مديريتي حلفا وكسلا في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي

 


 

 

 

بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الرابع والعشرين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م).
ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ مديريتي حلفا وكسلا في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بحلفا مقال عنوانه: "السجناء السياسيون في وادي حلفا" https://www.sudaress.com/sudanile/58202
ومقال مترجم لإداري بريطاني اسمه جي اي اتش نشر بعنوان "مذكرات حول فلاتة ميلي في كسلا" https://www.sudaress.com/sudanile/71026
المترجم
******* ****** ******

مديرية حلفا

تفوق مديرية حلفا مديرية بربر في المساحة، فمساحة مديرية حلفا تبلغ 112,300 ميلا مربعا، بينما تبلغ مساحة مديرية بربر 98,000 ميلا مربعا. غير أن عدد سكان مديرية حلفا (38,325 نسمة) لا يزيد على ثلث عدد سكان مديرية بربر. ومديرية حلفا هي أقل المديريات اكتظاظا بالسكان بعد مديرية البحر الأحمر.
أما من ناحية فيزيائية (طبيعية)، فمديرية حلفا تفتقر لأي نوع من الجاذبية، وتربتها على وجه العموم غير منتجة، فلا غرو أن كان سكانها في أشد حالات الفقر بسبب ذلك. وكانت أهمية تلك المديرية في الماضي تقتصر على أن عاصمتها (مدينة وادي حلفا) كانت مقرا لرئاسة مصلحة السكة حديد. غير أن رئاسة تلك المصلحة نقلت إلى مدينة أتبرا في عام 1906م، ففقدت وادي حلفا بذلك التغيير الكبير أي أهمية تجارية كانت لها. ولم تفلح زيارة الأميرة البريطانية لويز دوقة آرجايل (1848 – 1939م) لحلفا في ذيوع صيتها عند من يمرون بها وهم في طريقهم من مصر إلى الخرطوم، إذ كانوا لا يجدون سببا واحدا للبقاء في المدينة سوى تلك الفترة الوجيزة بين وصول الباخرة من الشلال ومغادرة القطار المتجه صوب الجنوب.
ويبلغ عدد سكان مدينة حلفا 30,000 (من جملة 38,325 نسمة في كل المديرية)، جلهم تقريبا من البرابرة (Berberines). وكل سكان مديرية حلفا من المستقرين، وليس بينهم من قبائل الرحل إلا قلة من الكبابيش يعيشون في دنقلا، ولكنهم يدفعون ضرائبهم وعوائدهم في كردفان (المديرية المجاورة).
وليس في المديرية من تجارة مهمة سوى تلك المتعلقة بزراعة النخيل وتسويق ثماره، خاصة في مصر، حيث يشتد الطلب عليه. ولحسن الحظ لا يعتمد سكان حلفا في معاشهم على الزراعة بصورة كاملة، وإلا لعانوا أشد المعاناة في المواسم التي لا يكون فيها الحصاد كافيا. ويكسب الكثير من رجال المنطقة المال من عملهم في خارج البلاد، ويرسلون معظمه لعائلاتهم في حلفا. ولا ريب أنه ستمر على هذه المديرية أيام أفضل في مقبل السنوات، فقد أفلح سكانها من قبل في العيش بصورة معقولة وهم تحت ظروف شديدة القسوة. فمع تحسن الأوضاع ستزداد أعداد السكان في المنطقة بصورة محسوسة، ولكن في أيام الضَّنَى والحرمان يهاجر الرجال بالآلاف للبحث عن معاشهم في خارج ديارهم.
ووادي حلفا هي أول ما يراه المسافر القادم للسودان من مصر. وكانت المدينة في الماضي تعد معلما كان المصريون القدماء يعدونه حدا لجنوب مصر. وتُعد قلعتا سمنة وقمنة (على بعد 35 ميلا من الشلال الثاني) الآن مجرد موقعين أماميين متقدمين (advanced outposts). وبنهاية نوفمبر من عام 1884م مر من هنا نحو 7,000 من الجنود المصريين، شكلوا جزءًا من طليعة قوات حملة السودان الاستكشافية، تحت قيادة سير هيربرت سيتورات، بينما كان يتم نقل 11,000 من الجنود البريطانيين، تحت قيادة لورد ويلزلي، ببواخر شركة توماس كوك وولده بين أسيوط ووادي حلفا (والمسافة بينهما تبلغ 550 ميلا). وعلى ذكر تلك الشركة الشديدة الكفاءة، ذكر الكثير من المؤرخين والكُتاب (منهم السيد رويل مؤلف كتاب "الحملات المصرية") أنه لو قدر لحملة إنقاذ غردون أن تسند لتلك الشركة الناقلة، لأفلحت في إخراج غردون من الخرطوم وإعادته سالما لبلاده. غير أني أرى أن مثل تلك المقولات تبدو غير معقولة بعض الشيء.
