحد ضيوفها من طيور القمري المشهورة بالغناء والصوت الجميل.. فالقماري من طبيعتها انها (تغوغي / اي تغني) .. فقد جاء القمري الذي خرج من عشه في الصباح الباكر خماصا اي خاوي البطن ، وبعد ان شبع من خشاش الغابة وارتوي ماءا من نهر النيل الأزرق .. وفي منتصف النهار اتي القمري الى شجرة المهوقني ليستجم وليروح عن نفسه بالغناء. . لعله يخفف عن نفسه معاناة وحشته ووحدانية التي تسبب فيها احد ابناء البشر من ذرية ادم الذي اصطاد بنبلته القمرية الرقيقة رفيقة القمري الزائر !
غرد القمري الزائر بصوته الشجي ففرج عن نفسه كل الام معاناة وحدته .. فكانه يعرض حاله الى رب العباد بلسان حاله .. فرددت الغابه معه أنغام غنائه من خلال صدي الأصوات العائدة اليه. تعاطفت معه شجرة المهوقني الكريمة بظلها البارد ، وباغصانها الكثيفة التي تشكل بيئة امنة للطيور من حجارة نبال ابن ادم الذي يهدد البيئة كلها بالقطع الجائر للأشجار واصطياد الطيور ليس ليسد رمقه من الجوع .. وانما بطراً .. لمجرد الرفاهية!
بعد ان خفف القمري من معاناته بالغناء قرر الانطلاق والتحليق في الجو .. نبه القمري شجرة المهوقني بكل لطف بانه علي وشك الاقلاع .. فالاحتياط واجب .. وقد اعذر من انذر . ردت شجرة المهوقني بكل حنية وقد تعاطفت مع القمري الغريد البكاي قائلة : لماذا تستعجل المغادرة.. ها انت قد سبحت الله هنا ووصلت دعواتك الي أبواب اعلي السموات .. وتعاطفت معك كل مخلوقات الله التي استمعت الى غنائك الحزين .. ان ربك الذي رزقك اليوم ووفر لك كلما تحتاج اليه من طعام وشراب ولم يحوجك لادخار قوتك كما يفعل النمل مثلًا.. فان ربك سيزيل وحشتك .. ويجذب لك قمرية اخرى تغرد وتناجي ربها لانها فقدت بعلها هي الاخري .. لماذا لا تسكن في اي عشة جاهزة هنا.. مبنية استغني عنها زوجان من القماري بعد ان كبرت العيال وطارت ؟! لماذا لا تهيئ المكان للرحمة الإلهية لتتنزل عليك في مكانك الظليل الامن من كيد ابن ادم ؟!
وماهي الا دقايق بل ثواني وتاتي قمرية وحدانية قتل ابن ادم زوجها .. اتت وهي مدفوعة بغريزة حب البقاء وحفظ النوع .. فرات القمري الحزين وحيدا .. فجمعت المصائب المصابين.. فوسعهما ذلك العش المهجور .. فصار عشا للغرام بين قمري وقمرية.. وادرك القمري الذي كان حزينا معني الصبر الجميل.. وان كل تاخيرة فيها خيرة .. ويا مؤمنين.. بشروا الصابرين.
ابوبكر القاضي
الأول من ديسمبر ٢٠٢٢
aboubakrelgadi@hotmail.com
////////////////////////////
القصة القصيرة التي سوف اتناولها بالنقد والتحليل ، والإحلال والتبديل او التفريغ وإعادة التركيب هي قصة شفاهية بلغة صنغي (ادب افريقي) ، تبدو كالنكتة وما هي بذلك ، انها اقرب الي الحكمة او المثل ، انها استعارة تمثيلية يستخدمها المتحدث البليغ في موضعها الصحيح من الكلام. دعونا نورد نص السردية / الأقصوصة:
مسرح القصة داخل غابة ، علي ناحية فوق شجرة.. والأقصوصة هي عبارة عن حوار بين طائر وشجرة:
الطائر مخاطبًا الشجرة : خذي حذرك .. اعملي حسابك .. خلي بابك من نفسك .. اني اتهيا الآن للطيران.
