محاولة إلقاء الضوء علي (مشلهت والضياع الكبير): للدكتور محمد عبد الله الريح. بقلم: صلاح محمد احمد
منذ زمن وقرائتي في القصص والروايات إنزوت، وكادت أن تختفي، فالاحداث من حولنا ... أصبحت قصة وتوتراتها أصبحت رواية معلقة في الهواء!، ولم تعد تلك القصص والروايات التي تحكي عن تجربة غرامية، أو تتناص مع إحدي روائع الادبيات العالمية تثير الشجون، وتحفز الانسان للتفكير في إصلاح ما إعوجّ من حياته، ورغم كل ذلك تظل هناك روايات خالدة في وجدان الناس، أحدثت الكثير من التغييرات، وقلبت كثيراً من المسلمات المحبطة، كرواية الجذور ل (إليكس هيل) ومزرعة الحيوان ل (جورج أرويل) والامة ل (مكسيم جوركي) ويوميات نائب في الارياف ل (توفيق الحكيم).
ومع هذه القناعات، ومعايشة أزمات الصراعات الفكرية التي تكاد تعصف بالعالم الجديد، وتداخل المواقف وإرتباك المشهد وتناقضاته، إنشغلت كغيري من المتابعين، وضعيت بين ثنايا الفضائيات والمواقع الاسفيرية، ضجة من هنا وهناك .. وعراك بين هذا وذاك وسؤال بديهي يقلق المضاجع.. ياليت أين الصحيح ؟ وأين الزيف؟ وهل هذا كذب أم صحيح؟! ووسط هذه الدوامة وبمحض صدفة، وجدت أمامي كتاب (مشلهت والضياع الكبير) تصفحته ثم غصت في سطوره، لأجد في طياته الصورة الحقيقية لمجتمعنا بكل تناقضاته وتجلياته، والكتاب في كل تفاصيله لا يندرج تحت باب (مهارب المبدعين) التي أشار إليها د. النور حمد في كتابه الموسوم (مهارب المبدعين) الذي صدر من مدارك للنشر عام 2010م، تلك المهارب التي تمثلت في حيوات وسير ونصوص من تناولوا كتابة القصص، ولكن ما خطه د. الريح لم يلجأ للهروب ولكن بقلمه الساخر ومعايشته اللصيقة بحياتنا اليومية ولج داخل واقعنا المفجع ليضع مبعضه علي الجروح المتناثرة علي جسم الوطن، فأولي متطلبات العلاج معرفة مكامن المرض.. والدوافع التي أدت إليه.
ريثما تكتمل الصورة، أردت أن أعرف شيئاً عن هذا (الضياع الكبير) ووجدت شيئاً في أضابير الشبكة العنكبوتية.. عن (التغريبة) التي سبقت إصدارة مشلهت واضياع الكبير، والتي سيعقبها مشلهت والضياع الاكبر!.
ولم أكن من الذين تابعو نشر الحلقات، وعلقوا عليها، وأبحرت في هذه الشبكة ووجدت جزءاً وغابت عني أجزاء، ففي إطار التغريبة تحدث د. الريح بإسلوبه الساخر عن (مشلهت الدياسبوري) الذي كان موظفاً مواظباً، وترقي حتي درجة الوكيل، ولكن بعد التغيير الذي حدث في مايو 1969م وجد نفسه متهماً، وطلب منه أن يدلي بشهادات تدين الوزير الذي عمل معه بالفساد، ولرفضه وإلتزامه بالافادة عما يحسه وعايشه أودع السجن، ليكون رفيقاً لعوض جعران خبير سرقة العربات، وداوود شمبر النشال المحترف الذي يفتخر بأنه تعلم فنون النشر من جبادة الاعور الذي وصفه بأنه كان بإمكانه أن ينشل بيض القمرية وهي العويرة راقدة مطمئنة في عشها! وتمر الايام الصعبة علي مشلهت ليتذكر رفيقه في الحلة (جاكوم المبشتن)، الذي عرف بفوضويته وإستهتاره.. وغاب عن الحي في ظروف غامضة ليصبح بعد ليلة وضحاها خبيراً في إستخراج الاقامات في بلاد الخليج! ولم يجد مشلهت مخرجاً لازمته إلا ببيع قطعة الارض التي إمتلكها ضمن الخطة الاسكانية ليهاجر، وطلب منه جاكوم المبشتن مقابلة (كديس الخلا) المتخصص في مرافقة المهاجرين واصفاً إياه بأنه يشبه الضب بلسانه الذي يخرجه من وقت لاَخر ليلمس به طرف شنبه! بمثل هذه العبارات الساخرة والصورة الكوميدية التي تبعث علي الضحك والتهكم، يصور د. الريح عملية هجرة الكفاءات إلي الخارج، ويصف بسرد شائق رحلة المغادرة علي ظهر لوري من اللواري عبر الفيافي في طريقهم للهروب، وفي إطار الماَسي التي يعانيها الهاربون من الجحيم يحكي عما تعرض له حمد النيل الذي مات بعد أن لدغه ثعبان!.
كان لا بد من هذه المقدمة للدخول في أحداث كتاب (مشلهت والضياع الكبير) والرواية في نظري يجب إعنبارها من أكثر الروايات واقعية في حياتنا الراهنة، وربما يتجه البعض إلي نقد العنوان وأساليب الحوار التي جنحت إلي العامية السودانية.. والرواية بمجملها تحمل جينات سودانية في البيئة وطبيعة الشخصيات، وبوصلتها الفكرية تنصب في تجسيد مذهل لما يعتري مجتمعنا من سلبية وإتكالية... يتبع
salahmsai@hotmail.com
///////////