وتقرر في وادي حلفا في عام 1897م (أي بعد سنوات من بدء الحملة) أن يبدأ العمل في إنشاء خط سكة حديد، إذ أنه لا غنى عن إنشاء مثل ذلك الخط الحديدي للتغلب على صعوبة نقل جنود حملة السودان الاستكشافية الثانية.
(للمزيد عن قصة إنشاء خط السكة حديد يمكن النظر في المقال المترجم بعنوان: " قصة إنشاء خط السكة حديد عبر الصحراء" https://www.sudaress.com/sudanile/28558 ، والمقال المترجم بعنوان: "عرض لكتاب "أول قطار سكة حديد في السودان: بعثة إغاثة غردون وحملة دنقلا" https://www.sudaress.com/sudanile/42560). المترجم.

وكانت "أبو حمد" هي النقطة التي خُطط لوصول الخط الحديدي إليها من وادي حلفا. وعندما بلغ ذلك الخط منتصف المسافة (بين الموقعين) كان الدراويش - الذين كانوا قد انتشروا في تلك المناطق - قد تجرعوا الهزيمة على يد الجنرال هنتر. فقد قتل أو جرح منهم ما لا يقل عن 1300 مقاتل (من مجموع 1500). وأخيرا بلغ خط السكة حديد "أبو حمد" في 31 أكتوبر 1897م.
وبوصول الخط الحديدي إلى "أبو حمد" ثم اتبرا (التي انتقلت إليها لاحقا رئاسة مصلحة السكة حديد) فقدت وادي حلفا مجددا أهميتها. ورغم ذلك فلابد من القول بأن بالمدينة قليل من المباني الجذابة المنظر مثل مبنى رئاسة المديرية، وبعض منازل الأوربيين المريحة المنعزلة عن بعضها التي تحيط بها حدائق صغيرة جميلة. وتُعطي الأشجار التي زُرعت قبل نحو عقدين من الزمان (مثل أشجار اللبخ والدُّلْب (sycamore) والأكاشيا والتين البري) المدينة منظرا يوحي للمرء بأنها تقع في منطقة شبه استوائية، وهذا ما يخفف قليلا من تأثير مشاهدة كثير من أكواخ الأهالي القبيحة الرديئة التصميم التي لا تزال موجودة بالمدينة. وهنالك أيضا بعض أشجار الكينا (الأوكالبتوس) الأسترالية التي تفوح منها روائح طيبة تختلط بروائح أقل قوة من الأزهار التي تظل مُونَعة في السودان طوال العام.
وكان لورد كتشنر (إبان عمله كسردار للجيش المصري) قد أقام في أحد تلك المنازل الصغيرة الجميلة بحلفا، بينما أُقيم قسم المخابرات والإدارة العسكرية، ورئاسة ميز الضباط في ذلك الحي أيضا. وبالمدينة ميدان عام محاط بأشجار وأزهار جميلة مُعتنى بها. وستقام في المستقبل مبانٍ حكومية جديدة يؤمل أن تعطي لمنظر المدينة العام بعدا جماليا. ولا زال موقع المعسكر الحربي (الذي كان يسع 15,000 من الجنود) موجودا حتى الآن، غير أن كل المباني التي كانت به قد اختفت منذ سنوات.
وشهد عام 1896م انتشار وباء الكوليرا في وادي حلفا، واصابة آلاف السكان به. وهنالك الآن دار كبيرة للحجر الصحي (كرنتينة) تقع على مسافة بعيدة من النيل. غير أن المدينة لم تشهد أي وباء أو مرض خطير منذ ذلك التاريخ.
************* **********

مديرية كسلا
يبلغ عدد سكان مديرية كسلا ما مجموعه 84.000 نسمة. وعلى الرغم من أن تلك المديرية ليست من المديريات المكتظة بالسكان، إلا أنها واحدة من أكثر مديريات البلاد إثارة للاهتمام. وسيكون لها دور بارز في صناعة تاريخ السودان نسبة لمشروع مد خط السكة حديد المقترح، الذي سيفتح الباب واسعا – عند اكتماله – أمام مصادر كامنة في أراضي تلك المديرية التي تبلغ مساحتها 44,900 ميلا مربعا.
