معارج ومسارات حياة العم محمد نور أدريس

 


 

 

بقلم: عبد الاله حسن محمد
جلس محمد نور مسترخياً على كنبة الجلد الوثيرة ذات المقعد المرتفع لدعم الجزء العلوي من الجسم، ممدداً قدميه أمامه على مسند ملحق بالكرسي يخرج ويسحب بالضغط على زر جانبي. يجلس مرتدياً بنطلوناً وقميصاً وجوارب، كأنه ذاهب إلى العمل أو إلى زيارة خاصة. يفعل ذلك يومياً منذ أن يستيقظ من النوم في الصباح الباكر إلى أن يحين موعد النوم في المساء. أحفاده تارةً يلعبون بالقرب منه وتارةً يشاركونه الكنبة الوثيرة وهم يلعبون ألعابهم الالكترونية، يداعبهم ويلعب معهم من حين إلى آخر ويروي لهم قصصاً وحكايات من الماضي. مثله مثل أي جد يقضي أوقات ممتعة وسعيدة مع أحفاده مستمداً منهم طاقه إيجابية ليوم جديد. منذ أن قدمت إلى ميامي أزوره شبه يومياً لأستمع إلى مغامراته التي تشبه مغامرات السندباد البحري. رغم أنه بلغ منتصف العقد الثامن من العمر إلا أنه مازال يتمتع بذاكرة حديدية يحتفظ بذكرياته القديمة بكامل تفاصيلها وشخوصها وأماكنها....يحكي تفاصيل حياته ويسردها كما هي:
إسمي محمد نور أدريس، أبصرت النور في يومٍ ما من أيام أواخر ثلاثينيات القرن الماضي في قرية سالي علي ضفاف نهر النيل الخالد، وهي من قرى محلية القولد في الولاية الشمالية، نشأت في سالي ألهو وألعب مع أقراني وسط النخيل والسواقي، نسبح في النيل ونساعد أهلنا في الزراعة. شهدت السواقي التي تسحب الماء من النيل لري الزرع وجلست في كرسي صغير اسمه تّكُم منسوج بالألسّ (ليف النخيل) خلف الثور ممسكاً بعصى لحثه علي السير. أكملت المرحلة الأولية في أوربي والتحقت بالقولد الأميرية الوسطي وهي في ذلك الزمان من أشهر المدارس الوسطى في السودان، كانت دفعتي من أبناء سالي دكتور عبد الرحمن طمبل، وعبد الخلاق علي خندقاوي وأنور سيد نصيري وآخرون. أكملت عامين بمدرسة القولد الاميرية ثم رفضت المدرسة واشتغلت تربال (مزارع) لمدة سنة في البلد، في دواخلي كنت كمعظم اقراني في القرية أحلم بالسفر إلى رحاب أوسع ومدن بعيدة أحقق فيها أحلامي الوردية. في ذلك الوقت كانت الغالبية العظمي من أبناء المنطقة عموماً يشدون رحالهم صوب المحروسة مصر. فقررت الانضمام إلى تلك القافلة والمسيرة بالسفر إلى مصر حيث شقيقي الأكبر محمود يقيم ويعمل في مدينة السويس منذ عدة سنوات. كان ذلك تقريباً في اوائل العام 1956 حيث كنت أبلغ من العمر حوالي ستة عشر عاماً تقريباً، صبي يحمل معه آمالاً وأحلاماً فسيحة للخلاص من حياة القرية التي شكلت واقعه المحدود. السفر إلى مصر آنذاك إما التوجه شمالاً عن طريق اللواري السفرية من السليم إلى وادي حلفا عبر طريق شديد الوعورة يستغرق حوالي ثلاثة أيام، ثم عن طريق البواخر النيلية من حلفا إلى أسوان وتكملة الرحلة بالقطار والباصات إلى أنحاء مصر المختلفة. المسار الثاني هو التوجه جنوبا بالبواخر النيلية التي كانت تعمل بين كرمة في الشمال وكريمة في الجنوب ثم لاحقاً بين دنقلا العرضي وكريمة (حالياً توقف هذا المسار)، ونواصل الرحلة بالقطار من كريمة إلى أبوحمد ، وقطار آخر من أبوحمد إلى وادي حلفا، ثم نواصل الرحلة كما في المسار الأول. في ذلك الوقت للسفر إلى مصر لم نكن نحتاج إلى جواز أو وثيقة سفر أو أي أوراق ثبوتية، ولم يكن معي حتى شهادة ميلاد أو تسنين. كل ما في الامر أن نأخذ تصريحاً بالمرور من حلفا.
انطلقت رحلتي من محطة الخندق بالباخرة وكان ذلك أول مرة أترك فيها قريتي في رحلة إلى عالم المجهول. كنت في رفقة الطاهر علي فلاح أحد أبناء سالي الذين يعملون في مصر ويكبرني سناً. بعد رحلة طويلة شاقة استغرقت حوالي أسبوع وصلنا القاهرة بالقطار. أستقبلنا في محطة القطر حسن علي دول وكان يعمل في بنك باركليز في القاهرة. نزلت في ضيافة علي مارا في وسط القاهرة خلف ميدان التحرير في شارع عدلي بك في عمارة كوداك. بدأت لي القاهرة بأضوائها اللامعة ومبانيها الشاهقة وشوارعها المسفلتة والمزدانة بشتى أنواع الزهور، أول مدينة ساحرة تقع عليها عيناي، كمدينة أسطورية من عالم السحر والخيال. مكثت بها ربما يوماً أو يومين وغادرتها دون التجوال في رحابها إلى السويس حيث كان هناك شقيقي محمود وأسرته ووالدي ادريس محمد نور الذي جاء لإحضار عروسة محمود وبقي معهم للعلاج والراحة، وعمي عثمان محمد نور ومجموعة من أهلنا السلاوية حيث كانوا يعملون في السويس في البواخر البحرية ومعسكرات الجيش الانجليزي. كان شقيقي محمود يعمل في باخرة شحن انجليزية أسمها أمبر شب (Amber ship) وتمتلكها شركة إنجليزية أسمها Warmoth (ورموس). كان محمود من قدامى العاملين في الشركة وأسم وظيفته Chief Steward وهو الذي يشرف علي العمال ويقوم بتدريبهم علي العمل. تمتلك الشركة عدة سفن للشحن. مكثت في ضيافة شقيقي محمود لفترة قصيرة ثم سكنت مع بعض أبناء سالي من العزابة كان من ضمنهم عمر علي عجيب وأحمد الفيل حيث كانوا يدرسون في مدارس السويس (عمر علي عجيب صار فيما بعد مديراً للضرائب في السودان)، جلست فترة وأنا لم أقرر هل أواصل الدراسة أم أتعلم صنعة. كان عمي عثمان يعمل طباخاً لدى مدير شركة ورموس وكثيراً ما كان يحثني علي العمل لمساعدة أهلي.