الشجرة : هو من الذي علم بانك هنا ؟!.. ومتي هبطت هنا من الآساس ؟! (انتهت السردية). ملحوظة: علامة الاستفهام والتعجب قاصرة عن توصيل إيحاءات لغة الجسد لدي إنسان بيئة لغة الصنغي الذي يستخدم هذه السردية في صياغها الطبيعي .
٢-في نقد السردية :
تكييفي لهذه الاقصوصة انها من الادب الشعبي .. بمعنى انها من إنتاج العقل الجمعي لشعوب امبراطورية الصنغي .. (تأسست سلطنة صونغي حوالي سنة ٣٠٠ ميلادية وحكمها اربعة عشر ملكًا ، وقد تقبل الملك الخامس عشر الإسلام طواعية عام ٤٠٠ هجرية يوافق 1010 ميلادي وصارت امبراطورية إسلامية) وتشمل جغرافية لغة صنغي دولة النيجر ، مالي بركينا فاسو وجنوب الجزائر.
شاهدنا ان هذه الأقصوصة من الادب الشعبي بمعنى لا يعرف لها مؤلف بعينه. الأقصوصة تتمتع بدرجة عالية من السخرية.. وتبدو كانها صممت لتكون نكته ، ولكنها ليست كذلك لان الهدف من هذه الأقصوصة ليس الاضحاك والتسلية فحسب .. بدليل اننا في الصغر (في قرية الحجيرات شرق سنار ، عاصمة (لغة صنغي في السودان لم نكن نحكي هذه الاقصوصة في مجالس النكات في الليالى المقمرة.. تحكي هذه السردية في وسط الكلام في شكلٍ استعارة تمثيلية للسخرية من شخص (صغير.. خفيف .. بوزن طائر.. يريد ان يضخم من نفسه علي حساب ناس اضخم منه اجتماعيا.. فتروي هذه الأقصوصة للسخرية منه حتي يعرف حجمه.. فيكف عن التطاول على من هم اكبر منه .
تجدر الاشارة الى ان (السخرية) تشكل (احدي ) علامات القصة القصيرة .. والسخرية عنصر ثانوي في القصة القصيرة تعطي حركة وفاعلية تعوض (القصر) .. وهذا يؤكد ما ذهبت اليه في الاستنتاج بان هذه الأقصوصة ليست نكتة فحسب.
٢- في التفريغ واعادة التركيب:
لغرض التاصيل ، إعادة قراءة التراث بإلإضافة والحذف إذا اقتضت مصلحة النص ، هذه ثقافة قديمة في كل اشكال الادب ، ففي الشعر مارس الشعراء (التشطير) ، ويقصد به ان يتصرف شاعر في قصيدة كتبها شاعر أخر.. مثلًا.. بان يقوم الشاعر اللاحق بكتابة عجز بيت شعر من عنده لصدر بيت شعر كتبة الشاعر السابق. وهكذا لحين تشطير القصيدة كلها .. وقد اشتهر بذلك الشاعر الصوفي الكبير عبدالغني النابلسي.. والشاعر الجمهوري عوض الكريم موسي عبداللطيف.
وقد استمتعت بهذا الفن (التفريغ وإعادة التركيب) لدي مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي المعنوي حين قام بالتصرف في قصص كليلة ودمنة المشهورة ، (فجددها بطريقته) كما يقول الراحل السر قدور حين يقوم احد الفنانين المحدثين باداء أغنية قديمة لفنان سابق (فيجددها ) كما فعل الراحل محمود عبدالعزيز مع أغنية (يا ظبية الباص السريع لثنائي الدبيبة في الأصل .. فجددها محمود بادائه المميز.