غير أن هنالك عدد من المصاعب الطبيعية التي يجب على هذه المديرية مواجهتها. ولا يمكن أن تُعد تلك المصاعب عصيةً على التخطي، إلا أن التغلب عليها يتطلب وقتا ومالا (ونشدد هنا على المال). فينبغي مثلا حل مشكلة عدم انتظام الامداد المائي. وفي بعض الشهور المطيرة (بين شهري يونيو وأكتوبر) يصبح التحرك بين أجزاء كثيرة في المديرية مستحيلا (أحيانا لأسابيع متصلة)، بسبب طبيعة التربة الكثيرة الشقوق، وكثرة الخيران التي تتجمع فيها المياه مكونة بحيرات مائية حقيقية. وتوجد بالمديرية الكثير من غابات نباتات كثيفة (غالبها عديم القيمة، مثل نبات الكتر) ينبغي إزالتها واستبدالها بنباتات عشبية تصلح للرعي. وبمديرية كسلا، حتى بوضعها الحالي، مراعٍ غنية واسعة ترعى فيها الأبقار (ذات القرون الطويلة) والمعز والإبل. وفي خلال فصول السنة تنمو الكثير من الأعشاب حول برك المياه التي تخلفها الأمطار الغزيرة. أما في موسم الجاف، فيظل اللبن واللحوم تباع في أرجاء المديرية بأسعار زهيدة. ويمتلك كثير من سكان كسلا، خاصة الشكرية (تحت زعامة الشيخ أبو سن) الكثير من القطعان التي ترعى في منطقة (مشرع خشم القربة)، التي أعدها أكثر المناطق الطبيعية جمالا بالسودان. وتوجد الكثير من الماشية الحسنة المنظر والمعتني بها بمنطقتين مجاورتين هما (خور) التومات والمُقطّع.
وهنالك عائلة قبلية أخرى معروفة بامتلاك الكثير من الأبقار، وهي عائلة الطيب عبد السلام، التي يتزعمها شيخ سوبا. وكان هؤلاء من ضمن العرب الذين التحقوا بالمهدي، ربما من أجل أن يساعدهم ذلك في الاعتداء على جيرانهم المستضعفين عديمي الحيلة. ومن السهل الآن ليس تفسير فقط غناهم قديما وحتى الآن بعد زوال المهدية، ولكن أيضا كيف صعد نجم تلك القبيلة حتى بقيت مسيطرة على نحو ما على المناطق الريفية شرق "أم ضبان". (ورد في موقع يُعرف بذلك الشيخ أنه كان "عمدة قبيلة المغاربة"، وأنه كان أميرا لتلك القبيلة في المهدية. https://www.facebook.com/1468830833407622/posts/1535127416777963/ .المترجم). ومن السهل أيضا تفسير سبب السلطة التي مارسها عرب الشكرية، والثروة الحيوانية التي كانوا يمتلكونها في الأيام السالفة.
أما من ناحية المناظر الطبيعية، فعند مديرية كسلا الكثير لتقدمه، خاصة وأن بها سلاسل من الجبال ذات تشكيلات غريبة الأشكال. وتمثل المجموعات الصخرية الغريبة التي تعرف جميعها بـ "جبل كسلا"(البالغ ارتفاعه 2600 قدما، وأعلى قممها في كسلا ومُكرام) امتدادا لسلسلة الجبال الحبشية، رغم وجود سهل واسع يفصلها عن الجبال في مديرية كسلا. وفيما عدا جبل كسلا (الذي سميت به المديرية، أو العكس)، ليست هنالك جبال مهمة أو لافتة للنظر في المديرية. وتغطي سفوح جبل كسلا الأعشاب الكثيفة، التي تزداد كثافة وطولا في موسم الأمطار (يزيد طولها على 12 – 15 قدما في موسم الأمطار، مقارنة بطولها في غير موسم الأمطار الذي لا يتعدى قدمين إلى ستة أقدام). وهي مرعى جيد للغنم والأبقار.
وتقع جبال مديرية كسلا الغريبة الشكل على بعد أميال عديدة من مسار الأبل الرئيس المؤدي من كسلا لمرمان. وتشبه جبال كسلا في هذا جبالا في روديسيا وجنوب أفريقيا، خاصة في السلسلة الجبلية الجرانيتية الواقعة بين ساليسبوري وأمتالي، التي تمتد موازيةً لخط السكة الحديدية الرابط بين ساليسبوري وبييريا (إحدى مدن موزمبيق الآن)، الذي يبلغ طوله 374 ميلا.