تحدث عمي مع مدير الشركة بشأني فوافق المدير علي تعيني وبدأت العمل في الباخرة التي يعمل بها شقيقي محمود في منتصف العام 1956. لم تكن الباخرة من البواخر الكبيرة وكان طاقم العاملين فيها يبلغ حوالي 26 عاملاً. ويقسم أفراد الطاقم إلى طاقم السطح وطاقم الآلات وطاقم الخدمة العامة. أغلب العاملين من الجنسيات المصرية والسودانية والسورية والفلسطينية والليبية. العمل في الباخرة يتطلب أوراق ثبوتية. لأول مرة في حياتي تحصلت على بطاقة تعريفية (ID) من القنصلية السودانية في القاهرة. كانت هذه البطاقة تستعمل أيضاً كجواز سفر وفيها حدد تاريخ ميلادي ب 22 مارس 1936. كانت الباخرة تقوم بشحن ونقل البضائع بين الموانئ المختلفة في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كان خط سير الرحلة الأولى لي في الباخرة يبدأ من الزيتية في السويس لنعبر القناة وندخل بورسعيد وهو أول مدخل في البحر الأبيض المتوسط ونذهب إلى قبرص ومنها إلى طبرق و بنغازي في ليبيا. بينما نحن في عرض البحر تم إخطارنا من بعض العاملين الأقدم منا بأن الباخرة تحمل معدات حربية لمساعدة العدوان علي مصر وقرروا الدخول في أضراب عام من العمل. في يوم 17 سبتمبر 1956 نفذنا الأضراب ولجأنا إلى السفارة المصرية في بنغازي. كان السبب الرئيسي للإضراب هو استخدام الباخرة في نقل المعدات الحربية بين قبرص والموانئ الليبية استعداداً للهجوم على مصر بسبب اعلانها في 21 يوليو 1956 تأميم قناة السويس، حيث شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 29 أكتوبر 1956 ما عرفت باسم العدوان الثلاثي. قامت السفارة المصرية بترحيلنا إلى القاهرة بالطائرة وتمت استضافتنا في فندق كبير وسط القاهرة ربما فندق كليوباترا من فنادق الدرجة الأولى وقد أشادوا بما فعلناه كعمل ثوري وطني كشف خطة العدو وأخطرونا بان الرئيس جمال عبد الناصر سوف يلتقي بنا. جلسنا عدة أيام في انتظاره ولم نلتقيه. تم استدعاؤنا إلى وزارة الداخلية وأجتمع بنا مسؤول كبير أشاد بموقفنا الوطني وصرف لنا حوافز مالية. منحوني راتب شهر تقريباً وللعاملين الاقدم مني تم منحهم أكثر من راتب شهر. أيضا عرضوا علينا التعيين في السفن المصرية، رفض معظم كبار العاملين عرض التعيين في البواخر المصرية، ومنهم شقيقي محمود نسبة لتدني الأجور في البواخر المصرية مقارنة بالأجور في البواخر الإنجليزية. سافر بعد ذلك محمود إلى السودان ومن هنالك سافر إلى السعودية ولم يعد إلى مصر مرة أخرى. نحن اثنان فقط من المستجدين قبلنا العمل في البواخر المصرية، أنا ومعي صديقي وأبن قريتي الزبير دندرية.
سافرنا أنا والزبير إلى الإسكندرية لكي نلتحق بإحدى الشركتين وهي شركة مصر للملاحة وشركة عبود باشا للملاحة. تمت استضافتنا لعدة أيام في فندق علي حساب الشركتين. التقينا بالمسؤولين في الشركة المصرية للملاحة الذين قاموا بنقلنا من الفندق للإقامة في باخرتين تمتلكها الشركة هما مصر والسودان. هذه البواخر تستعمل لنقل الحجاج في موسم الحج وبعد موسم الحج تستعمل كفنادق للعاملين في الشركة إلى حين وصول البواخر التي يعملون بها وكذلك المستجدين إلى أن يجدوا لهم فرصة عمل في إحدى البواخر. في هذه الفترة كانت مرتباتنا تدفع لنا بانتظام بالإضافة إلى السكن والطعام المجاني. بعد فترة تم تعيني في باخرة شحن تسمى الإسماعيلية وصديقي الزبير التحق بباخرة أسمها بورسعيد. هذه أول مرة نفترق فيها منذ فترة طويلة حيث اصبحنا خلالها أصدقاء أوفياء. ذرفنا دموع الحزن وافترقنا. كانت أول رحلة لي في الباخرة الإسماعيلية إلى اللاذقية سوريا وكانت من البواخر القديمة ولم تبحر بعد ذلك. في موسم الحج باشرت العمل في الباخرة مصر التي تقوم بنقل الحجاج بين السويس وجدة. بعد الانتهاء من موسم الحج عملت في باخرة أخري للشحن أسمها نجمة إسكندرية لمدة عامين تقريباً، زرنا خلالها غالبية موانئ أوروبا وآسيا ومنطقة البحر الأسود والبحر الأحمر. بعد كل رحلة كنا نعود مرة أخرى إلى الإسكندرية لنبدأ رحلة جديدة. كانت بواخر الشحن في تلك الأيام تحمل بعض المسافرين إلى الموانئ التي تكون في مسارنا البحري. أذكر مرة في الباخرة نجمة إسكندرية سافر معنا الموسيقار المصري المعروف محمد عبد الوهاب وكان ذاهباً إلى الجزائر، ومن المعروف عنه أنه كان يخشى ركوب الطائرات، وبحكم عملي مع ربان الباخرة والمهندسين كنت التقيه يومياً أثناء الرحلة. كانت بواخر الشحن ترسو في الموانئ لبضعة أسابيع لأن شحن وتفريغ البضائع كان يتم بطريقة سلحفائية. تغيرت طرق الشحن عبر العقود وبعد اكتشاف الحاويات أختصر زمن تفريغ وشحن البواخر لبضعة ساعات أو يوم في أسوء الأحوال، وبالتالي قللت للشركات من تكلفة الرسو في الموانئ مما ساعد في تخفيض تكاليف نقل البضائع.
العمل كبحار عمل شاق وكثيراً ما نكون في عزلة من العالم في عرض البحار والمحيطات لعدة أسابيع لا نشاهد خلالها غير المياه الداكنة او الزرقاء والسماء الصافية والقاتمة أحياناً وبعض الطيور التي نفرح لرؤيتها لأنها تشير إلى قرب اليابسة أو جزيرة في المحيط. كنا نواجه الأمواج العاتية والرياح الكاسحة التي تتأرجح بالسفينة يمنةً ويسرةً كأنها قطعة خشبية، حيث يتسرب الرعب واليأس إلى قلوبنا. في بعض الأحيان كنا نقضي ساعات معلقين على السور أو على أي شيء مثبت بمسامير حتى لا ننزلق عبر سطح السفينة إلى الحاجز وقد حدث ذلك مع صديقي الزبير دندرية ولحسن حظه نجا بأعجوبة بالغة. كان بحر المانش بين البرتقال و دوفر في إنجلترا من أشد البحار عنفاً، حيث غرقت باخرتين مملوكتين للشركة المصرية ولم ينج أيٍ من العاملين من الموت غرقاً بينهم أثنين من السودانيين أحدهم من جزيرة مقاصر والثاني من منطقة المحس. بعض الرحلات تستغرق شهرين أو ثلاثة أشهر لم نكن خلالها نسمع بأخبار أهلنا ولم يكن هنالك تلفزيون أو اتصالات سريعة كما هي الآن. كنا نعتمد على الراديو ونتلاعب بموجاته القصيرة لالتقاط بث بعيد للاستماع إلى المزيد من محطات البث الاذاعي المحلية القريبة منا. في نوفمبر عام 1958 سمعنا بأنقلاب عبود ونحن في عرض المحيط الهندي حيث انطلقنا من عدن إلى مومباي في الهند. فرح العاملون المصريون بالانقلاب واحتفلوا بتناول الشامبانيا والجعة حيث أن حكومة حزب الامة برئاسة عبد الله خليل لم تكن على وفاق مع الحكومة المصرية بسبب مشروع السد العالي، بينما تأسفنا نحن على وأد الديمقراطية الوليدة. كان طعامنا في البحر معظمه من المجمدات مثل اللحوم والأسماك والأجبان والبيض. في مراكب الشحن يكون هنالك طباخ واحد يقوم بالطبخ لربان السفينة والموظفين والعاملين. أيضاً هنالك صالة للطعام منفصلة للربان والعاملين، ويختلف أنواع الطعام المقدم لكل منهما. كنا كثيراً ما نقوم بشراء طعام خاص بنا من الموانئ مثل بعض أنواع الأجبان والحلويات. كنت في بداية عملي أشارك شخصاً او شخصين في الغرفة لكن بعد أن ارتقيت في سلم العمل صار لي غرفة خاصة. كنا نتاجر بين الموانئ ونعرف الأشياء المرغوبة في كل ميناء وأين نجدها بأسعار زهيدة، فمثلاً كنا نقوم بشراء السجائر من عدن بأسعار منخفضة ونبيعها في بورتسودان ومومباي بأسعار مرتفعة، في روسيا جوارب النساء كانت مرغوبة ، وفي مصر الأحذية الرياضية والموتر سيكلات الإيطالية حيث نحضرها في شكل قطع غيار ونقوم بتجميعها في الإسكندرية. كان الكثير من الراغبين في الشراء ينتظرون مجيئنا بفارغ الصبر. يفعل ذلك كل العاملين في الباخرة من ربان السفينة إلى أصغر عامل حيث يشكل لهم مصدر دخل أضافي.
ومن وسائل الترفيه عن أنفسنا من الملل والضجر في الموانئ نذهب إلى المطاعم والحانات التي تكون في انتظارنا لأننا كنا نلهو ونصرف بسخاء وهكذا حياة البحارة حيث تنشأ بينهم وبين تلك الموانئ نوافذ تواصل واتصال وعشق سرمدي. يوجد في السفينة ايضاً طاقم طبي مكون من طبيب وممرض، أذا توفي أحد العاملين ترسو الباخرة في أقرب ميناء حتى لو لم تكن في جدول الرحلة ويأتي ممثل من سفارة أو قنصلية بلد المتوفي ويستلم الجثمان ويقوم بأرساله إلى وطنه أو مواراه الثرى. ويؤثر موت أحد الزملاء بدرجة كبيرة على نفسية أفراد الطاقم الذي يتألف من عدد محدود. أيضاً توجد مكتبة صغيرة في الباخرة، رغم ذلك أجمل اوقاتنا هي تلك التي نقضيها على سطح الباخرة في ليلة صافية وخالية من القمر والنجوم الساطعة تملأ الآفاق بظلالها الخافتة فنستلقي على الأسرة نستنشق هواء البحر العليل المعطر. وفي الليالي القمرية نقضي أوقات سعيدة في لعب الورق والنرد ونتناول النبيذ والجعة ويرفع البعض منا عقيرتهم بالغناء في مكان لا مالك ولا صاحب له. أحياناً يدور بيننا بعض الشجار ونتصالح بعد وقت قصير إلا أذا كان الحدث كبيراً فيرفع تقرير إلى قبطان الباخرة. في بعض المرات تكون محظوظًا بما يكفي بمشاهدة غروب الشمس الجميل، أو "الومضات الخضراء" أو رؤية الحيتان أو الدلافين وحتى ينابيع المياه، وهناك أيام من العدم حيث لا توجد سفن أخرى لتتبعها وإجراء محادثة معها، ولا يتغير المشهد أبدًا سماء قاتمة، وبحار سوداء.
في العام 1963 قامت الشركة المصرية للملاحة بشراء أثنين من السفن السياحية واطلقت عليهما أسم الجزائر وسوريا. بعد سبع سنوات من العمل المتواصل في بواخر الشحن ترقيت إلى وظيفة كبار العاملين في الشركة وقامت الشركة بنقلي إلى العمل في السفينة السياحية سوريا. كانت السفينتان تقومان برحلات أسبوعية في البحر الأبيض المتوسط، كانت محطة الانطلاق للسفينة سوريا تبدء من الإسكندرية ثم تذهب إلى بيروت وبعدها تذهب إلي بيريوس في اليونان وتختمها بالمحطة المفضلة للسياح فينيسيا (البندقية) في إيطاليا ثم تعود إلى الإسكندرية لبدء رحلة جديدة على نفس المسار. كنا نقضي سبعة أيام في كل رحلة. على عكس بواخر الشحن من أجمل مكتسبات العمل على متن السفن السياحية هو اللقاء في كل رحلة بسياح من جميع أنحاء العالم والتعرف على ثقافات وعادات مختلفة وتكوين صداقات جديدة، ألتقيت بكثير من مشاهير مصر من الفنانين والممثلين منهم الممثلة فاتن حمامة وأبنها طارق حيث سافروا معنا عدة مرات إلى فينيسيا لمقابلة زوجها عمر الشريف الذي كان محظوراً من دخول مصر. في بيروت وجهت لنا دعوة من الطلبة السودانيين الذين يدرسون في الجامعة الامريكية لحضور سهرة غنائية مع الفنان محمد وردي. كان وردي في ذلك الوقت في بداية مشواره الفني، ذهبت مع نفر من البحارة السودانيين والتقينا بالطلاب السودانيين الذين يدرسون في الجامعات المختلفة في لبنان وبعض من أفراد الجالية السودانية، غنى الفنان محمد وردي بالعود حيث لم يكن بصحبته فرقة موسيقية. كانت أول مرة نستمع إلى أغنية الطير المهاجر وربما كان قبل تسجيلها في الإذاعة وعرفنا أن شاعرها هو صلاح أحمد إبراهيم الذي درس في الجامعة الامريكية يوماً ما. كانت تلك المرة الأولى التي التقيت فيها بالفنان محمد وردي. أيضاً التقيت في السفينة بصحفي مصري مشهور أسمه مفيد فوزي يعمل في مجلة صباح الخير وكان دائماً يتحدث معي احاديث عابرة ثم قام بنشرها في مجلة صباح الخير.
في شهر مايو من العام 1964 خصصت الباخرة سوريا لمهمة كنا نجهل تفاصيلها. طلب منا البقاء في الباخرة وأن لا نغادرها الى أن تصدر لنا أوامر جديدة. قامت المباحث المصرية بالبحث في ملفات العاملين في الباخرة من أجل تلك المهمة التي يكتنفها الغموض وتم منح بعض العاملين إجازات مؤقتة. لم يكن من ضمنهم أي من العاملين السودانيين. صدرت الأوامر للباخرة بالأبحار إلى مرفأ في البحر الأحمر قريب من حلايب وعند وصولها رست قريباً من الساحل. ثم علمنا أن الباخرة خصصت لعدة أيام لإقامة الرئيس جمال عبد الناصر وضيوفه من رؤساء الدول الذين جاءوا لحضور الاحتفالات بإنجاز إحدى مراحل العمل في مشروع السد العالي على نهر النيل ولم يكن في ذلك الزمان في أسوان فنادق مهيأة لاستقبال الرؤساء وكبار الزوار. كان من ضمن النزلاء الرئيس جمال عبد الناصر ومعظم طاقم الحكومة المصرية أذكر منهم المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع والنائب الأول لرئيس الجمهورية وأنور السادات رئيس مجلس النواب آنذاك. كان من رؤساء الدول الأخرى البارزين الذين حضروا الاحتفال الرئيس نيكيتا خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي، الممول والمنفذ الرئيسي للمشروع، بعد رفض البنك الدولي بضغط من الدول الغربية تمويله في العام 1956 وهو ما أدى إلى اعلان مصر تأميم قناة السويس، وقد وصل الرئيس خروتشوف إلى الإسكندرية على ظهر باخرة سوفيتية تسمى أرمينيا في زيارة ممتدة من يوم 9 إلى 25 مايو 1964. قامت صحيفة الأهرام المصرية بتغطية الرحلة بالكامل على صفحتها الاولى منذ بداية الرحلة في عرض البحر. أيضاً من ضمن الحضور الرئيس جوزيف تيتو رئيس يوغسلافيا، والرئيس العراقي عبد السلام عارف والرئيس الجزائري هواري بومدين وآخرون. كان ممثل السودان هو الاميرلاي المقبول الأمين الحاج سكرتير مجلس قيادة الثورة في حكومة نوفمبر برئاسة الرئيس عبود. بعد يوم الاحتفال أخذتهم قوارب خاصة في رحلة صيد لبعض أسماك البحر الأحمر النادرة. بما أنني كنت أصبحت من قدامى العاملين كنت اشرف علي الجناح الخاص بربان السفينة والمهندسين وكبار السياح في الباخرة، لذلك عملت في الجناح الذي يقيم فيه الرئيس جمال عبد الناصر وبقية رؤساء الدول. كنا نقوم بتوصيل طلبات عبد الناصر إلى أمام غرفته ويستلمها منا عامل نوبي مصري أسمه إيهاب، وهو الوحيد المسموح له بدخول غرفة عبد الناصر، لكنني كنت ألتقيه يومياً طوال فترة أقامته وأتبادل معه التحية والسلام، أيضاً كذلك ألتقيت بقية الرؤساء وكانوا يتبادلون معنا التحية وسلمت على خروتشوف وتيتو وبقية الرؤساء العرب.
واصلت عملي في الباخرة سوريا حتى عام 1966 حيث أخذت أجازتي السنوية وذهبت إلى السودان لأول مرة منذ أن غادرتها في العام 1955. سافرنا أنا وصديقي إسماعيل محمد خير وهو من أبناء التيتي باللواري السفرية من حلفا إلى دنقلا وكان سائق اللوري أسمه عباس بيبسي، مشهور في مناطق السكوت والمحس وكلما نزل أحد الركاب في قرية من قرى السكوت والمحس يأتي إلينا أهلها بالعصائر وخاصة الآبري الابيض (مشروب قريب من الحلو مر) فرحاً بعودة أبنهم من السفر. من دنقلا أخذنا عربة أخرى للذهاب إلى قرانا. نزلت مع إسماعيل في قريته ولم تستطع والدته مع الضوء الخافت التعرف على من منا هو أبنها من كثرة الغبار الذي كان يغطي أجسادنا. في اليوم التالي واصلت الرحلة إلى سالي وقضيت فيها ثلاثة أشهر، في يوم 7 فبراير 1966 أكملت نصف ديني بالزواج من زوجتي فاطمة عبد القادر – رحمها الله.
في العام 1968 بينما كنت أعمل في الباخرة سوريا ألتقيت بأسرة أمريكية غيرت مسار حياتي ومستقبل أيامي. كانت الاسرة تتكون من الام وأسمها ماجدولين وينادونها بمسز أركيل Arkellوهي أمريكية من أصول ألمانية، ومعها بنتين الكبيرة أسمها روزلي (Rosalie) والابنة الصغرى أسمها أنجلا (Angela)، وكلبين أحدهما فرنش بوني (French Bony) وأسمه صني (Sunny) والثاني كلب صغير أسمه كروكيت (Crochet) وعربة فورد زرقاء ((Station Wagon تم شحنها من ميامي إلى البرتقال ومن البرتقال وصلوا بها إلى فينيسيا. كعادة الأسر الامريكية الأرستقراطية في ذلك الوقت كانت البنات يدرسن في أوروبا حيث كانت روزلي تدرس في أحدى الجامعات السويسرية وأنجلا في إحدى الجامعات الفرنسية. لم يكن معهم في تلك الرحلة رب الأسرة مستر وليم آركيل الذي لم يكن من عشاق الأسفار. بدأت الأسرة الرحلة من البندقية إلى الإسكندرية وكانوا يقيمون في جناح خاص بالقرب من ربان السفينة، بحكم عملي مع الربان كنت مشرف علي خدمة الأسرة ومسؤول من راحتهم، قمت بتعريف مسز آركيل بأحد الطباخين فسمح لها بطبخ طعام خاص للكلاب في المطبخ. كنت أتحدث معهم يومياً وأعمل على راحتهم في حدود ما هو مطلوب منا لخدمة الركاب. كانت الأسرة تتناول وجباتها مع قبطان السفينة ويتسامرون معهم في جلسات طويلة. في الإسكندرية غادروا السفينة وسافروا بعربتهم إلى أسوان لمدة أسبوعين. قمت بمساعدتهم لشراء بعض احتياجاتهم للرحلة وودعتهم على أمل اللقاء بهم قريباً. عند عودتهم من أسوان سافروا معنا إلى فينيسيا في نفس الجناح، وحينها اقترحت مسز آركيل في ونسه عابرة أن أسجل لهم زيارة في أمريكا لأن البنات والكلاب تعلقوا بي. وافقت على اقتراحها وكنت أظنها غير جادة حيث الكثير من السياح الذين نلتقيهم في السفينة كانوا يقترحون علينا مثل اقتراحها. أعطيتهم عنوان قريبي خضر عباس في الإسكندرية الذي كان يعمل مع خطوط الطيران الاسكندنافية المعروفة باسم شركة ساس. ودعتهم في فينيسيا حيث سافروا بعربتهم للتجوال في أروبا، ولم أسمع منهم بعد ذلك لعدة شهور. بعد بضعة أشهر ذهبت إلى خضر عباس في شارع الحرية فأعطاني البريد، ووجدت خطاب من مسز آركيل ومعه دعوة زيارة رسمية بواسطة أحد المحامين مدتها ثلاثة أشهر وتذاكر سفر ذهاب وإياب في الدرجة الأولى مفتوحة لمدة عام على الخطوط الجوية الامريكية بآن آم (Pan Am) وشيكات سياحية بقيمة مئتي دولار. حاول أقربائي خضر ويوسف عباس أن يثنياني من فكرة السفر إلى أمريكا لأنني كنت حديث عهد بالزواج ومن سبقني من أهلنا إلى أمريكا قد انفصلوا من أزواجهم، وكذلك حاول أهلي في السودان خاصة الوالد والوالدة واخواني أثنائي من السفر إلى أمريكا.
