في علم الاقتصاد هناك نظرية معروفة باسم النظرية الكمية للنقود مبنية علي متطابقة تقول بان: MV = PQ حيث ان M هو عرض النقود أو القاعدة النقدية. و P هو مستوي أسعار السلع والخدمات. وQ هي كمية البضائع والخدمات المتداولة, أي كم الانتاج. وV هي سرعة دوران النقود أو متوسط عدد المرات في السنة التي تنتقل فيها واحدة واحدة من العملة من يد شخص لاخر . وبذلك تشير أيضًا V إلى مقدار استخدام وحدة العملة في فترة زمنية محددة أي مدي نومها في خزنة ما مقارنة بدورانها في تبادلات الاقتصاد.
تشير المتطابقة الِي أنه إذا حدث أي تبدل في أحد المتغيرات مثل V او عرض النقود M أو كمية الناتج Q أو مستوي الاسعار P فلا مفر من ان يحدث تغيير مماثل في أحد المتغيرات الثلاث الاخري أو مجموعة منها حتى تتحقق المتطابقة. واذا ما قاد التبدل ر في أحد المتغيرات الأربعة إلى تغيير في متغير آخر من المتغيرات الأربعة سوف تعتمد النتيجة الاخيرة على التحركات النسبية لتلك المتغيرات. .
من المهم ملاحظة ان V لها علاقة قوية بثقة الشعب في العملة بمعني انه أذا كان الشعب يثق في مقدرة العملة علي المحافظة علي قيمتها فسوف يفضلها يجنح الِي الاحتفاظ بجزء معتبر من ثروته كعملة وهذا يعني ان V تكون علي مستوي منخفض نسبيا . أما أذا كان الشعب لا يثق في العملة نسبة لسوء ادارتها أو أي أسباب اخري تقود الِي التضخم وانهيار سعر الصرف , فسوف يحاول الشعب ان يتخلص من العملة وان يحفظ مدخراته في اصول اخري تحافظ علي قيمتها النسبية مثل العملات الاجنبية , والعقارات والذهب , في مثل هذا الوضع تكون V مرتفعة لان الكل يحاول التخلص من كاشه بشراء اصول اخري , ولا يحتفظ بالكاش الا في حدود احتياجاته اليومية لشراء السلع والخدمات الأساسية. وهذا ما كان عليه الحال في السودان حتى بداية عام 2018, فقد ظلت V مرتفعة جدا نتيجة لانهيار قيمة العملة المتواصل الناتج عن التضخم الذي يترتب علي طباعة العملة بصورة غير مسؤولة من قبل النظام ليمول احتياجاته.
سياسة الانقاذ لاحظ ايضا ان المتطابقة تقول انه اذا ما رفعت الحكومة القاعدة النقدية بطبع النقود , من غير ان يرتفع الانتاج أو تتغير V فلا بد ان ترتفع الاسعار كما تفرض المعادلة. الحكومة في السنين السابقة قامت بـطبع تريليونات الجنيهات لتمويل صرفها الفاسد وغير المنتج. وبما ان كمية الناتج المحلي Q ظلت في ركود او لم ترتفع بنفس المستوي , وظلت V علي مستوياتها العالية فكان لا بد ان ترتفع الاسعار حتى تتحقق المتطابقة كأمر حتمي. ثم بدأت تظهر الاثار الكاملة لطباعة العملة المفرط في شكل ارتفاع فلكي في الاسعار وانهيار مريع في قيمة الجنيه تجاه الدولار والعملات الاجنبية .
ولكن انتبهت الحكومة الِي التداعيات السياسية ومخاطر انفلات تضخم الاسعار وانهيار العملة ليس علي مصير الوطن والمواطن وانما علي بقاء النظام نفسه. وهنا واجه النظام معضلة حوجته لطبع النقود لتمويل نفسه والاثار التضخمية الخطرة المترتبة عليها فماذا كان رد فعله؟ كأنما نظر النظام الِي المتطابقة أعلاه ( MV = PQ ) واسر الِي نفسه أنا احتاج لطبع النقود بـزيادة M, ولكنني لا استطيع زيادة الانتاج Q بنفس المعدل , وانا ايضا لا اريد ان يتزايد ارتفاع الاسعار P, فماذا أنا بفاعل امام سطوة المتطابقة ؟ وهنا ادرك النظام انه لم يتبقي له مخرج من المتطابقة الملزمة غير خفض V حتى تعادل وتمتص جزء من الزيادة في M وبذلك تقلل من ارتفاع الاسعار P .