وتنمو في مختلف مناطق المديرية أنواع مختلفة من الأشجار منها الأكاشيا والهشاب والطلح، وأعشاب كثيرة منها اللعوت والكتر وأم ضنيب والقَوْ. وغالبا ما تكون الأدغال والغابات في كسلا شديدة الكثافة. وقد يتوه فيها أي صياد يبحث له عن غزلان أو دجاج حبشي، إذا فارق جماعته أو فقد الاتصال بهم بكل الوسائل المتاحة. وصارت حوادث الضياع في غابات السودان (حتى على بعد مئات ياردات قليلة من المسار الرئيس في تلك الغابات) من الأمور البسيطة المعتادة.
ولمديرية كسلا ارتباط بحوادث تاريخية لا يستهان بها. فقد كان الإيطاليون قد استولوا عليها في عام 1894م، وتخلوا عنها للسودان الإنجليزي المصري في عام 1897م. وفي هذه المديرية دارت معركة مهمة في القضارف عام 1898م. وفي ذلك العام دافع فصيل من حامية كسلا عن موقع بالقرب من "قلعة الفاشر" الواقعة على الشاطئ الأيمن من خور القاش.
ولا زالت تلك المدينة القديمة تحتضن قلعة مصرية حتى الآن (1919م). ويمكن في يوم صافٍ رؤية جبل كسلا العظيم من على بعد ستين إلى سبعين ميلا. ويمكن للمسافر أي يرى أيضا منارة جامع الختمية ومدخنة مصنع قديم على بعد خمسة أميال وهو على طريق كسلا – القضارف. وهذا هو دليل (غير متوقع) على وجود تمدن مستقر يلوح أمام المسافر بعد طول مشاهدة للطبيعة في خلاء ليس فيه من أي أثر لعمران. وهذا مما شأنه أن يترك تأثيرا غريبا في عقول غالب المسافرين.
ويبدو أن تاريخ مدينة كسلا إبان الحكم التركي – المصري كان دمويا نوعا ما. فقد كانت حاميتهم تدأب على التمرد، لا ريب بسبب سوء المعاملة والظلم الذي كان يلقاه الجند على أيدي الضباط الأتراك. وفي مرتين على الأقل أمر قائد الحملة بقتل كل من تمرد من الجند (في مجزرة متعمدة).
ويحق لمديرية كسلا أن تفخر بإمكانياتها الواعدة في مجالي الزراعة والرعي، خاصة وأن مساحتها الواسعة المتنوعة تشمل الأراضي الرملية والصخرية والجبلية عديمة الخضرة. وتتغير المناظر الطبيعية وأنت تنتقل عبر أرجاء مديرية كسلا إلى مديرية مجاورة.، فترى سهولا منبسطة متناثرة، تتخللها أراضٍ دَغِلةٌ، ووديان وأخاديد عميقة تشقها نهيرات غزيرة المياه. وترى ضفاف تلك الأنهار (في موسم الأمطار) أو مجاريها (في موسم الجفاف) محاطة بأشجار استوائية ونباتات طفيلية. وهنالك أيضا تلال جرانيت رسوبية، وصخور بيضاء شبه منبسطة، وتلال مدورة لا حصر لها مغطاة بحجارة مبعثرة وقليل من أشجار التبلدي الصغيرة. وعلى الجزء الشرقي للجبال (على الحدود بين مديريتي كسلا والبحر الأحمر) تنمو نباتات خشنة، تعطي منظرا مناقضا للأراضي القاحلة في بقية السهول المحيطة.
وتكثر خيران المياه في مديرية كسلا، وبعضها موسمي يجري خلال الجبال. وفي موسم الأمطار تتجمع بعض تلك الخيران (مثل خور بركة وCaageb ?وغيرها) التي تفيض لمسافة ميل أو نحو ذلك بعيدا عن شواطئها. وتصبح غالب تلك القنوات في أشهر الجفاف (أكتوبر إلى أبريل) مليئة بالأشجار (مثل الدوم) والأعشاب الخضراء الغزيرة. وتغدو تلك المناطق مكان استراحة للمسافرين العابرين.