من الباخرة تحدثت مع مسز آركيل باللاسلكي وأخطرتها بانني استلمت الخطاب وشكرتها علي الدعوة وحسن كرمها، أيضاً أوضحت لها بانني سأفكر في الأمر بصورة جدية وأخطرها. فعلاً كنت مازلت متردداً من المجهول والسفر إلى بلاد بعيدة لا علم لي بطلاسمها، وافقت مسز آركيل علي رأيي. جلست حوالي ثلاثة أشهر أفكر في الأمر من كل الجوانب، أثناء ذلك كان كابتن الباخرة المصري محمد أنيس وزملائي العمال يشجعونني ويحثونني باستمرار على السفر إلى أمريكا ووعدني الكابتن محمد أنيس بإجازة مفتوحة لمدة عام كامل من العمل. كانت مسز آركيل تتصل بالكابتن محمد أنيس وبي عن طريق اللاسلكي للإستفسار لمعرفة قراري، أخيراً بعد حوالي ثلاثة أشهر من التفكير العميق والتردد قررت البدء في إجراءات السفر، ذهبت مع يوسف عباس (صار فيما بعد قنصل السودان في مصر) إلى القنصلية الأمريكية في الإسكندرية، وكان القنصل الأمريكي يعرف يوسف عباس بحكم نشاطه الاجتماعي في الإسكندرية، أعطاني أحد موظفي القنصلية بعض الأوراق فمضيت عليها وبعد لحظات ختموا لي في جواز سفري السوداني تأشيرة زيارة وذلك في يوم 25 فبراير 1969، كانت التأشيرة سارية المفعول حتى يوم 25 أغسطس 1969. أخطرت الكابتن محمد أنيس بأنني تحصلت على الفيزا السياحية لأمريكا الذي بدوره أخطر مسز آركيل بكل التفاصيل وأيضاً بانني لم أقرر موعد سفري بعد. لم يتوقف أهلي علي امتداد تلك الفترة من محاولة إثنائي من السفر إلى أمريكا، أخيراً اتخذت قراري بالسفر واقتحام المجهول. قام الكابتن محمد أنيس باستخراج خطاب من الشركة بمنحي إجازة لمدة عام أستطيع خلالها العودة إلى عملي في الباخرة في أي وقت أرغب فيه. طلبت أيضا من خضر عباس القيام بعمل إجراءات السفر فحجز لي على الخطوط الامريكية بآن آم (Pan Am) فغادرت من مطار القاهرة في نهار يوم 18 مارس 1969، كانت الرحلة طويلة، استغرقت حوالي ثلاثة أيام حيث قضينا ليلة في روما في الفندق ومنها مباشرة إلى بورتوريكو حيث عملت جميع الإجراءات الرسمية لدخول أمريكا في مطار بورتوريكو، ومن بورتوريكو إلى مطار ميامي حيث وصلت مساء يوم 22 مارس 1969.
استقبلني في مطار ميامي مستر آركيل ومعه اثنين من كلابه غير الذين شاهدتهم في الباخرة، كانت تلك أول مرة التقي فيها مستر آركيل وكانت مسز آركيل مع بناتها في أروبا. لم أكن أتقن اللغة الإنجليزية بصورة جيدة ورغم ذلك استطعنا أنا ومستر آركيل التواصل، أحسست من أول وهلةٍ أنه رجل سهل التعامل معه وعلى درجة عالية من التواضع، جذوره تعود إلى ولاية نيويورك وينتمي إلى عائلة ثرية لها صلة أسرية بعائلة كندي المشهورة، جاء إلى فلوريدا لدراسة الحقوق في جامعة ميامي وطاب له المقام فاستقر بها. وبرغم تأهله الأكاديمي لم يعمل مستر آركيل طوال حياته بل كان يقضي جل وقته في العمل التطوعي مع الكنيسة. وكان أيضاً يحب القوارب وكانت تلك هواية مشتركة بيننا. من المطار أخذني إلى منزلهم في جنوب ميامي في حي كورال غيبلز (Coral Gables) أحد أرقى أحياء ميامي ويقع المنزل على شارع الجامعة على بعد خطوات من جامعة ميامي. بعد استضافتي أخذني مستر آركيل إلى جناح خاص منفصل عن المنزل الرئيسي به كل سبل الراحة. منذ ذلك اليوم صار هذا الجناح هو مسكني الخاص بالمنزل. عندما صحيت الصباح انبهرت بالمنزل والحي والقناة التي تجري خلف المنازل واليخوت الراسية على جانبيه. كانت أسرة آركيل تمتلك إحدى هذه القوارب وكنا نخرج به في رحلات ترفيهية في نهاية الأسبوع أو العطلات الرسمية ونزور الجزر التي في تخوم ميامي. بقيت مع مستر آركيل والعاملين في المنزل حوالي الشهر، أخرج معه يومياً حيث زرنا المعالم البارزة في ميامي والمطاعم الفاخرة وكنت أذهب معه في المساء إلى النوادي الاجتماعية مثل نادي اليخت ونادي كورال غيبلز وأوشن ريف كلوب وهو في حي راقي صار من سكانه فيما بعد جيهان السادات. بعد وصول مسز آركيل من أروبا واصلنا في نفس البرامج. عملت مسز آركيل لفترة كأستاذة جامعية في جامعة إليزابيث في نيوجرسي، تعود جذورها لأسرة المانية من الطبقة المتوسطة من ولاية نيوجرسي. كنا نقوم بجولات يومية في المناطق السياحية والنوادي الاجتماعية ورحلات بحرية باليخت. بدأت دراسة اللغة الإنجليزية في جامعة ميامي التي كانت على بعد خطوات من المنزل، وكانت دراسة اللغة الإنجليزية مجاناً في ذلك الزمان. لم أكن مسؤولاً عن أي شيء ولم يطلب مني القيام بأي عمل في تلك الفترة. رغم ذلك كنت أستلم شيكاً شهرياً من المسؤول المالي للأسرة. في تلك الفترة كنت أتحدث إلى أهلنا الذين سبقوني إلى أمريكا منهم مبارك عبد الدائم في نيويورك وصديق عبد الرحيم المعروف بصديقنا صديق في القولد (بخت الرضا) في واشنطن وطه ماجد في سان فرانسيسكو وأخبروني بأنني أذا غادرت أمريكا ربما لا استطيع العودة اليها مرة أخرى. قمت بتجديد الزيارة ثلاثة مرات كل مرة لمدة ثلاثة أشهر وذلك بواسطة أحد أشهر المحامين في ميامي والذي صار سفيراً في بنما فيما بعد في عهد كارتر. كنت في تلك الفترة في صراع داخلي هل أترك العمل الذي عشقته وارتبطت به ارتباطا وثيقاً وعشقت البحار والمحيطات والموانئ المختلفة حول العالم، لا يعرف ذلك الحنين والارتباط إلا عشاق البحر الذين قد قضوا جل شبابهم يبحرون كل يوم في عبابه. أخيراً تغلبت على عواطفي وهواجسي وقررت الاستقرار في أمريكا، وقدمت لأوراق الهجرة الرسمية بواسطة المحامي واستلمت القرين كارد في منتصف العام 1970.
استمرت أسرة آركيل تدفع لي مصروفات شهرية حوالي 200 دولار من دون أن تطلب مني القيام بأي عمل. بعد استلامي القرين كارد قاموا بعمل عقد عمل معي علي أساس أن وظيفتي هي مدير منزل العائلة حيث كنت أشرف على العاملين وأصرف لهم رواتبهم وأعمل على حل المشاكل التي تواجههم. كان هنالك عدد اثنين أو ثلاثة عمال يعملون بصورة دائمة والبقية مثل الذي يصون اليخت والذي يقوم بتنظيف حوض السباحة يأتون في أيام محددة فقط. لم تقم أسرة آركيل بفصل إي عامل يعمل معهم أو يتأخروا يوماً أو يمتنعوا عن دفع رواتبهم طوال فترة حياتهم. حتى أنا منذ أول شهر من وصولي إلى أمريكا أصبحوا يدفعون راتبي بدون أي انقطاع حتى عند سفري إلى السودان في إجازات مفتوحة. وصاروا يدفعون لي بصورة رسمية الضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة وغيرها وزيادات رسمية كل عام. بالإضافة إلى كل ذلك كانوا يمنحوني إكراميات في المناسبات مثل الكريسماس وأعياد المسلمين وعند سفري إلى السودان. أيضاً كانت هنالك ثلاثة عربات تحت تصرفي مدفوعة الثمن والتامين بالكامل. كانوا أذا قاموا بشراء ملابس لأنفسهم يقومون بالشراء لي من نفس المحل. كنت أيضاً أذهب معهم للأندية الاجتماعية الفاخرة في ميامي وأتناول ما أريد من الطعام والمشروبات. كانت بنات الأسرة كما ذكرت يدرسن في الجامعات الأوربية ويأتين إلى أمريكا في إجازاتهن وبعد أن أكملن الدراسة عدن إلى أمريكا في نهاية العام 1970. كثيراً ما كنا نخرج مع بعضنا وصحبة أصحابهن ونذهب إلى الأندية الليلية والحفلات والمطاعم والشاطئ وغيرها من أماكن الترفيه. أقام البنات معنا في المنزل إلى أن تزوجن. حيث تزوجت أنجلا من أمريكي وبعد الزواج رحلوا إلى بوسطن حيث كان زوجها يقوم بالتحضير في جامعة بوسطن وأنجلا التحقت بمهنة التدريس في مدرسة ابتدائية. زرتهم في بوسطن عدة مرات وفي مرة من المرات التقينا بالطلبة السودانيين في جامعة هارفارد، كان هنالك حوالي أثنا عشر طالب سوداني ألتقيناهم جميعاً. أيضاً تزوجت روزلي من أمريكي كان يدرس معها في أروبا اسمه أندرو سيمون. واصل أندرو بعد عودته دراسة الحقوق في جامعة ميامي وسكنوا معنا فترة بعد الزواج قبل أن يقوموا بشراء منزلهم. وبعد تخرج أندرو من كلية الحقوق أرتحلوا إلى نيويورك حيث ألتحق أندرو بمكتب محاماة مشهور. أما روزلي لم تعمل بعد تخرجها من الجامعة وتفرغت لتربية أبنائها الثلاثة .
كان جميع افراد العائلة رغم كثرة العاملين في المنزل يقومون بخدمة أنفسهم وكثيراً ما كانوا يطبخون، وكنت أيضا أطبخ معهم، وأعددت لهم وجبات سودانية ومصرية وهندية نالت أحسانهم. كانوا طوال حياتهم يعاملونني معاملة أبنهم. تلك المعاملة الممتازة التي وجدتها من الأسرة يسرت لي الاستقرار والاندماج في المجتمع الأمريكي، لم أعاني من التفرقة العنصرية وتعرفت على جيرانهم الأمريكان وجميعهم من الشريحة الأرستقراطية التي لعبت دوراً محورياً في الحياة الامريكية العامة. كلما ألتقيهم أتبادل معهم التحايا وأطراف الحديث ويستفسرون عن السودان وأحوالها.
زارني كثير من السودانيين في هذا المنزل وبعضاً منهم أقاموا معي لسنوات. كانت أسرة آركيل ترحب بهم وتستقبلهم بكل بشاشة وسعة صدر. كان من بين الطلبة السودانيين في جامعة ميامي في السبعينات فيصل محمد أدريس ، حسن البيلي، عبد المنعم النذير وزوجته أيمان أبنة فوزية عثمان صالح. أقام معي صلاح النذير شقيق عبد المنعم النذير في هذا المنزل لمدة أربعة أعوام. ثم سكن معي لفترة طالب كويتي يدرس في جامعة ميامي أسمه محمد وهو من أسرة الشيوخ في الكويت وتزوج من أبنة وزير الشؤون الخارجية صباح الأحمد الجابر الصباح ورحل مني بعد وصولها إلى ميامي. بعد عودتهم إلى الكويت كنت علي تواصل معهم، لكني لم أسمع منهم بعد غزو العراق للكويت في العام 1990. عند عودتهم إلى الكويت تركوا معي بعض حقائبهم قبل فترة قصيرة قمت بفتحها فوجدت بها ملابس كويتية فقط. كذلك قضى معي الفنان محمد وردي ليلة وكانت تلك أول مرة ألتقيه منذ أن ألتقيته في بيروت، زارني مع صديقه جوشوا Joshua من جنوب السودان الذي هاجر إلى أمريكا قبل وصولي أليها وكان يعمل في سوق العقارات. وهنالك جنوبي آخر مسلم أسمه محمد يعمل بالتدريس في جامعة فلوريدا العالمية وصل أمريكا في بداية السبعينات. أيضاً زارني مرة لاعب السلة منوت بول وعندما عرفته بمسز آركيل قامت برسم اشارة الصليب من اليمين إلى اليسار في صدرها اندهاشاً من طوله.
كانت أسرة آركيل تحثني كثيراً لإحضار زوجتي فاطمة من السودان لكني كنت متردداً. اولاً لعدم وجود أسر سودانية مستقرة في ميامي ثانياً كنت أرغب في تربية أطفالي في بيئتي التي نشأت فيها إلى بلوغهم سن الرشد. أيضاً كانت هنالك بعض التجارب المعقدة لبعض السودانيين الذين سبقوني إلى أمريكا مع أبنائهم الذين ولدوا ونشأوا فيها لم تكن مشجعة لي. توفى والدي في العام 1972، فقررت السفر إلى السودان لأول مرة منذ وصولي أمريكا. وصلت السودان وسافرت إلى البلد وكان ذلك أول مرة منذ زواجي في العام 1966. بعد قضاء فترة العزاء جاءت معي زوجتي فاطمة إلى الإسكندرية، حملت أثناء تلك الزيارة. تركتها مع أهلي في الإسكندرية حتى تضع الجنين وعدت إلى أمريكا. بعد فترة قصير وقبل الولادة بشهور قليلة قررت الرجوع إلى السودان بسبب وفاة أختها. وضعت في السودان توأم، توفيا بعد الولادة بفترة قصيرة. بعد قضاء فترة العزاء مع أهلها سافرنا إلى بيروت في رحلة سياحية ثم قررت أن أخذها في زيارة إلى أمريكا. وصلت زوجتي إلى أمريكا في نهاية العام 1974. وتحصلت على أوراق الإقامة الرسمية في بداية العام 1975. حملت مرة أخرى ونصحها الأطباء بإجهاض الحمل نسبة لخطورته على صحتها. رفضت الإجهاض وقررت العودة إلى السودان ووضعت طفلتنا الاولي والوحيدة في الخرطوم ولم تكن هنالك أي مخاطر عليها أو على طفلها. بعدها سافرت إلى الشمالية واستقرت هناك وكنت أزورهم سنوياً في السودان أو الاسكندرية. بعد ذلك أنجبنا طفلين نشأوا في سالي حتي بلغ أصغرهم ١٦عاماً، أحضرتهم إلى الإسكندرية في عام 1998.
توفي مستر آركيل في العام 1993 بعد حياة عامرة بالعطاء. حزنت عليه حزناً عميقاً لما قدمه لي وأذكره كلما أمر من أماكن زرتها معه. بقينا أنا ومسز آركيل والعاملين في المنزل وكانت مسز آركيل تطلب مني باستمرار أحضار أسرتي لأنها تريد أن تراهم قبل رحيلها. شرعت في استخراج الجوازات الامريكية لأبنائي مكاوي وناجي والقرين كارد لزوجتي فاطمه وأبنتي مسكه لأن زوجتي أنتهت صلاحية القرين كارد الذي صدر لها في العام 1975 والأبنة مسكة مولودة قبل حصولي على الجنسية الأمريكية. وصلوا إلى أمريكا في شهر مايو من العام 2000. توفيت مسز آركيل في شهر أبريل من العام 2001 بعد أن حققت لها رغبتها في رؤية أبنائي قبل وفاتها. حزنت عليها كما حزنت علي وفاة زوجها وهي قدمت لي الكثير الذي أعجز عن وصفه وشكرها. كانت مسز آركيل قد أوصت بأن أعيش مع أسرتي في ذلك المنزل الذي يعتبر قصر في أرقى أحياء ميامي طالما كنت أنا على قيد الحياة. أيضاً أوصت بالاستمرار في دفع راتبي بالكامل طوال حياتي رغم أنني نزلت المعاش. في العام 2006 قرر أبنائي شراء منزل خاص بنا وقمنا بشراء منزلنا الحالي في جنوب ميامي في حي Pinecrest التي تعتبر أيضاً من أرقى أحياء ميامي. وآلت ملكية منزلهم في كوريل غيبلز إلى أبنتهم الوحيدة روزلي بعد أن توفيت أبنتهم أنجلا قبل وفاة والديها.
بعد وصولهم إلى ميامي واصل أبنائي دراسة اللغة الإنجليزية في جامعة ميامي ثم دراساتهم الجامعية وتوفقوا في حياتهم العملية والأسرية حالياً نقيم جميعاً في منزل العائلة في جنوب ميامي، هذا ما كنت أسعى أليه. هذا المنزل العامر بالمحبة والترحاب أقام فيه معنا الكثير من الأسر السودانية التي زارت ميامي أو جاءت إلى أمريكا عن طريق اللوتري. وهو منزل رحب أرحب فيه بكل أهلنا ومعارفنا من السودانيين في جميع الأوقات.
الآن وقد بلغت منتصف العقد الثامن من العمر وأنا استرجع شريط ذكرياتي أجد نفسي في شعور من الرضا التام والسعادة بلقاء تلك الأسرة الغريبة القادمة من جزء من العالم مختلف تماماً عن عالمي ويعيشون حياة مختلفة عن حياتي وصاروا أهلي وأحبابي. أنها صدفة فريدة من نوعها تؤدي إلى تعميق وعيك بما يحيطك بك وكذلك ما بداخلك، وقصصهم تغير حياتك إلى الأبد لأنها تمنحك رؤية للعالم لم تكن موجودة من قبل بالنسبة لك. أما البحر فهو عشقي السرمدي، أحلم به أحياناً، بعض أجمل لحظات حياتي كانت على متن السفن في عرضه....وبعض من أكثرها رعباً. أنا سعيد لأنني عشت جزء من حياتي كبحار. فقد منحتني وجهة نظر في الحياة وتقدير للأشياء يعتبرها معظم الناس أمراً مفروغاً منه، مثل العودة إلى المنزل وقضاء وقت مع العائلة كل ليلة او الخروج لتناول الطعام. من حسن طالعي أعيش بجوار البحر وأزوره باستمرار وأقوم برحلات سياحية كل عام لأجدد ذكرياتي وأعيد نشاطي لبدء دورة جديدة من الحياة. فالماء يوفر لي فرصة لأطلاق طاقتي وتطهيرها والتوجه للمرحلة التالية من الحياة. أنها بداية جديدة أجدها طرية طازجة في عرض المحيط .

a_bdulelah@hotmail.com

 

آراء