كتبت في مقالٍ سابقْ انتصارا وتمهيدا لولادة الديمقراطية المعافاة: "لنحلم بسودان بلا أحزاب تقليدية. ساحة سياسية خالية من متاريس القهر الفكري. بلا مريدين أو (سادة) أو طوائف. بلا كرامات أو نبوءات بقرب ظهور (المهدي المنتظر)." وأفصل أدناه ما التبس، وظنه البعض حيادا عن الديمقراطية. كنداكات الأحفاد حين هتفن في وجه الصادق المهدي مطالبين بسودان بلا أحزاب، لم يرفعن شعارا مناهضا للديمقراطية. هتفن ضد حزب الأمة التقليدي، الحزب الذي يصنفه حميدتي ضمن الأحزاب (العريقة). ويصنف زعيمه (حكيم الأمة) ويدعوه للانضمام لحشود ادارته الأهلية. والصادق المهدي لا يرفض، بل رد التحية (بأحسن منها)، داعيا المجلس العسكري بأكمله للانضمام لحزب الأمة. هذه الاريحية وتبادل المنافع قد يكلف أهل السودان ثلاثين عاما أخرى من الدمار والفساد الماحق. وربما الدعوة (لسودان بلا أحزاب تقليدية) جاءت لقفل الطريق أمام تحقق مثل هذه التحالفات المريبة والمعيبة. على الأقل سنوات الانتقالية الثلاث ستضمن تنظيف الملعب السياسي. وربما ابتدار أسس جديدة لنشوء الأحزاب. وربما (الحل في الحل). حل جميع الأحزاب المسجلة في عهد (الإنقاذ) والبدء بصفحة جديدة. ولنتأمل حال الأحزاب التقليدية لنشرح لماذا نقترح (الحل في الحل) لبناء ديمقراطية معافاة ومبرأة من لوثات العقائد الدينية. في السودان اليوم مسلمون ومسيحيون، رابطهم المشترك الوطن، ومبتغاهم الحرية والعدالة والمساواة. لذا يجب فصل الدين عن الدولة في أي بناء دستوري مقبلْ. يجب الاعتراف بالتعددية والمساواة المطلقة بين الجنسين وضمان حقوق الأقليات. ولتكن الأولوية لوقف الحروب، رد المظالم وفق (التمييز الإيجابي) لصالح المتضررين من مهمشي دارفور جبال النوبة والنيل الأزرق. أما الحديث عن ديمقراطية 56 و64 و85، فمجرد حديث، يحتاج الى تصحيح. بنية السودان السياسية التحتية، ليست مؤهلة، لا الآن ولا في السابق، لقيام ديمقراطية بمعزل عن تأثير سيدي وشيخي. أنظمة الغرب توفر المأكل والملبس والمسكن لكل مواطن، تفرض التعليم الإلزامي على الجميع حتى سن 16 ليتأهل بعدها المواطن للتصويت. قارن ذلك بواقع السودان، بقوافل الأميين الباصمين، أنصار سيدي وشيخي الذين مكنوا بيت المهدي والميرغني من احتكار حكم السودان. حتى 1962 ظلت جدة أكبر سوق نخاسة في العالم، والعبودية أسٌ أصيلْ من أسسْ الإسلامْ. وثلاثة من أكابر بيوتات السودان، (عبد الرحمن المهدي، علي الميرغني، يوسف الهندي)، ملكوا وسخروا الرقيق. بل عارضوا قرار الحاكم العام البريطاني في 1925 بإلغاء تجارة الرقيق في السودان. لماذ؟ "لأن دينهم يعطيهم الحق في تملك العبيد". هكذا أفصحوا وأوضحوا في خطابِ ما زال محفوظا في أضابير دار الوثائق السودانية. إذن ليست تركة (الكيزان) فقط تستدعي المواجهة الآن، بل كل الإرث الطائفي العنصري المؤسس لفكر الأنصار والختمية. ماذا عن أحزاب العروبة؟ القومية العربية دعوة عنصرية فجة في بلاد تسيل دماء أبنائها بفروق وهمية بين (الزرقة) و(الزرقة). اثنيات السودان لا تحتاج العروبة، ولا السودان يحتاج الجامعة العربية. القومية العربية نبت شيطاني غرسه الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لكسر شوكة الخلافة العثمانية. أثمر اصناف من الدكتاتوريات. رُزِئنا منها بالنميري، (قوانين الشريعة)، (الإنقاذ)، انفصال الجنوب وحروب الهامش المستعرة الآن. فلعافية وصحة المجتمع السوداني يجب دفن هذه الديناصورات المتحزبة. ونختم بالشيوعيين. معطيات القرن الحادي والعشرين تختلف. ودكتاتورية البروليتاريا فكرة طوباوية انقرضت بتطبيق دولة الرعاية الاجتماعية في الغرب. الآن بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، انهيار حائط برلين وثورة المعلوماتية، اشتبكت المفاهيم. في أمريكا هناك أعضاء كونغرس اشتراكيون، وبوتين صرح الأسبوع الماضي أن الدين ليس افيون الشعوب، بينما الصين تزحف نحو صدارة اقتصادات السوق. آن الإوان لإنزال اللافتة الشيوعية، والتوقف عن دفع (دمغة الإلحاد) التي تعشعش في الوعي السوداني. ما زال اليسار وقوى الاشتراكية تسيطر في أرجاء الدنيا. والسودان الجديد أحوج ما يكون لنظام يعيد توزيع السلطة والثروة لانتشال المهمشين. يستوجب ذلك عبورا وتضحية، ولكم في الخاتم عدلان خير مثال. مرة أخرى دعنا نحلم بسودان بلا أحزاب تقليدية. ساحة سياسية خالية من متاريس القهر الفكري. بلا مريدين أو (سادة) أو طوائف. بلا كرامات أو نبوءات بقرب ظهور (المهدي المنتظر). ويبقى (الحل في الحل).