وكانت مدينة كسلا تتبع في الماضي جغرافيا لأريتريا (هذه العبارة تنقصها الدقة، فقد سيطرت إيطاليا - التي كانت تحتل إريتريا- على المدينة بين عامي 1894 و1897م. المترجم). وما تزال بها "القلعة الإيطالية" التي تحيط بها أسوار تشكل مستطيلا مشيدا بالطوب الطيني المحروق مساحته خمسة فدادين، وله بوابة حديدية سميكة عند جانبها الشرقي. وكانت حامية كسلا تتكون من كتيبة مكونة من مجندين من الأهالي (يصل عددهم ما بين 800 و900) مع عشرين ضابطا إيطاليا. وكانت تلك "القلعة الإيطالية" حسنة التنظيم وبها مصدر مستمر من المياه الحلوة، مما جعلها محصنةً ضد هجوم الدراويش لفترة غير محدودة.
وعندما آل حكم كسلا للمصريين (في 25 ديسمبر، 1897م) بدأ التفكير في زراعة القطن بها نسبة لملائمة زراعته لتربة المنطقة الشديدة الخصوبة. وأقيم فيها أيضا مصنع لحلج القطن (تُرى مدخنته العالية من على بعد عدد من الأميال قبل دخول المدينة، كما ذكرنا آنفا). وبالإضافة لوظيفتها المعتادة، أدت تلك المدخنة العالية دورا أكثر فائدةً، إذ استخدمت كنقطة مراقبة لقوات الدراويش. وكان الحراس يصعدون لقمتها مستخدمين عددا من السلالم في داخل تلك المدخنة، التي أدت دورا عسكريا مركزيا مهما.
وتقع مدينة كسلا القديمة، التي ظلت مدمرةً طوال العقدين الماضيين، إلى الغرب من "القلعة الإيطالية". وهي محاطة بخندق عميق، لا يزال جزء منه موجودا إلى الآن، مع بعض المباني الأخرى. وكانت هنالك إلى الخارج أربع قلاع طينية، ما تزال موجودة حتى اليوم بحالها القديم، ويشكل وجودها معلما من معالم المدينة على خلفية جبلي كسلا ومُكرام.
لقد كانت كسلا مدينة سعيدة ومزدهرة قبل المهدية. ولكن في عام 1896م اقتحم ما يزيد على ألف من أولئك المتعصبين المتعطشين للدماء قرية صغيرة، اسمها مقادو، تبعد عن كسلا مسافة ستة أميال، وقتلوا كل من فيها من بشر، وأحرقوا كل بيوتها. وكان المهاجمون قد أخفقوا في العام السابق في اقتحام كسلا نفسها، فقد هاجموها وهم يظنون أنها تفتقر للقدرة على المقاومة، وحسبوا أن السيطرة عليها ستكون سهلة. غير أنهم كانوا مخطئين، فقد ظلت المدينة صامدة في شجاعة نادرة. وطاردت القوات الحكومية جنود عدوهم، وكبدوهم خسائر فادحة في مُكرام وتكروف (التي أقيمت بها لاحقا مزرعة سجون كسلا كما أفادنا خبير. المترجم).
وفي عامي 1891 و1892م هاجم نحو 10,000 من الجنود المهدويين بضراوة شديدة مدينة مهمة هي اقوردات. ولم يكن بحامية تلك المدينة سوى 2,500 من الجنود النظاميين وغير النظاميين. ورغم صغر عددهم، إلا أنهم أبدوا مقاومة شرسة. غير أن نقص الماء أعاقهم بسبب استيلاء الدراويش على كل آبار المنطقة وقتلهم لكل من يقترب منها. وحاولت القوات الحكومية الحصول على المياه بطرق سرية، إلا أن ذلك كلفهم الكثير من الأرواح والعتاد.
وعُقد بمدينة كسلا في نوفمبر عام 1897م مؤتمر مهم يتعلق بمرور الجنود المصريين عبر المناطق الإيطالية (المقصود هو الأراضي الارترية التي احتلتها إيطاليا. المترجم). وكان على رأس الجانب البريطاني السردار سير كتشنر، بينما كان على رأس الجانب الإيطالي الجنرال كانفاس (قائد القوات الإيطالية في أرتيريا). وللمشاركة في تلك المفاوضات، وليرى بنفسه ما يجري على الأرض، سافر كتشنر بطريق طويل أخذه من بربر إلى القاهرة، ومنها إلى سواكن ثم مصوع، ومنها إلى كسلا. وساهم بُعد نظر كتشنر وحسن تدبيره، وكذلك تعاون الايطاليين، في دخول القوات المصرية (الكتيبة السادسة عشر) لمدينة كسلا دون تأخير أو عوائق.
وتركت زيارتي للمدرسة الفنية في كسلا (وهي واحدة من عدة كليات تشابه كلية غردون بالخرطوم) انطباعا جيدا عندي. وفي هذا المدرسة يتعلم الصبية النجارة والميكانيكا والحدادة وصناعة العجلات وغير ذلك من الحرف اليدوية. والمبنى مجهز بورشة وأدوات ميكانيكية، تقلل من تكلفة إدارة المدرسة.
والدراسة لمعظم الطلاب بالمجان. ويقيم هؤلاء في غرف بداخليات بالقرب من المدرسة، توفر لهم فيها الوجبات الثلاث. ويعطون عطلة لشهرين كاملين في العام. غير أن الطلاب يؤثرون البقاء في الكلية للعمل على الرجوع لبيوتهم. وهم يبدون سعداء ونظيفين وفي أتم صحة. ويقدم هؤلاء الطلاب مثلا طيبا للجيل الصاعد في سودان كان منذ سنوات قليلة بلدا "لا أمل يُرجى فيه".
وأنشأ الملازم سانفورد فرقة للكشافة من أولاد جنود وضباط صف كتيبة العرب. وكان الملازم يدرب هؤلاء الصبية على مبادئ الكشافة الروتينية، مثل تقديم الإسعافات الأولية، والسير في طابور، وإرسال إشارات سيمافور الخ. وأبدى أولئك الصبية ذكاءًا وحماسا للتعلم، وكانوا يستمتعون بما يقومون به.
وقبل عهد المهدية، كان هنالك جامع رائع بكسلا (يعرف الآن بجامع الختمية). غير أن عثمان دقنة، ذلك المحارب الذي لم يرع للمساجد حرمة، قد أقدم على حرق ذلك الجامع الرائع البناء وتشويهه، وغضب أشد الغضب لعدم تمكنه من هدم جدرانه المحكمة البناء.
وكانت أولى المهام التي اضطلع بها جيش الاحتلال الإنجليزي – المصري في عام 1897م هي إعادة بناء جامع الختمية الذي هدمه الدراويش. وتكمن أهمية ذلك المسجد للأهالي في وجود مقبرة الداعية الفارسي الشيخ الميرغني فيه (هكذا؟! المترجم). وكان ذلك الشيخ قد بذل، مع أخ له، الكثير من الجهود من أجل إدخال الكثير من الوثنيين في أفريقيا إلى الديانة المحمدية. وبالإضافة إلى ذلك تم إرسال حفيده (سيدي علي الميرغني)، الذي كان يقيم حينها في مصر، إلى كسلا، حيث نُصب كراعٍ لقبة جده المقامة في مسجد أسلافه. وثبت أن تلك الخطوة كانت بالغة الكياسة، إذ أنها جعلت الكثير من الأهالي يثقون ويقدرون الإدارة الجديدة على الفور، وسددت ضربة قاتلة للسمعة القاتلة والنفوذ الواسع الذي كان الخليفة (عبد الله) يتمتع به.
وكانت تلك البذرة التي بُذرت من قبل قد أثمرت ثمرا طيبا عند اندلاع الحرب الأوروبية في عام 1914م، ولم يكن ذلك بالأمر المفاجئ لأحد. ففي ذلك العام كان عملاء المانيا يذيعون في أوساط مسلمي العالم الشائعات الضارة والأكاذيب المنكرة، ويحرضونهم على التمرد (على البريطانيين). وهنا برز دور كبار زعماء الأهالي (مثل الميرغني) في إثبات إخلاصهم، هم وأتباعهم، للإدارة. وكان من أهم من بادروا – من تلقاء أنفسهم – بإعادة توكيد ولائهم وإخلاصهم لها هو السير السيد علي الميرغني (K.C.M.C)، وكان حينها يقيم بكسلا، إذ قام بإرسال خطاب ودي ومهذب إلى الحاكم العام أعلن فيه – مجددا – وبتأكيد أشد، ما مضمونه التالي: "نحن في السودان نشارك جميعا الإمبراطورية في حربها ..." (جاء في مصادر أخرى أنه ذكر التالي: " نحن آسفون للغاية وقلوبنا مليئة بالحزن لعمل تركيا بالاشتراك في حرب ضد بريطانيا العظمى". المترجم). وختم رسالته بالدعاء قائلا: "ندعو الله أن ينصر الإمبراطورية، ويكتب النجاح لجلالة الملك، وكل رجال الإمبراطورية الشجعان".
لقد تم إنجاز الكثير لتحسين الأوضاع في كسلا وتجميل منظرها. وتبدو الآن (1919م) نظيفة ومنظمة. وزاد عدد سكانها حتى بلغ حاليا 35,238 نسمة، يعيشون في مجتمع مزدهر وآمن وحسن السلوك. غير أن سلوك من يسكنون في خارج مدينة كسلا يُعد أقل انضباطا، فبعضهم يمارس الصيد الجائر أو التهريب. وهذا مما يقلق السلطات المحلية كثيرا.
ومن مدن مديرية كسلا الصغيرة مدينة القضارف. وهي مدينة نامية تتكون من مجموعة من خمس قرى منفصلة، يقطنها سودانيون وعرب وأحباش وأغاريق وبعض قبائل الحَماريين. ولا يتجاوز كل عدد سكان المدينة الآن 8,000 نسمة. غير أن عدد سكان المنطقة كلها يقارب 38,000.
وفي أيام ما قبل المهدية كانت القضارف وكل ما حولها من القرى تعيش عيشة هادئة وسعيدة ومسالمة. غير أن المنطقة أقفرت تماما بعد أن سيطر المهدويون على مقاليد الأوضاع. وفي عام 1885م تم تدمير المنطقة بصورة شاملة، وقتل أو اعتقال كل السكان ورجال الحامية بها. وفي عام 1898م صارت المنطقة مجددا مسرحا لصراع عسكري، عندما استولت عليها فرقة صغيرة قادمة من كسلا تحت قيادة العقيد بارسون، الذي أفلح – بشجاعة منقطعة النظير – في صد هجمات (الأمير المهدوي) أحمد الفضل المتكررة إلى أن تم إنقاذه عن طريق قوة أرسلت له عبر النهر.
ويمكن للمرء أن يصل للقضارف عبر رحلة في مناطق قاحلة لا تثير الاهتمام. غير أن القضارف حافلة بمناظر جميلة، منها منظر قطاطيها الجميلة المبنية بأغصان الذرة ومعروشة في إتقان بديع بأعشاب جافة وتحاط كل قطية بسياج من أوتاد نباتية. وينسجم منظر تلك القطاطي تماما مع خلفية أشجار النخيل المتمايلة والأشجار الشوكية الشديدة الخضرة.
ولم يتم إلى الآن تخطيط مدينة القضارف وفقا لأي خطة معلومة، ولا تزال توجد بها حتى الآن العديد من الطرق والأزقة المخالفة. وكانت قد أجيزت في عام 1913م خطة بناء جديدة للمدينة، وزار مهندس المديرية القضارف ليشهد بدء تنفيذ تلك الخطة. وبنيت مؤخرا بالفعل عدد من المنازل، وصفوف من المتاجر بالطوب الأحمر. وأقيم مبنى للمستشفى بكتل خرسانية مجوفة، وبجانبه مبنى مريح وحسن التصميم يستخدم كمقر لسكن (ميز mess) الضباط.
وحرص المهندسون على تشييد طرق رئيسة لا يقل عرضها عن 20 إلى 30 قدما، ورصفها بالحجارة والحصى. وترتفع هذه الطرق بقليل عن مستوى أرض المدينة لتفادي غمرها بمياه الأمطار (التي تهطل بغزارة عادةً بين شهري مايو وسبتمبر) وتكوين برك تعيق الحركة. غير أن السفر في تلك الشهور في المناطق الريفية خارج المدينة يكاد يكون مستحيلا بسبب طبيعة التربة.
وتتوفر بالمدنية عدد من الآبار ذات المياه الحلوة السائغة للشرب، وهي تكفي المدينة طوال العام، وتوفر بالمجان لكل السكان.
وتكثر حرائق المراعي في السودان، خاصة في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتجعل الأعشاب العلوية الميتة قابلة للاشتعال. وأحيانا يتسبب الشَّرَارُ المتطاير من النيران التي يوقدها المسافرون في معسكراتهم في إشعال حرائق تشمل مناطق واسعة من المراعي (وصلت في بعض الحالات لأكثر من خمسين ميلا مربعا). ويصعب التعرف على المذنبين في مثل تلك الحالات والقبض عليهم.
وتعد القضارف نقطة عسكرية مهمة، ففيها كتيبة دائمة (هي كتيبة العرب) مهمتها الرئيسة هي الحفاظ على حدود البلاد مع الحبشة. وعند انتقال كسلا للسودان الإنجليزي المصري، نقل أيضا 350 من الجنود السودانيين الذين كانوا تحت قيادة الايطاليين إلى تلك الكتيبة. وكان الراتب لليومي للجندي من هؤلاء ثلاثة قروش. وكان عليهم أن يطعموا أنفسهم من ذلك المبلغ. غير أن أسعار الطعام كانت زهيدة لدرجة لا تكاد تصدق. لذا كان بمقدور أولئك الجنود ادخار كميات مقدرة من المال واستثمارها في شراء أبقار في غضون سنوات عملهم بالجيش. ويمنح الجندي المجيد لعمله عطلة سنوية قدرها 80 يوما. ويستغل أكثرهم تلك العطلة الطويلة في الرجوع سيرا على الأقدام لأهاليهم في الحبشة (التي تبعد قرابة 200 ميلا)، والعودة بنفس الطريقة.
وكانت مدينة القلابات تعرف عند الأحباش بـ "المتمة"، وهي تقع عند سفح منحدر على الضفة اليسرى من خور يسمى أب نخرة/ ابنخرى، يمثل الحدود مع الحبشة. وللقلابات أهمية تجارية كبيرة. وشهدت عبر تاريخها صراعات دموية عديدة بين مختلف القبائل التي تعيش على جانبيها (في السودان والحبشة). فقد هاجمها المهدويون في عام 1886م، وبعد ثلاثة أعوام على ذلك هاجمها ملك الحبشة يوهانس بجيش كان تعداد جنوده 80.000 إلى 100,000 فردا. ورغم ذلك العدد الكبير، إلا أن الدراويش أفلحوا في إلحاق الهزيمة بهم واحتلال المدينة. غير أن تلك المعركة قضت على التجارة بهذه المدينة تماما، إلى أن عقد البريطانيون والإيطاليون اتفاقيه سلام بينهما، فعاد النشاط التجاري لها مجددا، وغدت من المدن المهمة في المنطقة. ويعد البُنّ من أهم البضائع في القلابات، ولكنه أقل جودة من بُنّ غامبيلا (على الحدود الحبشية). وتحتكر الأسواق السودانية كل محصول البُنّ الحبشي تقريبا.
وتوجد بمديرية كسلا مدينة صغيرة هي (المفازة)، وهي قرية تقع على ضفاف نهر الرهد، وفيها مقر مأمور منطقة الرهد (ورد في بعص المصادر أن (المفازة) كانت تعرف بـ (ود نجم) قبل أن يمر بها المك نمر وهو في طريقه للحبشة، وترك فيها بعضا من جماعته. المترجم).
ومن أجمل محطات الاستراحة على طريق كسلا والقضارف هي محطة (صوفي أو الصوفي)، هذا بالطبع في حالة سكنت الرياح فلم تهب حاملة الغبار والتراب والرمل الخشن. وهي تقع على ضفاف نهر أتبرا، على بعد 40 ميلا من القضارف، و150 ميلا من كسلا. وبالصوفي استراحة مشيدة بالحجر على منصة عالية بنيت بحجارة كبيرة. ولعلها الاستراحة الوحيدة في المنطقة التي قد توفر قدرا من الراحة للمسافر المتعب.
وقرية الصوفي لا تشبه أي قرية عرفتها في السودان، إذ أنها بنيت دون أي خطة بناء واضحة، ولا تحتل أي مساحة محددة. فموقع القرية نفسه غير مُسْتَوي، وقطاطي الأهالي فيها مبعثرة، وكل واحد من سكانها يبني أين وكيف ما يحلو له. ويبدو سكان الصوفي في غاية الأمن والسعادة والرضا، ويعيشون على زراعة مساحات ليست بالصغيرة بالذرة، ويربون المعز، ويصطادون الأسماك من النهر القريب، والطيور والظباء وغيرها من البرية حولهم (توجد مدينة لها نفس الاسم "الصوفي" على امتداد النيل الأبيض، على بعد 50 ميلا من الدويم. المترجم)
وعلى بعد مسيرة نصف يوم تجد قرية التومات، وهي على الضفة الأخرى للنهر، في منطقة شديدة الثراء بالحيوانات الوحشية. وترد على النهر في تلك المنطقة مئات الغزلان للسقيا. ويسمع فيها بالليل والنهار زئير الأسود وغَطِيط الفهود. وتعيش بالقرب من ذلك النهر مئات القرود الشَعْثاء الشديدة العدائية. وتكثر في مياه النهر بهذه المنطقة تماسيح ضخمة الحجم، خاصة في موسم الجفاف، ويمكن للمرء أن يصطاد العشرات منها. وهذه أفضل طريقة لمنع هذه الحيوانات المفترسة الكريهة من الاقتراب من الشاطئ، إذ أنها ماهرة جدا في اصطياد من يمشي دون انتباه على الشاطئ وجره إلى داخل النهر حيث تكون فرصته في الإفلات من فكيها معدومة تماما.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء