مختارات: سيد أحمد الحردلو وقصة تهريبه “موسم الهجرة” إلى رجاء النقاش بمصر! … بقلم: عبد المنعم عجب الفَيا
عبد المنعم عجب الفيا
2 January, 2023
2 January, 2023
مقدمة:
نشر الشاعر والقاص والدبلوماسي السوداني الراحل سيد أحمد الحردلو (1940-2012م) مقالاً مطولاً عن الطيب صالح بمناسبة رحيله، اجتزأنا منه هنا الجزء الذي يحكي فيه قصة تهريبه نسخة من رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" فور صدروها لأول مرة بمجلة "حوار" التي كانت تصدر في بيروت، وتسليمها بيده شخصياً إلى رجاء النقاش بالقاهرة. وذلك أن المجلة المذكورة كانت ممنوعة من دخول مصر آنذاك. فكان أول مقال يكتبه رجاء النقاش فور الفراغ من قراءة الرواية من مجلة "حوار" هو: (الطيب صالح.. عبقري الرواية العربية).
___________
*
"هبط الطيب صالح السودان منتصف العام 1966 خبيراً إعلامياً لإذاعة أمدرمان، منتدباً من إذاعة البي. بي. سي، بطلب من رئيس الوزراء ووزير الخارجية وقتئذ؛ الراحل المقيم محمد أحمد المحجوب.
اتصلت به هاتفياً صباح ذات يوم لتحيته، وعلمت منه أنه يجلس أمام الباب الغربي لمبنى الإذاعة مساء كل يوم بين الساعة السادسة والساعة التاسعة مساء. وجئته في ذات اليوم حوالى الساعة السابعة. ووجدته جالساً موليّاً وجهه غرباً. لم نكن التقينا من قبل، كنت أسمعه بصوته المتميز في إذاعة البي. بي. سي. وكان هو قد قرأ ديواني الأول (غداً نلتقي) ومجموعتي القصصية (ملعون أبوكي بلد)، بمجرد أن دنوت منه نهض هاشاً باشاً وحياني وهو يقول: "أنت الشاعر سيد أحمد الحردلو" وجلسنا ندردش زهاء الساعة، ذلك كل ما في أمر لقائنا الأول!
نسيت أن أقول أنه قال لي: إنه وجد ديواني ومجموعتي القصصية في مكتبة البي. بي. سي، كذلك قال أحمد قباني "عليهما رضوان الله..
"ومرت الأيام.. وجاء العام 1967، وذهبت ذات مساء قبل منتصف ذلك العام لزيارة صديقي حامد المطري، صاحب (مكتبة الملآيين) بالمحطة الوسطى بالخرطوم. كنت أزورها مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع. فصحف ومجلات وكتب بيروت الجديدة كانت تصلها في ذات يوم صدورها (هكذا كان يفعل معظم المثقفين والأدباء السودانيين). وكانت تنتشر أيامها مقولة تقول القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ! وكانت تلك مقولة صحيحة وغير مردودة.
وبينما كان المطري يناولني بعض الصحف والمجلات، رأيت أن العدد الجديد من مجلة (حوار) اللبنانية قد وصل في نفس اليوم .. التقطت نسخة منها وبدأت أتصفحها. وبعد عدة صفحات فوجئت برواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، منشورة في ست وثمانين صفحة في حروف متوسطة، اتكأت على (بنك المكتبة) ورحت ألتهم الكلمات التهاماً حتى وصلت إلى الصفحة العشرين، لم أصدق عينيّ، ولم أصدق أن كاتب هذا (السرد السحري) هو ذلك الطيب صالح الذي التقيته قبل عام!
فندهت "يا حامد .. يا مطري .. أديني خمس نسخ من حوار!". سمعت ضحكة مجلجلة خلفي، التفت فإذا هو الأديب والناقد صديقي عبدالله علي إبراهيم، بادرته بقولي: "أنا أعرف رأيك في حوار، لكن هذه نسخة هدية مني لك، فاقرأ من صفحة كذا .. إلى صفحة كذا!".
ومضيت سكتي بعد أن اشتريت "سندويشة" إلى أمدرمان حيث كنت أسكن وحدي في بيت مكون من غرفة وحوش وحمام في حي الأمراء.
ألقيت بـ"السندويشة" ونسخ حوار الأربع على طاولة، وأضأت النور وبدأت ألتهم الكلمات في سرعة مسكونة بالشوق، حتى أتيت إلى آخرها، لكنني عدت إليها من البداية للمرة الثانية ثم الثالثة. تملكتني دهشة عارمة وإعجاب بلا حدود بالرواية، وأسلوبها، وأبطالها.
كنت قد درست بقسم اللغة الإنجليزية بـ(جامعة القاهرة الأم) الآداب البريطانية والأمريكية والفرنسية والسوفيتية، وكنت قد درست الشعر الإنجليزي من عصر (جوسر) أب اللغة الإنجليزية، إلى عبقريها شكسبير، إلى الرومانسيين، إلى الميتافيزيقيين، إلى عصر تي. إس إليوت، الذي كتب قصيدته الكبرى (الأرض اليباب) (The Waste Land) العام 1922م ثم أعقبها بأخريات أهمها (الرجال الجوف) (The Hollow Men) كما كنت قد درست معظم روايات شارلس دكنز، وأوسكار وايلد، ودي اتش لورنس، وفروست، وجيمس جويس إلخ.
كذلك الأدب الأمريكي برواياته ومسرحياته وشعره. وكنت من عشاق روايات أرنست همنجواي، وفي الروايات السوفيتية كنت معجباً بروايات كثيرين، أهمهم أنطوني جيكوف، وجوركي وبالفرنسي موباسات أب القصة القصيرة عالمياً، فهو أول من كتبها. وبقية العقد الفريد من مفكري وشعراء وروائيي فرنسا، وعلى رأسهم فكتور هوجو، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وساغان، وبودلير، وكافكا و...
وكان ذلك الشريط يمر أمامي، وأنا مستلق على سريري، وفجأة تذكرت أن هنالك شيئا ما، بين الطيب صالح وجيمس جويس واليوت، من ناحية وبين الطيب وفروست، من ناحية أخرى فجيمس جويس في رواياته، واليوت (في الأرض اليباب) يعتمدان أسلوب الإنتقال من الحاضر إلى الماضي، والعكس صحيح، بدون تمهيد للمتلقي وكذلك فعل الطيب الصالح في (موسم الهجرة) وإن كان الطيب يمهد لهذا الإنتقال بسلاسة وعذوبة وأريحية.
وهذا ما يسمونه Modernity against antiquityأي الحداثة أو المعاصرة في مواجهة التراث أو القديم!
ولاحظت كذلك استفادة الطيب استفادة فنية رائعة من فقرة وردت في رواية فروست غاب عني اسمها. ومعظم أبطالها من جنوب شرقي آسيا وتكثر فيها حكاية توارد الخواطر بين من هم في آسيا ومن هم في بريطانيا. قلت هذا للطيب، ونحن نتناقش حول (موسم الهجرة) في شقتي بنواحي همستد، في لندن فيما بعد، فأكد لي أن ملاحظاتي صحيحة، وفي مكانها! غير أنني برغم عظمة تلك الروايات وكُتّابها لم أحفل بها مثل احتفالي بموسم الهجرة. وتلك شهادة أبذلها للتاريخ!
كان الأستاذ محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء ووزير الخارجية العام 1967م هو رئيس اللجنة الثلاثية حول اليمن، وكان يتنقل بين اليمن والسعودية ومصر قبل وبعد مؤتمر (اللاءات الثلاث) بالخرطوم أغسطس 1967م. وقرر في أواخر ديسمبر من ذلك العام زيارة مصر، للقاء الزعيم جمال عبدالناصر.
وكان دائماً يأخذ أحد السكرتارين الثوالث معه ليعد تقريراً بتلك الزيارة، وكنوع من التدريب، وكان حظي أن أسافر معه، فأعددت حقيبتي على عجل، وأخفيت نسخة من مجلة (حوار) التي بها رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) تحت ملابسي، لأنها كانت ممنوعة من دخول مصر؛ بحسبان أنها مجلة طبق الأصل من مجلة (إنكاونتر) الإنجليزية والمتهمة وقتها بأن أجهزة الأمن البريطانية تقوم بتمويلها.
وصلنا مصر ونزلنا فندق شبرد، وتزاحم الأدباء والصحفيون لزيارة المحجوب، ومعظمهم كان صديقاً لي وبينما كنت أحاول الاتصال ببعض أصدقائي وعلى رأسهم جليل البنداري، ورجاء النقاش، اتصل بي جليل البنداري، بصوته المبحوح، وهو يقول: "يا ابن الإيه.. بقيت مُهِم.. !!"
فسألته عن تلفون رجاء النقاش، فذكره لي على الفور، واتصلت بهاتفه في مجلة "المصور" فعلمت من سكرتيرته: "أنه خرج قبل قليل في طريقه إلى فندق شبرد". فأيقنت أنه قادم إلينا، فوضعت نسخة مجلة (حوار) داخل جيب سترتي، وجاء "رجاء" وأخذته إلى جناح المحجوب، وأنا أهمس في أذنه (لديّ مفاجأة مذهلة لك!).
وبعد أن التقى المحجوب وخرجنا معاً من جناح المحجوب أخرجت مجلة (حوار) ووضعتها في جيب سترته، فضحك وهو يقول: "إنت بتديني فلوس ولا إيه!؟"، "فلوس إيه.. أنا وش فلوس يا رجاء بيه .. إنت رايح فين من هنا!؟". فقال: "رايح البيت .. ليه!؟".
فقلت: "أول ما تصل البيت طلع المجلة دي واقرأ من صفحة كذا لصفحة كذا!". وذهب سكته، وعدت أدراجي..
رن الهاتف قبل منتصف الليل في غرفتي، وإذا برجاء النقاش يسألني: "مين الطيب صالح ده! فقلت: إنه سوداني يعمل في البي بي سي العربية، وهو رئيس قسم الدراما بها!
فقال: "ده هايل، ده عبقري .. سيكون مقالي القادم عنه".2 انتهى.
سيد أحمد الحردلو
هوامش:
1- نُشر مقال سيد أحمد الحردلو، بجريدة "آخر لحظة" السودانية في 1 مارس 2009 ثم أعيد نشره بصحيفة "سودانايل" الإلكترونية في 31 أكتوبر 2010. وعنوان المقال كاملاً: (وهكذا رحلت العذوبة والأريحية فجر الأربعاء 18 فبراير.. يوم الهول العظيم).
2- نُشر مقال رجاء النقاش بمجلة "المصور" القاهرية في أوائل 1968 وجاء تحت عنوان: (الطيب صالح.. عبقري الرواية العربية). وقد اتخذ محمد سعيد محمدية صاحب "دار العودة" البيروتية التي احتكرت نشر أعمال الطيب صالح في البداية عنوان المقال وجعله اسما لكتاب: (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) الذي أصدره في سنة 1976 وضم الكتاب عددا من المقالات المختارة عن الطيب لصالح لنخبة من الكتّاب المصريين والسوريين والسودانيين ومن بين هذه المقالات، مقال رجاء النقاش.
عبد المنعم عجب الفَيا – 2 ن يناير 2023
abusara21@gmail.com
نشر الشاعر والقاص والدبلوماسي السوداني الراحل سيد أحمد الحردلو (1940-2012م) مقالاً مطولاً عن الطيب صالح بمناسبة رحيله، اجتزأنا منه هنا الجزء الذي يحكي فيه قصة تهريبه نسخة من رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" فور صدروها لأول مرة بمجلة "حوار" التي كانت تصدر في بيروت، وتسليمها بيده شخصياً إلى رجاء النقاش بالقاهرة. وذلك أن المجلة المذكورة كانت ممنوعة من دخول مصر آنذاك. فكان أول مقال يكتبه رجاء النقاش فور الفراغ من قراءة الرواية من مجلة "حوار" هو: (الطيب صالح.. عبقري الرواية العربية).
___________
*
"هبط الطيب صالح السودان منتصف العام 1966 خبيراً إعلامياً لإذاعة أمدرمان، منتدباً من إذاعة البي. بي. سي، بطلب من رئيس الوزراء ووزير الخارجية وقتئذ؛ الراحل المقيم محمد أحمد المحجوب.
اتصلت به هاتفياً صباح ذات يوم لتحيته، وعلمت منه أنه يجلس أمام الباب الغربي لمبنى الإذاعة مساء كل يوم بين الساعة السادسة والساعة التاسعة مساء. وجئته في ذات اليوم حوالى الساعة السابعة. ووجدته جالساً موليّاً وجهه غرباً. لم نكن التقينا من قبل، كنت أسمعه بصوته المتميز في إذاعة البي. بي. سي. وكان هو قد قرأ ديواني الأول (غداً نلتقي) ومجموعتي القصصية (ملعون أبوكي بلد)، بمجرد أن دنوت منه نهض هاشاً باشاً وحياني وهو يقول: "أنت الشاعر سيد أحمد الحردلو" وجلسنا ندردش زهاء الساعة، ذلك كل ما في أمر لقائنا الأول!
نسيت أن أقول أنه قال لي: إنه وجد ديواني ومجموعتي القصصية في مكتبة البي. بي. سي، كذلك قال أحمد قباني "عليهما رضوان الله..
"ومرت الأيام.. وجاء العام 1967، وذهبت ذات مساء قبل منتصف ذلك العام لزيارة صديقي حامد المطري، صاحب (مكتبة الملآيين) بالمحطة الوسطى بالخرطوم. كنت أزورها مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع. فصحف ومجلات وكتب بيروت الجديدة كانت تصلها في ذات يوم صدورها (هكذا كان يفعل معظم المثقفين والأدباء السودانيين). وكانت تنتشر أيامها مقولة تقول القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ! وكانت تلك مقولة صحيحة وغير مردودة.
وبينما كان المطري يناولني بعض الصحف والمجلات، رأيت أن العدد الجديد من مجلة (حوار) اللبنانية قد وصل في نفس اليوم .. التقطت نسخة منها وبدأت أتصفحها. وبعد عدة صفحات فوجئت برواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، منشورة في ست وثمانين صفحة في حروف متوسطة، اتكأت على (بنك المكتبة) ورحت ألتهم الكلمات التهاماً حتى وصلت إلى الصفحة العشرين، لم أصدق عينيّ، ولم أصدق أن كاتب هذا (السرد السحري) هو ذلك الطيب صالح الذي التقيته قبل عام!
فندهت "يا حامد .. يا مطري .. أديني خمس نسخ من حوار!". سمعت ضحكة مجلجلة خلفي، التفت فإذا هو الأديب والناقد صديقي عبدالله علي إبراهيم، بادرته بقولي: "أنا أعرف رأيك في حوار، لكن هذه نسخة هدية مني لك، فاقرأ من صفحة كذا .. إلى صفحة كذا!".
ومضيت سكتي بعد أن اشتريت "سندويشة" إلى أمدرمان حيث كنت أسكن وحدي في بيت مكون من غرفة وحوش وحمام في حي الأمراء.
ألقيت بـ"السندويشة" ونسخ حوار الأربع على طاولة، وأضأت النور وبدأت ألتهم الكلمات في سرعة مسكونة بالشوق، حتى أتيت إلى آخرها، لكنني عدت إليها من البداية للمرة الثانية ثم الثالثة. تملكتني دهشة عارمة وإعجاب بلا حدود بالرواية، وأسلوبها، وأبطالها.
كنت قد درست بقسم اللغة الإنجليزية بـ(جامعة القاهرة الأم) الآداب البريطانية والأمريكية والفرنسية والسوفيتية، وكنت قد درست الشعر الإنجليزي من عصر (جوسر) أب اللغة الإنجليزية، إلى عبقريها شكسبير، إلى الرومانسيين، إلى الميتافيزيقيين، إلى عصر تي. إس إليوت، الذي كتب قصيدته الكبرى (الأرض اليباب) (The Waste Land) العام 1922م ثم أعقبها بأخريات أهمها (الرجال الجوف) (The Hollow Men) كما كنت قد درست معظم روايات شارلس دكنز، وأوسكار وايلد، ودي اتش لورنس، وفروست، وجيمس جويس إلخ.
كذلك الأدب الأمريكي برواياته ومسرحياته وشعره. وكنت من عشاق روايات أرنست همنجواي، وفي الروايات السوفيتية كنت معجباً بروايات كثيرين، أهمهم أنطوني جيكوف، وجوركي وبالفرنسي موباسات أب القصة القصيرة عالمياً، فهو أول من كتبها. وبقية العقد الفريد من مفكري وشعراء وروائيي فرنسا، وعلى رأسهم فكتور هوجو، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وساغان، وبودلير، وكافكا و...
وكان ذلك الشريط يمر أمامي، وأنا مستلق على سريري، وفجأة تذكرت أن هنالك شيئا ما، بين الطيب صالح وجيمس جويس واليوت، من ناحية وبين الطيب وفروست، من ناحية أخرى فجيمس جويس في رواياته، واليوت (في الأرض اليباب) يعتمدان أسلوب الإنتقال من الحاضر إلى الماضي، والعكس صحيح، بدون تمهيد للمتلقي وكذلك فعل الطيب الصالح في (موسم الهجرة) وإن كان الطيب يمهد لهذا الإنتقال بسلاسة وعذوبة وأريحية.
وهذا ما يسمونه Modernity against antiquityأي الحداثة أو المعاصرة في مواجهة التراث أو القديم!
ولاحظت كذلك استفادة الطيب استفادة فنية رائعة من فقرة وردت في رواية فروست غاب عني اسمها. ومعظم أبطالها من جنوب شرقي آسيا وتكثر فيها حكاية توارد الخواطر بين من هم في آسيا ومن هم في بريطانيا. قلت هذا للطيب، ونحن نتناقش حول (موسم الهجرة) في شقتي بنواحي همستد، في لندن فيما بعد، فأكد لي أن ملاحظاتي صحيحة، وفي مكانها! غير أنني برغم عظمة تلك الروايات وكُتّابها لم أحفل بها مثل احتفالي بموسم الهجرة. وتلك شهادة أبذلها للتاريخ!
كان الأستاذ محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء ووزير الخارجية العام 1967م هو رئيس اللجنة الثلاثية حول اليمن، وكان يتنقل بين اليمن والسعودية ومصر قبل وبعد مؤتمر (اللاءات الثلاث) بالخرطوم أغسطس 1967م. وقرر في أواخر ديسمبر من ذلك العام زيارة مصر، للقاء الزعيم جمال عبدالناصر.
وكان دائماً يأخذ أحد السكرتارين الثوالث معه ليعد تقريراً بتلك الزيارة، وكنوع من التدريب، وكان حظي أن أسافر معه، فأعددت حقيبتي على عجل، وأخفيت نسخة من مجلة (حوار) التي بها رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) تحت ملابسي، لأنها كانت ممنوعة من دخول مصر؛ بحسبان أنها مجلة طبق الأصل من مجلة (إنكاونتر) الإنجليزية والمتهمة وقتها بأن أجهزة الأمن البريطانية تقوم بتمويلها.
وصلنا مصر ونزلنا فندق شبرد، وتزاحم الأدباء والصحفيون لزيارة المحجوب، ومعظمهم كان صديقاً لي وبينما كنت أحاول الاتصال ببعض أصدقائي وعلى رأسهم جليل البنداري، ورجاء النقاش، اتصل بي جليل البنداري، بصوته المبحوح، وهو يقول: "يا ابن الإيه.. بقيت مُهِم.. !!"
فسألته عن تلفون رجاء النقاش، فذكره لي على الفور، واتصلت بهاتفه في مجلة "المصور" فعلمت من سكرتيرته: "أنه خرج قبل قليل في طريقه إلى فندق شبرد". فأيقنت أنه قادم إلينا، فوضعت نسخة مجلة (حوار) داخل جيب سترتي، وجاء "رجاء" وأخذته إلى جناح المحجوب، وأنا أهمس في أذنه (لديّ مفاجأة مذهلة لك!).
وبعد أن التقى المحجوب وخرجنا معاً من جناح المحجوب أخرجت مجلة (حوار) ووضعتها في جيب سترته، فضحك وهو يقول: "إنت بتديني فلوس ولا إيه!؟"، "فلوس إيه.. أنا وش فلوس يا رجاء بيه .. إنت رايح فين من هنا!؟". فقال: "رايح البيت .. ليه!؟".
فقلت: "أول ما تصل البيت طلع المجلة دي واقرأ من صفحة كذا لصفحة كذا!". وذهب سكته، وعدت أدراجي..
رن الهاتف قبل منتصف الليل في غرفتي، وإذا برجاء النقاش يسألني: "مين الطيب صالح ده! فقلت: إنه سوداني يعمل في البي بي سي العربية، وهو رئيس قسم الدراما بها!
فقال: "ده هايل، ده عبقري .. سيكون مقالي القادم عنه".2 انتهى.
سيد أحمد الحردلو
هوامش:
1- نُشر مقال سيد أحمد الحردلو، بجريدة "آخر لحظة" السودانية في 1 مارس 2009 ثم أعيد نشره بصحيفة "سودانايل" الإلكترونية في 31 أكتوبر 2010. وعنوان المقال كاملاً: (وهكذا رحلت العذوبة والأريحية فجر الأربعاء 18 فبراير.. يوم الهول العظيم).
2- نُشر مقال رجاء النقاش بمجلة "المصور" القاهرية في أوائل 1968 وجاء تحت عنوان: (الطيب صالح.. عبقري الرواية العربية). وقد اتخذ محمد سعيد محمدية صاحب "دار العودة" البيروتية التي احتكرت نشر أعمال الطيب صالح في البداية عنوان المقال وجعله اسما لكتاب: (الطيب صالح عبقري الرواية العربية) الذي أصدره في سنة 1976 وضم الكتاب عددا من المقالات المختارة عن الطيب لصالح لنخبة من الكتّاب المصريين والسوريين والسودانيين ومن بين هذه المقالات، مقال رجاء النقاش.
عبد المنعم عجب الفَيا – 2 ن يناير 2023
abusara21@gmail.com