مطالعات في مُذكرات بابكر بدري من مناظير اللغة والإناسة والفولكلور (2/2)

 


 

 

 

خالد محمد فرح


Khaldoon90@hotmail.com

لغة مذكرات بابكر بدري فصيحة في مجملها، ولا غرو في ذلك ، فإنَّ مؤلفها رجلٌ كان حافظاً للقرآن الكريم ، ودارساً للعلوم الفقهية والشرعية على علماء عصره ، ومُطَّلعا حراً نهماً للعلم والمعرفة، فضلاً عما كان يتمتع به من ذكاء فطري ، واستعداد طبعي للحفظ والاستيعاب ، مكَّنه من أن يصير وهو خريج الكُتَّاب أي " الخلوة " فقط ، من أوائل مفتشي التعليم من السودانيين تحت إدارة الحكم الثنائي، إن لم يكن أولهم على الإطلاق. ذلك بأنه قد ترقى إلى درجة مفتش في العام 1919م.
على أنَّ تلك اللغة الفصيحة عموما، تتخللها – غالباً من أجل إضفاء المزيد من الواقعية والحرارة على السرد – الكثير من الألفاظ والعبارات العامية ، وخصوصاً في بعض مواطن الحوار الدرامي، الذي اقتضته بعض المواقف والمشاهد التي مرَّ بها المؤلف، وكان فيها أخذٌ وردٌ بينه وبين محاوريه هو، أو فيما بين بعض الأشخاص المذكورين في المذكرات من عامة السودانيين وخلافهم، في الأماكن المختلفة التي عاش فيها.
ونحن نفترض أن اللهجة العامية السودانية التي استخدمها بابكر بدري، هي لهجة أهله الرباطاب في الأساس، وبطبيعة الحال، ولكن مازجها شيء من لهجات الوسط كأم درمان، وخصوصاً رفاعة، التي قدم إليها طفلاً صغيراً لم يشب عن الطوق بعد، ودرج بها وترعرع، وخالط فيها أترابه من الصبيان أثناء دراسة القرآن بالخلوة، أو خارجها في مراتع الطفولة المعتادة.
فنحن إذن، أمام نصٍّ أقرب إلى أن يكون هجيناً منه إلى أن يكون خالص الفصاحة من حيث بنيته اللغوية، وتلك لعمري هي خاصية ظلت تلازم السرد السوداني عموماً، سواءً الروائي منه أو السيري، من لدن طبقات ود ضيف الله، إلى روايات الطيب صالح، كما لم تسلم منه حتى مذكرات أكثر المؤلفين معرفةً وإتقانا،ً بل إيثاراً للكتابة بالعربية الفصحى، مثل العلاَّمة عبد الله الطيب، الذي لم يرَ بأساً البتة في استخدام العديد من الألفاظ والعبارات الدارجة في سيرته الذاتية الموزعة ما بين كتابيه: " من نافذة القطار، 1966 " ، و " من حقيبة الذكريات 1983" على التوالي.
ومهما يكن من أمر، فإنَّ هنالك ما يحملنا بشدة على الاعتقاد، من خلال اطلاعنا على هذه المذكرات، بأنَّ هنالك شخصاً مصرياً، أو على الأقل مصريّ اللهجة والثقافة، قد أعمل يده في زمان ما، في تحرير هذا النص. يدلك على ذلك جملة من الألفاظ والعبارات ، وطرائق رسم بعض الألفاظ بحسب أصوات اللهجة المصرية، التي وردت في المتن.
فمن بين تلك الأشياء مصرية الطابع والهوية مثلاً:
- ورد في صفحة 56 من الكتاب، في معرض وصف المؤلف لأهوال معركة توشكى، كلمة " عنقريبات " أي جمع " عنقريب " وهو السرير التقليدي في السودان، المصنوع من العيدان والحبال، أو قديد الجلد. فجمع عنقريب بهذه الصيغة " عنقريبات " مُنكر في الأذن السودانية التي لا تألف سماعها مجموعة إلا على " عناقريب " ، ولكن المصريين يجمعونها بالفعل على "عنقريبات".
- في صفحة 66 رُسم اسم المؤلف نفسه هكذا " واد بدري ". وهو مذهب موافق للهجة المصرية التي يقال فيها للولد " الواد " بألف بعد الواد ، وإنما يقول السودانيون فيها " وَدْ " فقط بواو مفتوحة تليها دال ساكنة.
- كُتب العَطرون هذا الملح الصحراوي المعروف الذي يعرفه السودانيون بهذا الاسم فحسب أي بالعين ، هكذا " النطرون " بالنون في أكثر من موضع في المذكرات. والنطرون هو الاسم الشائع في مصر وهو الصحيح، لأنه كما يقال مشتق من المصرية القديمة " نَتَرْ " ، التي تعني: الإله في تلك اللغة. على أن السودانيين لسبب ما آثروا نطقه بالعين.
- وفي صفحة 70 من الكتاب، رُسم اسم جزيرة " أرقُو " كما يكتبها السودانيون وينطقونها بالقاف المعقودة، هكذا " أرجو " بالجيم التي يوازي نطقها عند مصريي الوجه البحري خاصة، نطق القاف المعقودة عند سائر السودانيين، مما يرجح مصرية كاتبها، أو على الأقل، تأثره باللهجة المصرية.
- وكذلك لاحظنا أن أم الزوجة التي يطلق عليها السودانيون في عاميتهم اسم " النسيبة " ، قد أُشير إليها باطراد وفي أكثر من موضع في هده المذكرات ب (الحماة وحماتي) ، جرياً على مدهب اللهجة المصرية.
نخلص بعد هذه التوطئة لهذا الجزء من المقال، إلى ما ندبنا إليه أنفسنا من الوقوف بضع وقفات مع كتاب " تاريخ حياتي " للشيخ بابكر بدري ، وذلك عبر بعض المطالعات والمراجعات المحددة في مجالات ثلاثة هي اللغة، والأنثربولوجيا، والفولكلور.
أولاً: اللغة:
- لاحظنا أن بعض الألفاظ والعبارات العامية، مشروحة إما بين قوسين داخل النص ذاته، أو في شكل هوامش بأسفل الصفحات. ولا ندري عما إذا كان ذلك هو من صنع المؤلف نفسه بحياته، أو أنه من صنع شخص آخر، كأن يكون هو نجله العميد يوسف بدري الذي أشرف على طباعة المذكرات، أو أي شخص آخر قد يكون قد تدخَّل في تاريخ ما في تحرير النص. ولكننا نميل إلى أن يكون الشارح والمُحشي هو الشيخ بابكر بدري نفسه، إلى أن يخرج علينا خارجٌ ثقة وعليم، ببينة مقنعة في ذلك.
فعلى سبيل المثال، شُرحتْ عبارة " البحر رامي " الواردة بصفحة 19 من هذه الطبعة في الهامش السفلي من تلك الصفحة ، بأنها " اصطلاح معناه حاملاً أخشابا ". والرأي عندنا أن " البحر رامي " تعني بالأحرى في هذا السياق، أنه في حالة مدٍّ مطلقاً. وعندئذٍ فإنه سوف (يرمي) كل ما تحمله أمواجه المنحدرة من أجسام صلبة طافية فوقها، وليست الأخشاب وحدها فحسب.
- ص 20: وردت كلمتا " الجِدوة " و " الفَرطوق "، حيث شُرحت الأولى بأنها سوط قصير من جلد القرنتية وهذه الأخيرة شرحت بين قوسين بأنها (فرس النهر) ، أما " الفَرطوق " فقد شُرح بأنه سوط من جلد البعير مربوط في خشبة. قلتُ: الفرطوق سير رفيع مرن قد يكون من جلد البعير أومن جلد أي حيوان آخر غيره ، يربط إلى خشبة كما قال المؤلف أو عود ، وتسمع له فرقعة أو (فرطقة) عند الضرب به في الهواء ، ومن تلك الفرطقة كما نعتقد اشتق له اسم الفرطوق.
- ص 21: ذكر المؤلف من أنواع الأكسية التي كانت ترتديها نساء السودان في القرن التاسع عشر فما قبله ما كان يعرف ب " قرن خمري " ، وقد شرحه في الهامش (1) بأسفل الصفحة بأنه: نوع من القماش المزركش تلبسه النساء كإزار. ويبدو أن هذا اللفظ عتيق في عامية أهل السودان ، إذا أنه يذكرنا ب " قرن العلج " وهو اسم قماش آخر مذكور في طبقات ود ضيف الله.
- ص 22: قال المؤلف: " أخذت قصبة من سقف الخلوة الخ " ، وشرح الخلوة بين قوسين بأنها (غرفة الضيوف). وهذا المعنى من معاني (الخلوة) ، هو الشائع في كردفان حيث يطلقون (خلوة) على القطية المخصصة لانزال الضيوف والمسافرين الطارئين على القرية. وتكون عادة بعيدة قليلاً عن المسكن الأساسي، ولا يكادون يطلقون على كُتَّاب تعليم القرآن اسم الخلوة إلا نادراً ، والاسم الغالب عندهم، وفي سائر غرب السودان للمدرسة التقليدية لتحفيظ القرآن هو " المسِيد ".
- في صفحة 23 ، يقول المؤلف: " أخت باقي نقودي وكانت أربعة عشر قرشاً ودَمَجةً واحدة " ، ولم يقل لنا ما هي الدَّمَجة. ويشرح عون الشريف قاسم الدمجة في قاموسه بما يلي: " الدمجة: (س – وتعني أن اللفظة سودانية) العُملة المعدنية التي امحت آثار الكتابة من وجهها. والدمج كان يُضرب في أم درمان في المهدية ولا يزال موجوداً عند الباعة تُستعمل في الميزان. والدمجة (س) في الأصل كانت نوعاً من العُملة في عهد التركية سوداء اللون الخ. " (1)
- ص 26 ، كتب المؤلف على لسان والدته، في معرض حديثه عن مغامرته في شبابه الباكر برفاعة: " أفى أفى .. وحياة محمد سعيد هي تعمل عمل قلوبة وشرح هده الكلمة الأخيرة بين قوسين بأنها (فرس البحر) مع وليدها . والشاهد هو قوله: (قلوبة) بقاف معقودة وواو ممالة نحو الفتح ، والتي شرحها بين قوسين ب (فرس البحر). وهده هي لعمري، من شواهد لهجة الرباطاب في هدا النص ، ذلك بأن الرباطاب – فيما بلغنا – يسمون فرس النهر: قلوبة ، بينما يسميه سائر السودانيين قرنتي أو عينسيت.(2)
- ص 27 ، يذكر المؤلف المصطلح قيقر بمعنى حصن أو طابية او تحصين عسكري لحماية موقع ما. وقد يُطلق توسعا لكي يعني المدينة مطلقاً ، لأن المدن تكون عادة هي الأولى بالحماية والتحصين. والقيقر لفظ سوداني قديم وأصيل في العامية السودانية ، وقد يعود أصله القديم إلى بعض اللغات السامية القديمة ، فقد ورد في اللغة الأكادية بصيقة " قر " بمعنى: قلعة. وقرقر وهي صيغة الجمع بالتكرار بمعنى القلاع على الجمع. (3)
- ص 46 ، جاء فيها على لسان المؤلف: ودخل عليه والدي بعد ما رأى سور منزله الواسع كله محاط بالسِويبات (كُتبت خطأ السويباب بالباء في آخرها عوضاً عن التاء) الملأى بالذُرة والقمح وأنواع التمر والقطاني الخ.
الِسويبات بسين مكسورة وواو ممالة نحو الفتح، جمع سِويبة وهي وعاء اسطواني الشكل تقريبا وكبير الحجم، يُصنع من الطين وروث البهائم ، ويُتخد لحفظ الحبوب الغدائية. والسويبة بهذا اللفظ بالتحديد، هي لغة غرب السودان عموما ، بينما غالب أهل الشمال يقولون فيها " قُسَّيبة ". فلعل هذه مما وافقت فيه لهجة الرباطاب لهجة كردفان.
ويُلاحظ أيضاً احتفاء المؤلف بلغة الفقه ومصطلحاته ، عند ذِكره " القَطاني "، التي أخدها بكل تأكيد من (القطاني السبع) ، وهي أصناف معينة من البقول، لها كيفية مخصوصة في فقه زكاة الثمار.
- ص 55 ، صوَّر المؤلف أحد مشاهد معركة توشكى الماحقة قائلاً: " ففي نحو عشر دقائق لم يبق رجلٌ وحصانه سالميْن إلا قليل منهم، ونحن القَرَّابة شرحها (البيادة بين قوسين) اضطرتنا الوابورات والأورطة الشمالية للتقهقر. فكأن القرَّابة هنا هم جمع " أقروب " التي يطلقها السودانيون على من يمشي راجلا ، وهو جمع طريف ونادر.
- وفي صفحة 56 وردت كلمة الديم في هده العبارة: " فوُضع الديم كالعادة على بعد أربعة أميال من النهر خوفاً من سلاح الوابورات الخ ". فالديم في هدا السياق معناه: المعسكر الدي يقيم فيه المقاتلون أو الجنود لفترة معينة قبل التحرك لأداء مهمة حربية ما. وبالطبع فإن لمصطلح الديم مدلولات أخرى في سياقات مختلفة. فهو قد يعني الحي الشعبي البسيط الكائن باطراف المدينة، وقد يعني أيضاً المدينة مطلقا. ومنه الوصف الشهير لمدينة الأبيض بأنها " أب قبة فحل الديوم " ، أي فحل المدائن وسيدها ، ومنه أيضا قول الشكري يخاطب هجينه:
يا الوَقَّلْ تعال من ديم رفاعة نقوم
إتْ لحمَك كِمِلْ وأنا عيني جافية النوم
- وجاء في صفحة 57 من حكايات مغامرة توشكى القاسية التي خاضها بابكر بدري ورفاقه ، وما كابدوه خلالها من وطأة الجوع والعطش قوله:
" بعت من الماء ستة أكواز بستة ريالات مجيدي ، اشتريت بها لحماً جقوداً ، أي لحم الجمال التي فترت من المشي لضعفها " أ.ه. فاللحم الجقود هو إذن بلغة ذلك العصر ، هو اللحم الهزيل أو القليل الشحم والدسم ، أو ما يسمى ب " الجلافيط " ، من فرط ضعف الحيوان المذبوح سواء كان جملاً أو غيره. وعند عون الشريف أن جَقد وجَقود نوبية بمعنى: هزيل. (4) . وأما الريال المجيدي وهو من عملات ذلك العهد، ولعله استمر في التداول حتى العقود الأولى من القرن العشرين ، فهو الريال المنسوب الى السلطان عبد المجيد العثماني ، وهو ذاته الذي ذكرته الفتاة الكباشية حين قالت، ونقله عنها حسن نجيلة في كتابه ذكرياتي في البادية:
ختاتة خُتي زيدي
بكريك بى مجيدي
شوف لي حبيبي
في البلد البعيدي
- ومن آيات أمانة بابكر بدري العلمية ، أنه يذكر صراحة أحياناً، أنه لا يعرف معنى هده اللفظة أو تلك ، وذلك على غرار ما جاء بصفحة 101 من الكتاب ، والذي وردت فيه كلمة: تفعة في هذا المقطع من الشعر الشعبي:
ما دام الرجال متَّبعهْ ليشن يسووا جُحر الضبعهْ
ربي إن كتب لك وقعهْ أخاف ما بتنستر يا ابتفعَهْ
فصرح المؤلف بقوله: ولا أدري معنى تَفْعَة.
وبحثنا بدورنا عن (تفعة) هذه في قاموس عون الشريف ذاته ، فلم نجد لها أثرا.
- وفي صفحة 138 من الكتاب ، يذكر المؤلف " الِّسنبِلْ " بسين مشددة مكسورة تليها نون ساكنة بعدها باء مجرورة ، وهو ضرب من الحبوب العطرية التي كانت تستخدم في أخلاط الطيوب الشعبية في السودان سابقاً مثل المَحْلَب ، ويبدو أنه قد اختفى ربما مند عقود عديدة، واختفى اسمه معه تبعاً لذلك. وقد اضطرب عون الشريف في تفسير معناه، وخلط بينه وبين السُنبُل بضم السين وهو جمع السُنبلة التي تكون في النبات، وذلك على الرغم من أنه قد استشهد بقول الكباشي:
جامِعْ يا جليس أم سنبلاً بنَّان (5)
ومنه أيضاً ما جاء في وصف حور الجنة اللائي وُعد المتقون في المدحة الشهيرة التي يؤديها أولاد حاج الماحي: (طه المنومسا):
وصُناحن سِنبِلْ وعَرقهِن الزَّباد

- وأخيراً ، يُوقفنا الشيخ بابكر بدري في صفحة 153 من الكتاب ، على أن كلمة " ألِسْطَه " الشائعة بصورة أكثر في العامية المصرية ، هي كلمة تركية ، وأن معناها " تماماً كما تريد ". ولكنه رسمها هكذا: " على أسطة ". وربما يقودُنا هذا إلى أن نلاحظ بصفة عامة ، أن العامية السودانية قد ظلت تستعير وتمتص العديد من الألفاظ والعبارات من العامية المصرية، وعبر هذه الأخيرة من التركية، مند فترة الحكم التركي – المصري 1821 1885 –م ، واستمر الحال ربما إلى حوالي منتصف القرن العشرين، بيد أن كثيرا من تلك الألفظ والتعابير المصرية والتركية قد سقطت من الاستخدام بواسطة الاجيال المعاصرة، وتمت الاستعاضة عنها إما باستخدام ألفاظ وعبارات من العامية السودانية ، أو بألفاظ وتعابير مما استجد في العربية المعاصرة عن طريق عمليتي التعريب والترجمة ، وذاك لعمري باب واسع في علم اللغة الإجتماعي.
ثانياً: الأنثربولوجيا:
- أول ملمح انثربولوجي ذو بال يقابلنا في مذكرات بابكر بدري منذ بدايتها ، يتجلى في القصة التي أوردها في صفحة 17 من كتابه، عن مجموعة أبناء الرباطاب الدين وردوا إلى الخرطوم من ديارهم في أواخر عهد التركية السابقة بحثا عن الرزق والعمل، فاتُهموا ظلماً بأنهم قد أحرقوا غابة للحكومة بجوار قرية القرَّاصة بالنيل الأبيض ، وأودعوا السجن، فضمنهم رجل رباطابي من وجهاء الخرطوم يدعى السعيد، وولده يسمى مولَّى بك الذي وُصف بأنه كان يشغل منصب شيخ الرُّبُع بالخرطوم. والشاهد هو أن نظام الضامن القبلي أو العشائري قد كان مُمارساً ومعمولاً به في ذلك العهد. وهو وجود شخص ذو حيثية، ومعروف بالنسبة للسلطات المحلية بالعاصمة والمدن الكبيرة، لكي يضمن أفراد قبيلة أو عشيرة معينة، إذا ما ارتكبوا مخالفات توجب السجن أو الغرامة، سواء كان ذلك الشخص من ذات القبيلة أو العشيرة ، أو من أهل حِلفهم ومودتهم وثقتهم من أية خلفية اجتماعية أخرى.
- في صفحة 19 نتوقف مع سلوك الشيخ أحمد الكرَّاس ، وهو شيخ بابكر بدري ومعلمه المحبب لديه، والذي سوف يترك في نفسه أثراً عميقا ، مع الزعيم القبلي الشيخ عوض الكريم أبو سن عندما زاره في خلوته في رفاعة ، فلم يترك عمله وهو تصحيح ألواح التلاميد ، فيبادر إليه بتقديم فروض التبجيل والترحيب وما يصحبهما عادة من تلهف و (كبكبة) من قبل البعض. وهدا السلوك، أي عدم اكتراث بعض النساك والزهاد والعباد وشيوخ القرآن لأصحاب الجاه والسلطان ، هي ثقافة ونمط سلوكي أصيل ومعتبر في المجتمع السوداني ، وعليه شواهد من خلال قصص وحكايات مشابهة من هدا النمط ذاته وردت بكتاب الطبقات لمحمد النور بن ضيف الله 1727 - 1809م.
- نتعرَّف من خلال ما ورد في صفحة 21 من الكتاب ، بأنه قد كانت هنالك امرأة " كُجورية " تُدعى " عطا منه " بمدينة رفاعة مند فترة ما قبل المهدية. والكُجورية هي العرَّافة التي يلجأ إليها الناس لكشف السرقات وللدلالة على السارقين والمسروقات ، وكذلك لعلاج بعض الأمراض. ومن المدهش حقاً، وجود هذا الاسم وهذه الممارسة التي تنمُّ عن منطقة معينة بالسودان، في رفاعة منذ ذلك العهد. وقد جاء في الهامش رقم (2) من ذات الصفحة، تعليقاً على الاسم (عطا منه) ، بأنه " اسم متعارف بين الجواري. ودائماً تُسمى الجارية بنعت يُضاف إلى سيدها: تام زينه، فرجه قريب وهكذا " .
- وفي صفحة 28 ، يُعلمنا بابكر بدري بأن له خالاً كان يُدعى " باشا " ، فغير المهدي اسمه إلى " محمد يوسف " ، وذلك في إطار بغض الإمام المهدي للأتراك وألقابهم وكل ما يمتُ إليهم بصلة ، ومن ذلك الألقاب مثل بيك وباشا وبيه الخ ، وهذا داخل بلا ريب في سياق ما تعبر عنه المقولة التراثية السودانية إياها: " الحُمْرة الأباها المهدي " بكل مدلولاتها ومحمولاتها الانثربولوجية والثقافية.
- أما في صفحة 29 ، فيوقفنا المؤلف على معلومة طريفة ونادرة حقاً ، مفادها أنه قد هنالك مند أيام المهدية أيضاً ، ترويج للشائعات ، يقوم به أصحاب الأهواء والأغراض كما هو دأبهم دائما ، وذلك عن طريق استخدام الوسائل المتاحة والسائدة. وقد كانت الوسيلة السائدة عصرئد هي المنشورات. فيخبرنا بابكر بدري أنه كان قد شك – رغم صغر سنه وقلة تجربته نسبياً - في صحة منشور ما، وصحة نسبته للإمام المهدي ، فرفع أمره إلى قائده المباشر الأمير عبد الله ود النور، الذي أرسله بدوره رفقة خطاب إلى الإمام المهدي للاستيثاق ، " فجاء الرد بالسلب ويزيد التأكيد بأنه أي منشور لم يكن مختوماً بختم المهدي لا يُعتبر صحيحا ".
- ولعل من أسطع الملامح الأنثربولوجية في هذه المذكرات وأجدرها بالتدوين ، هو ذلك الملمح الذي ذكره المؤلف في صفحة 53 ، والذي يجسِّد شخصية المرأة السودانية من حيث هي ، واعتدادها بكينونتها ، وشخصيتها المستقلة فكرياً وايديولوجياً وسياسيا، حتى عن زوجها أحيانا. وقد جاء فيها أن والدته التي كانت أنصارية صماء العقيدة ، في مقابل والده " المُنكِر " ، قد قالت لزوجها عندما أراد القعود والتخادل عن المسير مع جيش الأمير عبد الرحمن النجومي إلى توشكى بمصر بقوله: " وكانت والدتي الصماء العقيدة في المجلس ، فهجمت على والدي وقبضت خده وقالت له: هوي يا دا الراجل الكافر .. صُدْ براك .. من الله نحن ما صادين شي .. وضحك والدي !! " (6)
إنَّ هذا الموقف البطولي من تلك المرأة الراسخة الإيمان بالمهدية ، وذلك التعامل الأريحي النبيل من قبل زوجها في المقابل، والذي قدَّر تصميمها، وقبل خيارها وجهة نظرها بنفس راضية ، وشيء من روح الدعابة ، ليس نادراً ولا مستغرباً ولا معزولاً البتة عن سياقه الثقافي والانثربولوجي والاجتماعي في مناطق كثيرة من شمال السودان خاصة. وهو – على كل حال – موقف لعله يذكرنا نوعاً ما ، بما جاء في خبر فتح مكة في السيرة، عن موقف هند بنت عتبة مع زوجها أبي سفيان بن حرب ، عندما عيَّرته بالجبن عن مجابهة جيش المسلمين الفاتح يومئذٍ ، وأمسكتْ بلحيته - وهو سيد قومه - وصاحت فيه: " اقتلوا الحميت الدَّسم الخ " ، فأعرض عن ذلك ، وتركها وشأنها.
- وفي صفحة 68 ، يروي المؤلف قصة تعكس طرفاً من تنميط المصريين عموماً للسودانيين على الأقل في ذلك العهد. وفحوى تلك القصة أنهم عندما كانوا محبوسين بسجن الشلال على إثر هزيمة جيش الأنصار بتوشكى واستشهاد قائدهم ود النجومي في عام 1889م ، أن بعض حُراس السجن من المصريين، كانوا يسألون الأسرى السودانيين أن كان عندهم " عرق محبة ! ". وللمفارقة، فإن السودانيين أنفسهم كانوا، وما يزالون ينمطون من وراءهم من شعوب غرب افريقيا عادة ، ويعتقدون أنهم هم أصحاب تلك الصنعة بامتياز.
- في صفحة 83 ، يخبرنا المؤلف أنه قد قابل أحد الأسرى السودانيين من جيش النجومي في سوق إحدى بلدات صعيد مصر، فانقبضت نفسه منه لأول وهلة، لأنه رأى بفمه تمباكا. والمعروف أن الإمام المهدي وأنصاره يمقتون التمباك ومن يتعاطونه مقتاً شديدا ، وما يزال هذا الموقف النافر من التمباك ومتعاطيه، قائماً بين الأنصار الأقحاح إلى يوم الناس هذا. بيد أن بابكر بدري يستدرك لكي يقول لنا إنه قد انشرح صدره لذلك الإنصاري الليبرالي وهشَّ له ، وودَّ لو أن قبَّل فمه بتمباكه ذاك كما قال ، فقط لأنه بشَّره بنجاة أمه وأخواته اللواتي كن قد تخلفن عن الجيش بسبب الإعياء في جوف الصحراء، ووجودهن سالمات في بلدة " أشكيت ".
- وأخيراً ، في صفحة 159 ، يُعلِمنا بابكر بدري بوجود تجار سودانيين كانوا يقصدون بلاد الهند للتجارة مند عهد التركية على الأقل ، وقد سمَّى من بين أولئك تاجراً مشهوراً في ذلك العصر يُسمى " منصور أبو كوع " ( ملاحظة عابرة بالمناسبة: أسماء الأعلام بكتاب تاريخ حياتي لبابكر بدري وتحقيقها ، يحتاج لمجلدات حقيقةً ) ، كان يسافر إلى الهند فيجلب منها مختلف أنواع الثياب والعطور ، ولعل ذلك هو ما يفسر وجود عدد من أسماء السلع الهندية الأصل مثل الثياب البنقالية والسرتية والكشميرية، والعطور السرتية ، والسِنبل وغيرها في العامية السودانية مند قديم الزمان.
ثالثاً: الملامح الفولكلورية:
- في صفحة 18 من الكتاب ، يشير المؤلف إلى مظهر فولكلوري شائع في سائر مناطق السودان ، ألا وهي ما تُسمى ب " البنينة " ، وهي نوع من الإنشاد الطقوسي الذي تؤديه جوقة من النساء في أثناء مراسم حناء أو " جرتق " العريس أو الصبي المختون " ود الطهور " ، والذي يُكال فيه المديح للمحتفى به ، وتصاغ له فيه الأمنيات والدعوات بالحياة الرغدة والرزق الوفير والحظ السعيد والرفاء والبنين الخ. وقال في هدا الصدد إن المغنية قد قالت في آخر بيت من بنينتها له حين ختانه وهو في السنة السادسة من عمره ، وهي ذات السن التي أُدخل فيها لدراسة القرآن في الخلوة: " الكسَّرْ سنينات اللبن في الخلوة ".
- وفي صفحة 19 يوقفنا المؤلف على ملمح فولكلوري طريف وشائع جداً في الحياة السودانية ، يصور طرفاً من عبث صبية الخلوة (الحيران) و" طمستهم " النمودجية، واستهبالهم ، وحيلهم المختلفة في خداع معلمي القرآن بالخلوة، وذلك حين ادعى كذباً أمام شيخه أنه قد عرض عليه لوحه ، ولم يكن قد فعل ذلك ، قائلاً: " يا سيدنا يموت الفكي ويموت أبوي أنا عرضت. فقال لي: تموت انت .. أمشي امحى وتعال اكتب ما محوته. فذهبت ومحوته وكتبت سطرين مما محوته ، فاتضح أمري فضربني على الكذب. ".
- يَغُصُّ الكتاب عموماً في الواقع ، بعدد كبير جداً من الأمثال السودانية والأقوال السائرة والعبارات البليغة ، بما يمكن جمعها وإصدارها في كتيب مستقل لوحدها ، خصوصا إذا ما صاحبها شرح وتفسير وتحقيق ومقارنة. ومن الواضح أن المؤلف قد هدف عمداً إلى إثبات تلك الأمثال والمقولات السائرة توثيقاً وحفظاً لها من الاندثار والضياع مع مرور الزمن لمصلحة الأجيال القادمة ، بوصفها تراثاً قولياً وطنياً جديراً بالاحتفاء والديمومة. وكما هو معروف ، فإن الشيخ بابكر بدري قد سار على ذات النهج ، فعمد إلى جمع عدد هائل من الأمثال السودانية ، وأصدرها في كتاب منفصل ، تحدوه ذات الروح المفعمة بالمسؤولية التربوية وبعد النظر ، والحرص على أداء أمانة العلم والمعرفة.
- ومن الملاحظ أيضاً ، أن الشيخ بابكر بدري ينتهج في مقاربته للأمثال الشعبية وطريقة عرضها ، نهجاً تعليميا توضيحيا Didactic من أجل توضيح مدلول المثل ، مع ذكر الموقف التي يحسن ضربه فيها بصورة ضمنية ، فيأتي به مفسرا ومشروحا ، مثل قوله: " إن جاتك في أم سمبوك ، تنسيك أمك أبوك .. أي إذا أصابتك الشدة في ذاتك تُلهيك عن غيرك ".(7)
- ومن الطرائف التي رصدها لنا المؤلف في صفحة 130 من سفره هذا، فيما يتعلق بالعبارات السائرة في الكلام السوداني الدارج ، أن مقولة " قميص عامر " التي ما تزال تُسمع خصوصا في جلسات لعب الورق " الكوتشينة " ، وهي كناية عن الموافقة التامة في العدد المطلوب أو المقاس بالضبط ، منسوبة لشخص معروف اسمه " عامر أزرق " ، كان من مشاهير التجار السودانيين في التركية. وفي ذلك يؤنب بابكر بدري إحدى زوجاته على عدم اهتمامها باستقبال بعض النساء اللائي جئن لزيارتها ذات يوم الاهتمام اللائق بقوله: " هده الحجول التي أثقلت رجليك من الحركة هي التي استقلتها زائرتك فزيدت لها. والتي معها بنت عامر أزرق صاحب قميص عامر المضروب به المثل الخ ".
- ومن أبرز الأقوال السائرة التي أجريت مثلا ، ونسبها المؤلف للإمام المهدي نفسه قوله: " من فشَّ غبينته انهدمت مدينته " ، وذلك إذ يقول في صفحة 41: " الانتقام لا يخطر ببالنا ، لأن المهدي عم يقول: " من فشَّ غبينته انهدمت مدينته ". وذلك هو لعمري من نفائس التراث القولي للامام المهدي ، الذي ما يزال يستشهد به الإمام الصادق المهدي في خطبه وأحاديثه أحيانا.
- ويوثق الشيخ بابكر بدري في صفحة 27 من سفره هذا كذلك ، لبعض الأقوال السائرة التي جرت مجرى الحكم والأمثال ، والمنسوبة جميعها إلى الشيخ محمد العبيد بدر 1810 1884-م ، في هذه الفقرة:
" فلما حضر الشيخ العبيد أُرسل له الوابور ليدخله بالقيقر فقال جملته المأثورة: أنا تَرَنْ تَرَنْ عند القيف حرن. أنا ماني فار بدخل الجحَّار ، وماني صبر بدخل الققر. أنا ود رية الما بربط النَّية ، أنا ماني متل ود الطريفي (حمد النيل) جا يتفولح جاب ضقلها يتلولح. إن سلمت سلمت، وإما سلمت باكر بجي أبو قرجة وتقيف الهرجة.. الخ ".
- وحول مستلزمات وطقوس العرس بوسط السودان في أواخر القرن التاسع عشر لرجل ميسور الحال ، يحكي لنا بابكر بدري فيما يلي طرفاً من ذلك في معرض تذكُّره لزواجه هو نفسه من زوجته " أم أحمد " ، وهي من بنات الريف ، أي من أصول مصرية:
" قلن لي ( أي مجموعة النسوة المشرفات على العرس ): طيب ترقص العروس. قلت: هي تعرف الرقص ؟ ما كنت أظن أن بنات الريف يرقصن، فلترقص لأرى. فلما صممن على الرقص قلت لهن: ادخلن في المخزن وارقصن، وأنا راقد في مكاني هذا. قالت إحداهن: طيب أعطنا حق البنات. قلت: كم ريالاً ؟ قالت: عشرون ريالا. قلت للولد الذي كان معي بالدكان وكان بيده كيس به النقود: أعطها يا عبد القادر حمودي عشرين ريالاً ، فاستلمتها ، وقالت أخرى: وحق البلانة المشَّاطة، قلت: كم ريالاً ؟ قالت: عشرة ريالات فاستلمتها. فقالت إحداهن: حق مسح القُصَّة ، قلت كم ريالاً ؟ قالت كما تشاء ، قلت: العادة، قالت: وقية أو نصف وقية ذهب ، فقلت: أعمل لها حجول وأساور وأكمام وثوب جزايرلي قيمتها أكثر من ثلاثة أواق ذهب ، قالت: متى تأتي بها ؟ قلت: صباح غد. " تاريخ حياتي ص 133
- ونختم بهده المأثرة الخالدة من مآثر المهدية، في ما يلي تراثها الفولكلوري على نحو ما دونه لنا الشيخ بابكر بدري. فقد حفظ لنا المؤلف من تراث المهدية البطولي والثقافي والقولي الخالد، قصة حقيقية بليغة ومؤثرة للغاية ، مفادها أنَّ " هَنتر باشا " قائد الجيش الإنجليزي الدي قاتله الأمير عبد الرحمن النجومي في توشكى ، أراد أن يُوغر صدر ود النجومي على الخليفة عبد الله ، وأن يزرع الفتنة بينهما ، فكان مما قاله ذلك القائد الانجليزي لود النجومي ما معناه أن الخليفة قد عزلك من قيادة جيوش المهدية ، وولى ابن عمه يونس الدكيم بدلاً عنك ، وأرسلك بجيشك في الصحراء بلا دخيرة وبلا عتاد لكي تهلك ويرتاح منك الخ ، ثم دعاه إلى أن ينحاز إليه ويُسلِّم له، وسيجد عنده ما سيسُرُّه. قال: فأمر ود النجومي كاتبه بأن يرد على دلك القائد الإنجليزي بما يلي:
" أنا بايعت المهدي وخليفته على الجهاد ، وسأستمر مجاهداً .. فإن قتلناكم نجد عندكم ما حكيته لنا في كتابك ، وإن قتلتمونا لا تجدون عندنا إلا جبة متروزة وحربة مركوزة !! ". (8)

إحالات مرجعية:
(1) عون الشريف قاسم ، قاموس اللهجة العامية في السودان ، المكتب المصري الحديث ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، 1985م ، ص 401.
(2) انظر هذه المادة في لغة التكاكي ، تأليف: أحمد المعتصم الشيخ.
(3) محمد بهجت قبيسي ، " العربيات في الأكادية وحتى العدنانية " ، مقال منشور ب " حولية المجمع " ، مجلة مجمع اللغة العربية بطرابلس ، ليبيا ، العدد الثاني ، المجلد الثاني ، 2004م ، ص 117.
(4) عون الشريف ، مرجع مر ذكره من قبل ، ص226.
(5) المرجع السابق ، ص567.
(6) بابكر بدري ، تاريخ حياتي ، الدار السودانية للكتب ، الخرطوم ، 2015م ، ص 53.
(7) المصدر أعلاه ، ص 63.
(8) ذات المصدر أعلاه ، ص 63.

 

 

آراء