واعود الى اقصوصتي :
في هذه القصة القصيرة سوف استخدم الفكرة العامة وهيكل (سردية الصنغي) المبينة في الفقرة (١) اعلاه لتطبيق فكرة (التفريغ واعادة التركيب) عند مولانا جلال الدين الرومي .. فالي الأقصوصة:
في غابة ابوجيلي وفوق احدي اشجار المهوفني المعمرة.. الطويلة بطبيعتها .. الكثيفة .. جري هذا الحوار بين شجرة المهوقني واحد ضيوفها من طيور القمري المشهورة بالغناء والصوت الجميل.. فالقماري من طبيعتها انها (تغوغي / اي تغني) .. فقد جاء القمري الذي خرج من عشه في الصباح الباكر خماصا اي خاوي البطن ، وبعد ان شبع من خشاش الغابة وارتوي ماءا من نهر النيل الأزرق .. وفي منتصف النهار اتي القمري الى شجرة المهوقني ليستجم وليروح عن نفسه بالغناء. . لعله يخفف عن نفسه معاناة وحشته ووحدانية التي تسبب فيها احد ابناء البشر من ذرية ادم الذي اصطاد بنبلته القمرية الرقيقة رفيقة القمري الزائر !
غرد القمري الزائر بصوته الشجي ففرج عن نفسه كل الام معاناة وحدته .. فكانه يعرض حاله الى رب العباد بلسان حاله .. فرددت الغابه معه أنغام غنائه من خلال صدي الأصوات العائدة اليه. تعاطفت معه شجرة المهوقني الكريمة بظلها البارد ، وباغصانها الكثيفة التي تشكل بيئة امنة للطيور من حجارة نبال ابن ادم الذي يهدد البيئة كلها بالقطع الجائر للأشجار واصطياد الطيور ليس ليسد رمقه من الجوع .. وانما بطراً .. لمجرد الرفاهية!
بعد ان خفف القمري من معاناته بالغناء قرر الانطلاق والتحليق في الجو .. نبه القمري شجرة المهوقني بكل لطف بانه علي وشك الاقلاع .. فالاحتياط واجب .. وقد اعذر من انذر . ردت شجرة المهوقني بكل حنية وقد تعاطفت مع القمري الغريد البكاي قائلة : لماذا تستعجل المغادرة.. ها انت قد سبحت الله هنا ووصلت دعواتك الي أبواب اعلي السموات .. وتعاطفت معك كل مخلوقات الله التي استمعت الى غنائك الحزين .. ان ربك الذي رزقك اليوم ووفر لك كلما تحتاج اليه من طعام وشراب ولم يحوجك لادخار قوتك كما يفعل النمل مثلًا.. فان ربك سيزيل وحشتك .. ويجذب لك قمرية اخرى تغرد وتناجي ربها لانها فقدت بعلها هي الاخري .. لماذا لا تسكن في اي عشة جاهزة هنا.. مبنية استغني عنها زوجان من القماري بعد ان كبرت العيال وطارت ؟! لماذا لا تهيئ المكان للرحمة الإلهية لتتنزل عليك في مكانك الظليل الامن من كيد ابن ادم ؟!
وماهي الا دقايق بل ثواني وتاتي قمرية وحدانية قتل ابن ادم زوجها .. اتت وهي مدفوعة بغريزة حب البقاء وحفظ النوع .. فرات القمري الحزين وحيدا .. فجمعت المصائب المصابين.. فوسعهما ذلك العش المهجور .. فصار عشا للغرام بين قمري وقمرية.. وادرك القمري الذي كان حزينا معني الصبر الجميل.. وان كل تاخيرة فيها خيرة .. ويا مؤمنين.. بشروا الصابرين.
ابوبكر القاضي
الأول من ديسمبر ٢٠٢٢
aboubakrelgadi@hotmail.com
////////////////////////////