عندما اراد المفكر الراحل الدكتور الشيخ حسن الترابي ان يختتم مساجلاته السرية مع الدكتور غازي صلاح الدين عقب المفاصلة كتب رده الأخير تحت عنوان ( رد السلام وعقبي الكلام)، ليعيد تأكيد موقفه ان المساجلة استنفدت غرضها في اجلاء الموقف السياسي والفكري لكل طرف ولم يعد الرتق يجدي لمداواة الفتق فتيلا. وقد فعلها بن رشد مع الغزالي، رغم تفاوت الازمان بينهما وعدّ ذلك من المشاغبات، وقامت حجته لمقاومة تغبيش الوعي واتهام العقل الفلسفي خاصة وان الوجدان الشعبي والرأي العام السائد القائم علي المغالبة قد احتفي بطبول ورايات النصر الفكرية للغزالي علي الفلاسفة، اما الغزالي كما قال في كتابه ( تهافت الفلاسفة) ان دافعه لتأليف الكتاب هو " أننى رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء" ، وقد جعل الغزالي من كتابه اول مبادرة معرفية لهدم الأيقونات الثقافية في المجتمع عندما انتقد بن سينا وأرسطو وأفلاطون ورهط الفلاسفة.
اما المساجلات التاريخية بين قرنق والصادق المهدي فقد جاءت بغير هدي او كتاب منير لأنها لم تستقم من اجل الحوار الفكري المستكشف لمقاربات اللحظة السياسية الراهنة، ولكنها توطدت لإنزال الهزيمة السياسية والفكرية وتعرية الطرف الاخر امام محكمة التاريخ. لذا قال جون قرنق في احدي رسائله للصادق المهدي ، ما كان ان ادع هذه السانحة تمر دون ان أوضح خطل موقفك في بناء الوحدة الوطنية في هذا البلد وانت رجل توفرت له الارومة والنسب والتاريخ لكنه فشل في نفسه و اضاع علي البلاد فرصة تاريخية لتردده وسوء تقديره وهو يتبني التشريعات الاسلامية في بلد متعدد المشارب الفكرية والثقافية، متنوع الأعراق والقبائل والعقائد والأديان والألسن والهوايات. لكن اكتسبت المساجلة الثلاثية بيني والدكتور حسن عابدين والسفير عبد الله الأزرق بعد جديدا، اذ بدأت بهموم مهنية دبلوماسية للنقد ودفع الافتراء، وانتهت الي قضايا أعمق اثرا في علاقة المثقف بالسلطة، وموقف المثقف من التاريخ، اي انها مساجلة بدأت ذاتية وانتهت موضوعية. في كتابه ( صورة المثقف) ينتقد ادوارد سعيد المثقف النخبوي الصفوي الذي سيتمترس خلف ما يصطنعه لنفسه من اوهام وصولجان ويظن انه منتدب للتفكير انابة عن الأمة. ، وقال ادوارد سعيد لمحاربة اوهام المثقفين: "اننا اذا اخذنا عينة عشوائية لا تزيد عن عشرة من السابلة فسوف نجد لديهم من الاراء المعقولة في المسائل الاخلاقية ما يضاهي اراء اي قطاع يمثل طبقة المثقفين برمتها". وهو عين ما اشار له الدكتور التيجاني عبدالقادر في مقاله الشهير عن المثقف وهو يفرق بين المثقف الذي يقدم أفكاره وخبراته الفكرية والثقافية والفنية وتوظيفها لقاء اجر، او منصب او مذهب أيدلوجي ، وبين المثقف المنتج للمعرفة، المستقل بموقفه من اجل الحقيقة دون تأثير بإغراء او إغواء ابتغاءً لمغنم او اتقاءً لمغرم. وتتصل هذه المعاني عن موقف المثقف ودوره لتندغم مفهوميا في العبارة الشهيرة لغرامشي عن المثقف العضوي. وأثمن المنهج الذي اختطه الدكتور حسن عابدين في حجاجه ومساجلاته اذ نَفَر نفورا مستحقا من الاغراق الشخصاني ، وأخذ علينا اننا انتبشنا سيرته السياسية، في مقام الحوار الموضوعي حول كسب المثقف امام تحديات عصره، وكشف في رده عن يراع غضوب اذا مسه لُغُوب ، فكبح جماحه بالمداراة والكتمان والحكمة والموعظة الحسنة. وقد وجد في اشعار المتنبيء ملاذا من تقلبات الزمان ، واتكأ علي قوافي نزار قباني وهي تنعي الثوريات والعنتريات التي ما قتلت يوما ذبابة. ولعل الاستشهاد الكثيف بإشعار المتنبيء ونزار قباني أضاف غلالة بلاغية جاذبة لجماليات النص والاستشهاد، ولكن فيها هروب من مواجهة الوقائع وهو المؤرخ الحاذق لأن القوافي والأشعار لا تقدم اجابات منطقية علي أسئلة التاريخ. . يقول الدكتور حسن عابدين متسائلا في رده علي مقالي السابق "لمن اقدم كشف حسابي السياسي هذا؟ ومن يستتيبني من الكفران بالماضي ويمنحني صك الغفران" ؟ لا احد يدعي لنفسه العصمة سعادة الدكتور حسن عابدين حتي يطالب الآخرين بتقديم سجل من الاعترافات وإقامة تراتيل الاستتابة وإصدار صكوك الغفران. ولا يملك احد الحق لإقامة محاكم تفتيش في ضمائر المثقفين. ولا نريد إقامة محاكمة صورية لأحد، لكن الموقف من الوعي والتاريخ يتطلب من المثقف المنتج للمعرفة والمحرض للجماهير في مسارات التغيير، ان يقدم كشف حساب فكري وسياسي لمواقفه التاريخية وهو يتطلع لافتتاح مسار جديد يخالف به سيرته السابقة ويفترع بها تحولا نوعيا جديدا.وهو نوع من المخالصة التاريخية بين ضمير المثقف وحركة الوعي في التاريخ و امام الجماهير في الفضاء العام. وقد قدم بالفعل الدكتور حسن عابدين كما سرد في مساجلاته شواهداً مضيئة لسيرته في مايو، وكيف انه انتقدها وخرج منها ، وكذلك مقاله عن " البراءة من الشمولية" في العام ٢٠١١ ، وَلَكِن فواتير تلك المخالصة الفكرية التي ذكرها ليست مبرئة لذمة المثقف امام حركة الوعي والتاريخ، لأنها خلت من النقد الذاتي. وهي عين ما فعله منصور خالد بعد خروجه من مايو اذ قدم نقدا بنيويا حادا وموضوعيا في سلسة كتاباته الشهيرة عن مايو، وبرع في تحرير قصائد الهجاء والذم التي سارت بذكرها الركبان، لكنه ايضا خلا سجله الفكري من اي نقد ذاتي لدوره كمثقف في توطيد أركان ذلك العجل المقدس الذي صنعه مع نخبة مايو. وبالطبع لم يكن يترقي ظني في هذه المساجلات ان استدرج الدكتور حسن عابدين للدفاع عن نفسه ، وقد قال في مقاله السابق " وكدتَ تستدرجني في جانب من مقالك للدفاع عن نفسي باعتباري متهماً بمولاة نظامين شموليين: مايو والانقاذ ولكني اقول يامولانا القاضي الديبلوماسي : انا غير مذنب. I am not guilty ولن ادافع عن نفسي امام محكمتك". وبالطبع لا يملك شخصي الضعيف تفويضا من احد لإقامة محاكم تفتيش لأي مثقف او مفكر، ولا املك الحق الأدبي او الفكري او الاخلاقي لذلك. ولكن حتي تستقيم مضابط التاريخ لابد ان يسجل المثقف موقفه في سجّلات الوعي العام، و في هذا السياق كنت انتظر من مثقف بارز ومؤثر في الفضاء الثقافي والفكري العام مثل الدكتور حسن عابدين ان يوضح دوره في ترقية وحماية اوضاع حقوق الانسان في الفترة التي تولي فيها مناصب دبلوماسية مرموقة وهو يدين الدبلوماسية السودانية بداء الإنكار والتبرير كما تفعل الدكتاتوريات في العالم حسب زعمه. واقّدر بالطبع نهج الدكتور حسن عابدين في انه لا يريد ان يدافع عن نفسه امام اي محاكم صورية امام الرأي العام لانه لا احد يملك ذلك الحق او يقدم صكوك الغفران. كما تجاوز توضيح موقف مشاركته في الإنقاذ مكتفيا بالقول انه جاء استجابة لطلب من السلطان الحاكم ولم يسع اليه. وان صدق هذا الزعم وأرجح ذلك دون شك فقد عمل الدكتور حسن عابدين بشروط السلطان الغاشم والدكتاتور الحاكم حسب وصفه، وليس بشروطه كمثقف، بما يعني ان مشاركته ساهمت في توطيد أركان هذه الدكتاتورية كما قالت له فاطمة احمد ابراهيم في لندن. ويثور السؤال هل قدم مقاله الصادر في العام ٢٠١١ عن ( البراءة عن الشمولية) اجابة علي هذا السؤال؟ اما بشأن الدبلوماسية الرسالية فقد جاءت في مقام الذم رغم الاستشهاد بمصادرها التاريخية، وقد أسهب الدكتور الراحل محمد حميدالله في كتابه (الوثائق السياسية) للرسول صلي عليه وسلم في توضيح وتبيان ذلك، و قد بني الدكتور الراحل عون الشريف قاسم علي اعمال محمد حميدالله وأخرج كتابه الشهير (دبلوماسية محمد) في طبعته الأولي وخرجت الطبعة الثانية بعنوان (الوثائق السياسية)، لكن الدكتور حسن عابدين في مقاربته التاريخية للدبلوماسية الرسالية لا يشير الي نموذجها الأصفي في العهد النبوي الذي وثق له محمد حميدالله وعون الشريف قاسم، لكن يربط دبلوماسية الإنقاذ الرسالية حسب وصفه بنهج وممارسة الخليفة عبدالله التي كانت تصادم العالم عن تنطع وجهل بموازين القوي وهي تغط في غيبوبة ايدلوجية وعزلة حضارية وجهل بتطورات الأوضاع في العالم. احمد للدكتور حسن عابدين في انه اسهم في تطوير هذه المساجلات بردوده الموضوعية لتخرج من المهني الذاتي الي الفضاء الثقافي وعلاقة المثقف بالسلطة ، وقد تعلمت من ردوده وموضوعيته ونهجه الكثير ، وان أخذت عليه عدم اتساق وصفه في سجاله معي ، اذ يشير إلي شخصي تارة بالدبلوماسي النابه، وتارة بالدبلوماسي الغر، وشتان ما بين الوصفين، وهما يصدران من أكاديمي عدته تحري الدقة في البحث وإطلاق الاوصاف الموضوعية وفق مراد المعني. وهو يعلم ان كلمة تحري الكذب من المحرمات في القاموس الدبلوماسي. ، لكن ربما رجح لديه وهو يتقلب بين حالتي الرضي والفوران وهو يعد ردوده ان يختار احد الوصفين حسب حالة المعني والسياق النفسي لا الموضوعي. رغم جهد الدكتور حسن عابدين في الرد علي مقال السفير عبدالله الأزرق الذي قدم حزمة من الأسئلة تجاه ما اسماه خذلانه المبين لمن قدموه في مدارج القيادة في سلك العمل الدبلوماسي و جرأته علي انتقاد حركة الرئيس البشير في هذا التوقيت، الا انه آثر الدفاع عن سجله في مايو وان الإنقاذ طلبت خدمته وسعت اليه في عرينه الأكاديمي بجامعة الخرطوم. لكنه لم يوضح دوره اثناء خدمته في حكومة الإنقاذ لإيقاف التعدي والتبرير لانتهاكات حقوق الانسان الذي اتهمنا به بل كان يدافع عن سجل نفس الحكومة وذات الرئيس الذي ينتقد عمله الان في ظروف عدائية اكثر تعقيدا مع العالم الخارجي . وقدم الدكتور حسن عابدين في رده علي مقال السفير الأزرق خطابا جماليا موشي بالأشعار والأسمار لا الردود الموضوعية، يشكو فيها ظلم زمانه تحت ظلال قافية المتنبيء ويصفع وجه الدكتاتور باشعار نزار قباني. ولعلي والسفير عبدالله الأزرق نشترك في اهمية ان يقدم الدكتور حسن عابدين مرافعته الخاصة امام الرأي العام للدفاع عن سنوات خدمته في مايو والإنقاذ وهما متهمان من قبله بالدكتاتورية والشمولية، وان ما قدمه في منفستو البراءة من الشمولية في العام ٢٠١١ لا يعدو ان يكون ذرا للرماد في العيون . و لا شك ان مثل هذه الحوارات تقع منها سواقط العتب اللطيف و التلاوم العنيف ، لذا اقدم اعتذاري اذا التمس في مساجلاتي معه اي تجاوز من الموضوعي الي الشخصاني وذلك ما تحاميته وتجنبته بقدر استطاعتي، وتقديري واحترامي لأسرته وأصدقائه الذين ابتأسوا لهذا السجال لكنه قدر المثقف في صناعة التاريخ، اذ اصدر في موقفي من نقده بإعتباره مثقفا له موقف من قضية الوعي والتاريخ، وليس بإعتباره موظفا رفيعا تقلد مناصب هامة لبلاده في العمل الخارجي. و رغم التناوش و اختلاف وجهات النظر الا ان ظاهرة الحوار في الفضاء المفتوح والسجال القلمي المعلن لمناقشة ظواهر وقضايا الشأن العام تعد انتصارا للشفافية والحوار الديمقراطي وثقافة النقد والنقد المضاد.