وهذا السرد ببساطة يعني ان الحكومة تزيد في حجم الكتلة النقدية بطباعة M لتمول نفسها ثم تسعي الِي احتواء حدة التضخم وانهيار سعر الصرف الناتج عن طريق الغاء الأثر التضخمي الناتج عن ارتفاع M عن طريق تقليل V بمنع المواطن من التصرف في امواله المودعة في البنوك وبذلك تقلل من قيمة V بصورة مباشرة بالاضافة الِي خفضها ايضا عن طريق قناة اخري نتيجة لاضطرار الشعب للاحتفاظ بكميات كبيرة من الكاش في منازلهم ومخازنهم الخاصة لتمويل مشترواتهم اليومية وحفظ مدخراتهم خارج البنوك بعيدا عن لصوصية الحكومة الاخطبوطية.
وقد نجح هذا الحل الشيطاني في السماح للحكومة بتمويل نفسها عن طريق طبع النقود M من غير ان تدفع الثمن الكامل في شكل ارتفاع موازي في الاسعار P كما تستدعي المتطابقة أعلاه حكما. ولكن بما انه في الاقتصاد لا توجد وجبة مجانية فقد كان هناك ثمنا اخرا اتت فاتورته علي ثلاث دفعات : 1) رغم ارتفاع M, وارتفاع P الذي ظل اقل من المستوي المتوقع في ظرف عادي , الا ان انخفاض V الناتج عن شح السيولة كان من الضخامة بحيث انه كان لابد من يلازمه انخفاض في الانتاج Q لتحقق المتطابقة الذي لا مفر منه. وتراجع الانتاج يعني زيادة حدة الازمة المعيشية وافرازاتها السياسية والاجتماعية. 2) ادي شح السيولة الِي تصاعد الغضب الجماهيري اذ ضاق المواطن زرعا من الوقوف في الصفوف لساعات طويلة للحصول علي فتات من حر ماله المعتقل بأمر الحكومة. ومما لا شك فيه ان شح السيولة كانت اثاره النفسية تختلف نوعيا عن اثار ندرة السلع الاخري التي يتم بلعها نفسيا كجزء من ازمة سياسية اقتصادية عامة. اما منع المواطن من التصرف في حر ماله فيتم استيعابه من قبل المواطن كاهانة شخصية واحتقار فهذا الشعب يري ان سلب جحافل الكيزان لماله بغير وجه حق هو نوع من ( الحقارة) الشخصية التي لا يتقبلها شعب عرف بالشجاعة وعزة النفس. 3) لكن أكبر تكلفة لإدارة الاقتصاد عن طريق الخداع الاخواني هو أن النظام النقدي السوداني قد انكسر وانهار بالكامل كما سوف نوضح ادناه.
كيف انكسر النظام النقدي السوداني بالرجوع الِي المتطابقة أعلاه ( MV = PQ ) يبدو أن V في المدي القريب سوف تواصل تراجعها السريع ، لأن الناس فقدوا الثقة في نظام الحكم وفي النظام المصرفي الشيء الذي يدفعهم لحفظ أموالهم بعيدا عن البنوك ومراكمة حيازاتهم من الكاش للوفاء بـاحتياجاتهم الانية والمستقبلية بتخزين اكبر قدر من الكاش. وهذا يعني السبيل الوحيد لضبط المتطابقة اللازم هو ان يتحرك متغير آخر (P أو M أو Q) بنسبة مساوية . لكن الاسعار P في حالة ارتفاع متواصل ولا يمكن لها ان تهبط لأسباب عديدة لن نتطرق لها هنا . ولكن هذا الارتفاع في الاسعار يفاقم من اختلال المتطابقة ( MV= PQ) وهذا يعني ان علي M ان يواصل الارتفاع عن طريق طبع النقود ليتناسب مع الانخفاض في V أو انه علي الانتاج Q ان يهبط بشدة, أو أن يحدث كلاهما معًاحتى تتحقق المتطابقة - في هذه الحالة يرتفع M وينخفض Q ومجموع حركتهما تمتص التغير في V. ولكن سقوط Q يعني ازدياد حدة الفقر والبطالة وانخفاض المداخيل وتلاشي القيمة الحقيقية للإيرادات الضريبية. وهكذا فان هبوط Q هو خيار اكثر كارثية, لذلك فان الحل الوحيد بالنسبة للنظام هو ان يواصل في طبع النقود M للحد من تواصل انحدار Q بالاضافة الِي ان الطبع يوفر للنظام موارد مالية يمكنه استخدامها لتمويل منصرفاته. وهذا هو الاتجاه الذي اعلنت الحكومة عن تبنيها له اذ انها اشارت بالامس الِي اكتمال طباعة فئات جديدة واعلي من العملة سيتم طرحها في الأسواق قريبا من فئة الـ 100 وال 200 والـ 500 جنيه .
ولكن المشكل هنا هو ان هذا المخرج بطباعة النقود الذي يبدو انه مريحا غير قابل للاستدامة ومليء بالتناقضات الشيطانية الكافية لتدميره من الداخل, وذلك لان طباعة النقود المفرطة تضعف قيمتها عن طريق ارتفاع الاسعار الذي رغم انه مؤجل إلا انه لا بد ان ينفجر في لحظة ما حتى لو تم تعطيله انيا عن طريق تقزيم V بصورة الحظر المصرفي الشاذة التي لا مثيل لها في تاريخ النقد في كل تاريخ الانسانية عدا العصر الاغبر للبشير واخوان الترابي . وهكذا فانه كل ما زاد النظام من طبع النقود, زاد ادراك المواطن بأنه يحفظ ماله في شكل اوراق نقد لا قيمة لها وان الانفجار الحتمي لقنابل التضخم الموقوتة سوف يقضي علي ما تبقي من القدرة الشرائية للعملة التي يحتفظ بها .
وهكذا فان الحل الوحيد المتاح للنظام بطبع النقود M هو في الحقيقة عبارة عن ضخ سرطان بنكرياس اضافي صامت , مكتوم في شراييين الاقتصاد فوق مئات التيرليونات التي طبعها النظام الكليبتوقراطي سابقا. فهنا تكمن المفارقة القاتلة: للتغلب على أزمة السيولة في ظل انخفاض V، يتعين على النظام طباعة النقد بكميات مهولة . وكلما طبع أكثر ، كلما زاد ادراك الناس ان العملة السودانية في جيوبهم وخزنهم صارت ورق توليت ولا تساوي الحبر الذي طبعت به. فماذا يفعل المواطن ؟ انه يحتاج للحفاظ علي كاش لشراء ما يحتاجه وحفظ مدخراته , ولكن الكاش الذي يحتفظ به تتاكل قيمته بصورة تتسارع كل يوم كما انه لن يستطيع كل الشعب تحويل امواله الِي دولارات وعقارات ومعادن نفيسة رغم ادراك الجميع ان التضخم الانفجاري الذي سببه النظام غير قابل للاحتواء في الظروف الحالية. وهذا يعني ان العملة التي يحتفظ بها المواطن تحولت الِي فارا ميتا لا يود ان يحتفظ به كما لا يستطيع ان يتخلص منه. باختصار ان حل مشكلة السيولة ثمنه تضخما عظيما في الراهن وتضخم اعظم في مستقبل قريب يترتب عليه ان تتلاشي القيمة الحقيقية للمرتبات ومدخرات المواطنين بصورة ميكروسكوبية. ومثل هذا الحل يدخل في باب علاج المريض بقتله.
كل هذا يعني ان الجنيه السوداني قد مات تحت كلكل الاخوان وان النظام النقدي السوداني بعملته قد انكسر بصورة نهائية لا يستطيع هذا النظام جبرها مهما حاول ومهما وعد صلاح غوش و تعهد مدير البنك المركزي وغرد معتز موسي وصرخ عمر البشير. وفي غياب عملة فعالة ونظام مصرفي يستحيل وجود اقتصاد حديث وبدون عملة واقتصاد سالك لن تصمد حكومة , واذا ما صمدت بقوة البارود فسوف تموت حين ينهار هيكل الدولة علي رأسها. وهكذا فانه رغم نبؤات بلة الغايب ببقاء البشير حتى عام 2031 إلا ان النظرية الكمية للنقود تقول ان هذا النظام قد انتهي تماما وكل ما تبقي من كابوسه الطويل هو تفاصيل النهاية وطول رفسات الموت وحشرجات خروج روحه الخبيثة الِي الدرك الأسفل من الجحيم لتحترق مع مح الشيطان.