محنة قيادات أحزاب المعارضة السودانية …. بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 

 

محنة قيادات أحزاب المعارضة السودانية:

تقرير مصير الوطن فى غيابهم .. ومن خلف ظهر الشعب السوداني!!

 

 

يمر السودان هذه الأيام بأخطر مراحل تطوره/تدهوره، حيث سيتقرر فى الأشهر القليلة القادمة، و بالتحديد فى التاسع من يناير القادم، مصير الوطن الذى عرفناه بحدوده السياسية الراهنة منذ عام 1821. سيقوم الإخوة فى جنوب السودان فى ذلك اليوم بإدلاء أصواتهم فى إستفتاء، تقرر بموجب إتفاقية نيفاشا للسلام، إما لصالح أن يبقى الجنوب جزءا لا يتجزأ من الدولة السودانية، أو أن ينفصل ليصبح دولة مستقلة، و بالتالى تنطوى صفحة من تاريخ الوطن بخيرها و شرها، و تفتح صفحة جديدة لا يعلم إلا الله وحده كنهها، أو ما ستكون عليه، أو حتى مجرد معالمها الرئيسية.

المحزن حقا فى هذا الموضوع هو أن من سيقرر مصير السودان الوطن، و ليس الجنوب وحده، كما يحاول من يتولون أمر هذا الشأن إيهامنا، ليس شعب السودان بأكمله، أو حتى أحزابه الوطنية بأكملها. إنما من سيفعل ذلك حزبان سياسيان هما الحركة الشعبية لتحرير السودان، و المؤتمر الوطنى، فقط لا غير. إذن كيف يعقل أن يتقرر مصير وطن بأكمله، و ليس جزءا واحدا منه، بواسطة حزبين فقط، و بعدد من المواطنين لا يتجاوز ثلث سكانه، وفقا لأفضل التقديرات؟! من المعروف أن الحركة الشعبية لا تمثل كل أهل الجنوب، و بالتأكيد أن المؤتمر الوطنى لا يمثل سوى أقلية بسيطة وسط أهل الشمال. إذن كيف تسنى لأمثال هؤلاء التلاعب بمصير وطن بأكمله، و فى تغييب متعمد لقيادات أحزابنا الوطنية دون إستثناء، و من خلف ظهر الشعب السوداني بأجمعه؟

من المعروف أن هناك قضية ظلم سياسي و إقتصادى و إجتماعى و إضطهاد ديني و عرقي وقع فى حق مواطنى السودان فى جنوب البلاد منذ أن عرف السودان بحدوده السياسية الحالية. تراكم ذلك الظلم و الإضهاد عبر مختلف الحقب السياسية و تحت حكم مختلف الأنظمة، مدنية كانت أو عسكرية، ديمقراطية كانت أو دكتاتورية. و من المعروف كذلك أن أيا من أحزابنا الوطنية لم تعترف علانية بخصوصية الوضع فى جنوب البلاد و بحقوق شعوبه المضطهدة الشرعية سوى الحزب الشيوعى السوداني و الحزب الجمهوري. إقترح الحزب الجمهورى النظام الفدرالى لحكم السودان، كحل لإشكالية الحكم فى البلاد، و بالأخص لحل مشكلة الجنوب، كما إقترح الحزب الشيوعى الحكم الذاتى لجنوب البلاد، فى ظل السودان الموحد، للخروج من هذه المعضلة. لقد تحول إقتراح الحزب الشيوعى الى واقع معاش بعد تطبيقه على يد الشهيد جوزيف قرنق، الذى صاغ بيان التاسع من يونيو من عام 1969 وأشرف على تطبيقه على أرض الواقع. لكن البيان قد أفرق من مضامينه الأساسية فى ظل طغيان حكم الفرد و نظام الإستبداد المايوى.

لم تعترف جميع الأحزاب السياسية الأخرى علانية بالواقع المختلف إثنيا و إجتماعيا و ثقافيا و دينيا فى جنوب البلاد إلا بعد إنقلاب الثلاثين من يونيو. و بالأصح فقد أجبرت هذه الأحزاب على الإعتراف بخصوصية الواقع المختلف فى الجنوب لتبعد نفسها و تميز مواقفها من السياسات الرعناء التى نفذها نظام الجبهة الإسلامية بحق الجنوب و مواطنيه، حيث حول تلك المطالب المشروعة فى التنمية الاقتصادية، و المساواة، و تحقيق العدالة، و إزالة الظلم، و الإضطهاد الدينى و الثقافى، الى حرب دينية شعواء ضد "الكفار" فى جنوب البلاد. لقد جير نظام الجبهة معظم موارد البلاد لتلك الحرب الرعناء التى خسر فيها الوطن خيرة أبنائه من الطرفين، و لم يخرج منها منتصر، بل كان الخاسر الأكبر فى تلك الحرب اللعينة هو الشعب السودانى بأسره.

إن أكثر ما ميز الحرب الدينية التى شنها نظام الجبهة الإسلامية على الجنوب، هو فتح الباب على مصراعيه للتدخل فى شؤون السودان الداخلية، حيث تم تدويل القضية لتصل الى أعلى مراكز إتخاذ القرار، و بالأخص داخل الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الأوربية. و جدت تلك الدول ضالتها فى هذه الحرب لتجعل منها نفاجا تطل برأسها من خلاله لتنفيذ أجندتها المتعلقة بإعادة صياغة الخارطة السياسية لبعض الدول، خدمة لمصالحها الوطنية العليا، و توسيعا لنفوذها الإستراتيجي. و للأسف الشديد فقد جاء السودان ضمن قائمة تلك الدول المراد بها هذا الشر المستطير. بدأ تنفيذ هذه الاستراتيجية بوساطة أوربية، ظاهرها وقف الحرب فى الجنوب، و لكن باطنها، و الذى لم يصرح به علنا، أو يكشف عنه حتى الآن، هو فصل جنوب السودان عن شماله، و تكوين دولة مستقلة، ستكون دول تلك الوساطة أول من يعترف رسميا بها، لأنها ستخدم فى المقام الأول مخططها الإستراتيجى، و ستحقق لها مصالحها الوطنية العليا. بمعنى آخر فإن تلك الدول لم تبذل تلك الجهود، و توفر تلك الموارد المالية و اللجوستية الكبيرة من أجل عيون الإخوة فى الجنوب، بل لقد فعلت ذلك أولا و أخيرا لحماية مصالحها العليا. لذلك تسارعت الخطى حثيثا الى أن وصلت الى إتفاقية نيفاشا التى أقرت علنا بحق تقرير المصير، مصير السودان كله، و ليس جنوبه فقط، كما يتراءى للبعض، فى إستفتاء لمواطنى الجنوب فقط، يتم إجراؤه فى التاسع من يناير القادم.

 لقد عملت الماكينة الإعلامية الضخمة للدول الغربية فى الخارج، و نظام "الإنقاذ" فى الداخل على تسويق فكرة أن إستفتاء التاسع من يناير القادم هو لتقرير مصير جنوب السودان، لكن فى واقع الأمر أن ما سيتقرر فى ذلك اليوم هو مصير السودان بأكمله، و ليس جنوبه فقط. الدليل على ذلك أن دولة جديدة، و بحدود سياسية جديدة، سوف تظهر فى شمال السودان، إذا ما إختار الإخوة فى الجنوب الإنفصال، و هو الأمر المرجح، بل المؤكد. عندها سيكون الإخوة فى الجنوب هم الذين قرروا مصير السودان كله، و ليس جنوبه فقط. من الذى أعطاهم هذا الحق ليقرروا مصيرهم، و مصير إخوتهم فى الشمال أيضا نيابة عنهم؟ هل أوكلهم السودانيون فى الشمال لممارسة هذا الحق بالإنابة عنهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فمتى تم ذلك؟ و من الذى منحهم هذا التفويض؟ إن الدلائل الظرفية تشير الى أن المؤتمر الوطنى هو الذى منحهم هذا الحق!! فهل يحق لقادة المؤتمر الوطنى تقرير مصير شعب بأكمله دون إستشارته؟ إنها الخيانة الوطنية فى أبهى تجلياتها. و هذا ما يفسر لنا "هوس" المؤتمر الوطنى، وزعمه الدعوة الى الوحدة الجاذبة، فى اللحظة الأخيرة، كما حدث فى لقاء رئيسه مؤخرا بما سمى بإتحاد الجامعات السودانية، و هو بالأحرى إتحاد لكوادرهم الملتزمة فى الجامعات و المعاهد العليا، حيث تعرفهم بسيمائهم!! إن ذلك اللقاء إن دل على شئ فإنما يدل على أن المريب كاد أن يقول خذونى!! قام المؤتمر الوطنى بحبك تلك المؤامرة على الشعب السودانى لتقرير مصيره من خلف ظهره بدعم كبير من أمريكا و الدول الأوربية. لقد كانت الوسيلة الرئيسية لتلك الدول لبلوغ هذا الهدف هى الجزرة فى بعض الأحيان، و العصا فى أحايين كثيرة، حتى إستسلم لهم قادة المؤتمر الوطنى، و نفذوا ما طلب منهم بدقة متناهية، أدهشت أولائك القوم!؟

تعمدت دول الوساطة، و منذ بداية عملها، إبعاد القوى السياسية الرئيسية فى الشمال عن المشاركة فى الجهود التى تبذلها لإيجاد تسوية لتلك المشكلة. لم تقف تلك الدول ذلك الموقف فقط لتسهيل الوصول الى إتفاق بين طرفي الصراع، و إنما هدفت من ذلك أيضا الى حرمان تلك القوى من المشاركة فى تقرير مصير الوطن، الذى كان يشكل أحد أجندتها الخفية منذ بداية مشوارها فى هذا المسار. و هاهي تقف غاب قوسين أو أدنى لقطف ثمار تلك الجهود الحثيثة التى بذلتها بكل إخلاص لقيام دولة "النيل" فى جنوب البلاد، دون أن تجد من يقف فى وجهها، أو يجادلها، مجرد المجادلة فى حكمة تمزيق أكبر أوطان القارة الأفريقية مساحة، دون مشاورة جميع أهله. لكن المدهش فى كل ذلك ليس موقف القوى الأجنبية، و لكن موقف قيادات أحزاب المعارضة التى وقفت موقف المتفرج على هذه اللعبة الخطيرة منذ أن بدايتها، و الى أن وصلت الى نهايتها المخطط لها منذ البداية بدقة متناهية، وكأن الأمر لا يعنيهم البتة!!؟

إكتفت تلك الأحزاب ، و قياداتها "التاريخية"، بتدبيج البيانات، و إصدار التصريحات الصحفية، و التحدث فى الندوات و المحاضرات و المنتديات حول أخطر المواضيع التى سوف تحدد مصير الشعب و الوطن، دون أن تتخذ موقفا عمليا واحدا يعتد به لفرض وجودها داخل المطبخ الذى يتم فيه طهى طبخة تقرير مصير الوطن بأكمله على نار هادئة. كلما تمخضت عنه تلك الأحاديث "الفارغة"، هو سيل من الشجب و الإدانات التى لم تقتل ذبابة، ناهيك عن تعديل المعادلة السياسية، أو تغيير موازين القوى لمصلحتها، و بالتالى مصلحة الوطن. لقد عجزت تلك القيادات عن الدفاع عن المصالح العليا للوطن لأنها قد أوكلت هذا الأمر للحركة الشعبية منذ بداية المعركة لتحمل عبء الصراع المسلح ضد نظام الإنقاذ، متوهمة أن الحركة ستسمح لها بقطف ثمار ذلك النضال تحت أوهام الشراكة الإستراتيجية، التى غيبت وعي تلك الأحزاب، و أغشت أعين قادتها بدخان كثيف، لم يتمكنوا معه من رؤية الواقع الموضوعى كما هو، بل رأوه بأعين مصابة بالحول السياسي، أو كما توهموه وخيل إليهم!!

لقد أدخلت تلك الأوهام قيادات تلك الأحزاب فى غيبوبة سياسية لم يفيقوا منها حتى كتابة هذا المقال، على الرغم من اللكمات العنيفة التى تلقوها من كل حدب و صوب، و بالأخص من "شريكهم الإستراتيجي" المتوهم، ألا وهو الحركة الشعبية لتحرير السودان. هل يعقل أن يتم تمزيق السودان إربا إربا أمام أنظار هؤلاء القادة دون أن يحركوا ساكنا؟؟ و هل يعقل أن يتم ترسيم الحدود السياسية لدولتى المستقبل و التى سيعترف بها كل العالم دون مشاورتهم؟  وهل يعقل أن يتم التشاور حول تقسيم الموارد بين دولتين مفترض قيامهما فى المسقبل القريب دون إشراك هؤلاء القادة؟ و هل يعقل أن يتم التباحث حول قانون منح الجنسية لمن يستحقها من سكان دولتى المستقبل فى غياب قادة أحزاب المعارضة؟ و هل يعقل أن يتم الإتفاق حول مصير الديون الخارجية للسودان الموحد و التى سيرثها كل من دولتى المستقبل القريب دون علم قادة المعارضة؟ و هل يعقل أن يتم التشاور حول مصير العملة الوطنية الحالية بمعزل عن هؤلاء القادة؟

يحدث كل هذا فى غياب تام لقيادات أحزاب المعارضة، و من خلف ظهر الشعب السوداني، دون أن تحرك تلك القيادات ساكنا، و كأن كل هذا يحدث فى بلاد "واق الواق"، و ليس لها شأن أو علاقة به! إن هذا الموقف الغريب يقف دليلا واضحا ليس على ضعف تلك القيادات فقط، و إنما يعكس المحنة الحقيقية التى تعيشها فى الوقت الراهن. بل إنه يعكس، فى إعتقادنا، حالة موت سريري لا شفاء منها، إلا بالموت الفعلى لتلك القيادات، بحكم العمر الطبيعى لها، حيث أنها قد أضحت جميعها غاب قوسين أو أدنى من ذلك. ليس هنالك من مخرج لتلك الأحزاب من هذه المحنة سوى ذهاب، أو غياب، تلك القيادات، حيث عجزت جماهيرها عن إحلال قيادات جديدة بديلا لتلك القيادات الشائخة، حتى بعد أن عقدت مؤتمراتها بصورة "ديمقراطية" و فى "حرية" تامة!!

إنها بالفعل لجريمة وطنية من الطراز الأول، ترتكبها تلك القيادات بوقوفها موقف المتفرج، و كأن أمر تقرير مصير الوطن لا يعنيها، فى الوقت الذى ترى فيه أكبر الجرائم تحاك ضد السودان وشعبه أمام أعينها، و هى لا تحرك ساكنا. متى ستتحرك تلك الأحزاب و قياداتها لتتخذ موقفا، حتى و إن كان من باب تبرئة الذمة للتاريخ، إن لم يكن الآن، وقبل فوات الأوان؟ إن قيادات الحركة الشعبية و المؤتمر الوطنى سيتحملون المسئولية الأخلاقية و السياسية لما سيسفر عنه إستفتاء التاسع من يناير القادم. وهو سيشكل فى تقديرى، البداية الحقيقية لتفتيت السودان الى دويلات، أو ربما كنتونات عدة، تنبأ بها أحد عرافى النظام الحاكم فى مثلثه الشهير!! و لكن تلك المسؤولية لن تقتصر على هؤلاء فقط، بل سيتحملها بنفس القدر، قادة أحزابنا الوطنية جميعها، بصمتهم المريب حول هذا الأمر. إن هذا الصمت يعتبر، فى تقديرنا، بمثابة الموافقة المبطنة على ما يجرى على أرض الواقع من تآمر على مستقبل السودان، و من خلف ظهر شعبه، و فى غياب تام لأحزاب المعارضة و قادتها.

إن أقل ما يمكن توقعه من رموز و قادة المعارضة الوطنية فى السودان خلال هذا الظرف الحرج الذى تمر به البلاد هو رفع أصواتهم عالية ضد التآمر المفضوح على السودان و شعبه، و التعبير عن هذا الموقف علانية، و بكل السبل المتاحة، و العمل الجاد على إفشال هذه المؤامرة، و هو أمر ممكن إذا ما خلصت النوايا، و توحدت الرؤى و المواقف، آخذين بعين الإعتبار أن ما سيتقرر فى التاسع من يناير القادم هو مصير السودان بأكمله، و ليس جنوبه فقط. و بالتالى فإن أمرا بهذا الحجم يجب أن يقرره شعب السودان بأجمعه و ليس أقلية منه، مهما كبر حجمها، فستظل أقلية على كل حال. و من خطل المنطق و فساد الرأى، أن تقرر الأقليات مصير الأغلبية، فى الوقت الذى أصبح من المعروف أن الأقلية تخضع لرأى الأغلبية، مع الحفاظ على حقوقها كاملة غير منقوصة. متى ستعى قيادات أحزابنا الوطنية هذه الحقيقة و ترى الأزمة الوطنية فى أبعادها الحقيقية، و تدرك مسؤوليتها التاريخية تجاه الأجيال القادمة من بنات و أبناء السودان، و تعمل من أجل أن تلعب الدور المناط بها فى مثل هذه الأحوال و الظروف الدقيقة التى يمر بها الوطن، و إلا فإن التاريخ لن يرحمها، وكذلك الأبرار من بنات و أبناء الشعب السوداني.

 

15/7/2010

Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء