مع بعض كتاب شأننا العام

 


 

 

أكتب هنا عن بعض الكتاب. فيهم المفكر العميق واسع الثقافة. فيهم الصحفي. فيهم نفر ممن عف قلمهم، فهم عن رثيث القول معرضون. ثم هم في خصومتهم لا يفجرون. كذلك، فيهم من يحتد ولا يتحرج، يمضي، فلا ينثني، خصومةً وصداما عنيدا لا يلين. أتناولهم ها هنا لأنه لابد من الحوار ولابد من القول فيمن يقول في الشأن العام. ولم تزل خارطة الشأن العام عندنا تتصف بالجور والتمترس خلف الأيدولوجيا والتيارات الفكرية بدلا عن خلق شبكة علاقات تسمو فتأثر، تجمل وتفصل النسب والأبعاد، ما يزيد من قدرتنا على الرؤية الصحيحة. حتى تاريخه، لا ريب أنك ترى أن منتوجنا المكتوب لا يرقى مطلقا للقدرات والإمكانات. ولا ريب أنك تشهد أن آفاقنا ضيقة لا تسع منا حوارا أو تثاقفا أو حججا فتلاقي فقربى، أو على الأقل، حق تقدير وحق احترام. نعم، أتناول هنا قلة ممن أكاد أتابع جهدهم ورفدهم راصدا للاتجاهات السياسية الفكرية العامة، للإشارات الحزبية التنظيمية المؤطرة. إنهم، في مجموعهم، فروع صغيرة تجهد أن تكون روافد للنهر الكبير. والآن، هؤلاء، الذين أتناولهم، وللأسف بالكثير من الاقتضاب، هم ليسوا من الصحفيين المتفرغين للعمل التحريري اليومي، ليسوا جبهة واحدة؛ إنما هم شعبة رائدة رافدة تدافعت ألسنة حضورها لتلتوي تارةً ثم تستقيم طوراً في صفحة سمائنا المعفرة دوما، منهم هداة في أدلاء في هذا العاثور، في هذه المهلكة من الأرضين. لكل واحد منهم منطلقه، لكل واحد منها مزاج. أجد نفسي أتحدث عنهم حديث المعجب بجهدهم وانتظامهم في رفد الشأن العام في أيام حالكات جافات تدفع النفس للاكتئاب من بعد أن تمتص من القلم حبره. لا أكتب عنهم كتاب الناقد، أكتب كتاب المحتفي. لكم يسعدني أنهم أصحاء وأنهم يكتبون: بابكر فيصل، كمال الجزولي، عبد الوهاب الأفندي، حيدر إبراهيم، بابكر عيسى، الشفيع خضر، الوليد مادبو، أحمد أبو شوك، مرتضى الغالي، التجاني عبد القادر، أيوب صديق، عبد الله الفكي البشير، صدقي كبلو، ياسر عرمان، سيف الدولة حمدنا الله. يجمعني بهم هم واحد فهم معي تحت سقف هموم الوطن. وإني لأرجو فيما أرجو أن أكون قد وفيت لهم بعض حق؛ فهم السراج الذي يتعين علينا أن نحوطه بأكفنا حماية فوقاية له من ريح اليأس وهبوب السموم. إنَّ ساحتنا السياسية لمأزومة لكن نرجو ألا تنتهي بنا إلى مثقفين مأزومين. وألا تنتهي بنا النهاية إلى أن نفوز بسهم أخيب.

ولي أن أبدأ بكمال الجزولي فمن شأن ذلك أن يضفي شيئا من حرارة على مطلع هذا المقال؛ فكمال كاتب مضطرم. وتر مشدود. والوتر المشدود شديد الحساسية. حياته السياسية والفكرية سلسلة من الوثبات، معع كثير من الثبات. ضرب من الديالكتيك. أختلف معه منطلقا ومنتهى .... لم ألتق به. لم نتهاتف مطلقا، غير أني أتابع ، على نحو يكاد أن يكون منتظما كتابته، وهي بعد متدفقة كثيرة. لكمال نظرات ثافبة وآراء دائبة حول الأوضاع الراهنة بالبلاد، حول الخيارات المتاحة لتحقيق الوحدة الوطنية. إن قلمه ليطمح أن يكون أداة فاعلة تنأى كل النأى عن تحقيق أغراض شخصية. يعجبني نشاطه، صدق فإيمانه فيما ذهب ويذهب إليه. إن المتتبع لكتباته يلحظ تنوعا، لكن في ذات الوقت، ثمة خيط أو سلسلسلة فقرية تربط ما يكتب. وهو بعدُ نموذج للمثقف الذي يدفع الأزمات عنه دفعا، وتلك لعمري أزمات أحالت الكثير من المثقفين السودانيين إلى خانة اللافعل، إلى الانزواء ثم الانطواء. كمال كاتب صاحب إرادة. يقول في إحدى مقالاته "النشاط الذهني إذن عامة والثقافة خاصة، هو حقل النشاط الأكثر تمييزا لعمل "المثقفين" عموما، و"المثقفين العضويين" خاصة، رغم أن هذا "التميُّز" لا يجعل منهم "طبقة" اجتماعية، بل "فئة" تتوزع انتماءاتها كـ"شرائح"، بين مختلف الطبقات، حسب التأثيرات الحاسمة للفكر الاجتماعي على تحديد خياراتها وتحيزاته". وكمال شاعر جيد أصدر عددا من الدوواين واشتهرت قصيدته طبلان ... واحدى وعشرون طلقة ل 19 يوليو. كمال من مواليد المدينة القريبة للقلب: أمدرمان؛ حصل على درجة الماجستير في القانون منذ السبعينيات من القرن الذي مضى، ولا يخفى أنه سياسي يساري، قانوني ومحامي مرموق.

كاتب آخر، من ضفة، أخرى أجد نفسي من الواقفين عنده إنه عبد الوهاب الأفندي. فهو كذلك كاتب مكثر جاد لا يتأخر عن الادلاء برأيه الذي، قد لا يلائمني في الغالب الأعم، غير أنه في كل الأحوال يكتب بجهد ورصانة فاحترام لقارئه. كتب الكثير من المقالات. لكم وقفت معه في مقاله الذي سبق اتفاق الخامس من ديسمبر 2022م عندما نبه وردد مع المخلصين أن السودان مهدد اليوم بحروب أهلية وتفكك وضياع. قد قال يومها قولا كالصيحة " فليستيقظ القوم من هذه الغيبوبة". معروف أنه قد كتب العديد من الكتب لعل من أهمها Who Needs An Islamic State الذي صدرت منه طبعتان بالإنجليزية ... كاد، أو بالفعل أن يكفره محجوبو البصيرة منزوعو التمدن بسبب نشره لهذا الكتاب. رغم نقد الأفندي لفكرة الدولة الإسلامية إلا أنه ينادي بما ينعته بدولة المسلمين. وإنها لمناداة، فيما أرى، تطلق من الظلال والإبهام أكثر من أن تنير أو تصير طرحا جديدا. غير أني اتفق معه تماما في أنه ليس ثمة ما يمكن أن يسمى بنظرية أسلمة المعرفة، فلا مراء أنه لا توجد معرفة إسلامية خفية لا يصل إليها إلا المؤمنون. التقيته أول مرة مع الطيب صالح في دار عمدتنا في لندن، الراحل لعظيم محمد الحسن أحمد. وقتها كان قدم استقالته من منصبه كملحق إعلامي في السفارة السودانية في خلافه مع الخرطوم. أصدر يومئذ كتابه الثورة والاصلاح السياسي في السودان الذي أورد فيه ما أسماه بالسوبر تنظيم داخل التنظيم في الحركة الإسلامية السودانية. كان نقدا صارخا ركز فيه على كيفية أن التنظيم كان يقول إن فلانا معنا وقد أبلى بلاء حسنا فلا بد له من المكافأة بهذا المنصب أو ذاك. من قبل أن التقيه، كنت قد سمعت عنه كثيرا من الحسن أحمد. حكى أنه جاء ليعمل معه في جريدة الأضواء أثناء دراسته لكي يساعد نفسه وأسرته فأرسله محمد الحسن أحمد في مهمة لمدينة عطبرة لتغطية ندوة مهمة. لكن الأفندي لم يحسن التعامل مع جهاز التسجيل، ذلك أنه عند رجوعه فوجىء الجميع بأن الشريط كان فارغا! غضب الأستاذ محمد الحسن أحمد لكن الأفندي أكد له أن ملم تمام الالمام بكل ما قد قيل ولن يزيد أو ينقص منه شيئا. وفعل. فقد جلس إلى المكتب، يخط، متذكرا التغطية كاملة! أظنه عمل أيضا في مجال كبتنة طائرات الرش في بعض عمله لتحسين عيشه. شأني مع كمال الجزولي أختلف كثيرا الاختلاف مع الأفندي لكني أتابع كل ما يكتب. إنه ليدأب على إيجاد صيغة من شأنها التوفيق بين الإسلام والحداثة. وإنا لموقنون أن الإسلام سينداح ليبقى في مدلوله الحضاري وبعده المدني.
ثم الآن حيدر إبراهيم، ذلكم المهموم بالحرية، بالتنوير. لعله، هو ومنصور خالد أكبر عدويين للشفاهة والمشافهة التي اتسم بها المثقفون والمتعلمون السودانيون . تأسيسه لمركز الدراسات السودانية يؤكد مقولة إمرسون "رجل واحد يساوي أغلبية". حيدر ذو عقلية ذات وجهة ناقدة تصرف جهدها أشد ما تصرفه لرصد ومتابعة كل ما يتعلق بالتطور الاجتماعي السياسي في السودان مع إضاءة متخصصة على الحركة الإسلامية السودانية وشأنها مع الديمقراطية والدكتاتورية. نعم، تراه قد صرف الكثير من جهده لنقد الإسلام السياسي مركزا على تجربة الإسلاميين السودانيين. غير أنه في أمانته، رغم مرجعيته الماركسية، لا يتردد في نقده لليسار السوداني. حسبك قوله "يواجه اليسار في السودان أزمة شاملة تهدد دوره في الحياة السياسية السودانية رغم أننا عولنا كثيرا على دوره في ميلاد ديمقراطية مستدامة، ديمقراطية سياسية واجتماعية. وهي أزمة متعددة الأوجه: فكرية وتنظيمية، ويرجع ذلك إلى ظروف النشأة والتطور" . التقيته في مطلع الشباب أيام جامعة الخرطوم؛ زرته مع الأخ الفاضل عادل الطيب الوسيلة في دارهم العامرة في الحلفاية، ثم لم نلتق بعدها مطلقا. أول ما يحذبك، فيه وإليه، اللسان العذب والابتسامة التي لا تغيب. شخصية صادقة كل الصدق في قولها وفي مسلكها؛ وهو من بعد راهب في محراب العلم. يدرك تماما ضرورة الإيمان بأن الفعل إنْ هو إلا ابن للمعرفة، للثقافة... حيدر ضليع في علم الاجتماع؛ لا ريب أنه رائد من رواده في السودان. مهموم بقضايا الديمقراطية والوعي السياسي. من أهم مؤلفاته لاهوت التحرير: الدين والثورة في العالم الثالث وكتاب التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية. حصل على درجاته العلمية من جامعة القاهرة وجامعة فرانكفورت.
كاتب آخر شديد الأصالة فيما يحبره من مقالات سيارة، إنه بابكر فيصل. واثق، سياسي مثقف ينظر إلى المستقبل ويتطلع إليه. يتحلى بروح المواجهة مع التفاؤل اللازم للدفاع عن المستقبل. منذ أيام الطلب، تحدى خط الخوف من السلطة فظل في موقف المعارضة التي كادت أن تكون دائمة ، لا ينقضي دأبه كمدافع عن الحرية، عن القضايا العامة. تكاد تجزم جزما إنه لمندمج ومنخرط في المشاكل التي تتربص بنا. فيه من سمت الاتحاديين الأوائل ثقافتهم، زهدهم وترفعهم وأصالتهم، وطنيتهم وإيمانهم العتيد بالديمقراطية، بالثقافة بالفكر. لك أن تنازعه فيما شئت، كيف شئت، لكن هيهات لك أن تنازعه في اتحاديته. أقول إن بابكر فيصل يثير الإعجاب بحيويته وطاقته، فهو رغم أنه كاتب غير مقل بل مكثر، مع ذلك تراه يضطلع بمهام حزبية قيادية. غير أنه سياسي مختلف، على الأقل بالنسبة لي، فهو الوحيد الذي لا يسعى سعي السياسيين وراء المناصب. رفض مرتين عرضين يلهث وراءهما الكثيرون. اعتذر عن منصب عضو مجلس السيادة وعن منصب وزير الخارجية الذي ذهب بعد رفضه للسيدة مريم الصادق. ما يجعلني أتابع كتاباته هو احترامه لقلمه، لقارئه. ثم إنه يجهد في أن يجمع بين الفكر والتحليل والصحافة. صديقنا الراحل العظيم منصور خالد كان يشير لبعض مقالاته. لا ريب أن بابكر فيصل واحدا من أولائك الذين يعبرون بجدية فائقة عن تطلعات وفكر الطبقة السياسية والنخبة الثقافية في السودان. إنه لمن من يردمون الهوة التي احتفرها غياب الطرح العميق الجاد القادح للتفاعل والحوار. وإني لأراه يمضي قدما متحديا كل الصعاب والعوائق التي تعترتض طريقه، أو تقف في وجهه. جرب السجون وظل منافحا لنظام يونيو 89 يجادلهم بمنطق هادئ، يرد حجتهم فيما يسعى إليه من تأييد دولي للاتفاق الإطاري مذكرا ب "التدخل الخارجي في الشأن السوداني في ظل حكم الإخوان بصورة واضحة من خلال صدور 63 قرارا من مجلس الأمن الدولي حول السودان معظمها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البلاد وقد خلق من الأمم المتحدة شريكا شرعيا في الشأن السوداني. ونتيجة لذلك فقد قبل نظام الإخوان بدخول بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور تحت البند السابع الذي يسمح لها باستخدام القوة العسكرية في أداء مهمتها، كان قوامها 26.000 فرد حيث استمر وجودها في البلاد منذ عام 2007م وحتى عام 2021م، كما سمح النظام بدخول قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في منطقة أبيى الحدودية مع جنوب السودان، وهي بعثة قوامها 5000 فرد وتم إرسالها في عام 2011م". فيصل خريج الجامعات السودانية والأمريكية.
عبد الله الفكي البشير، من ألد أعداء الكسل الفكري. رصين لطيف ودود في سلام مع نفسه ومع من يجالس. لا رنة تعصب، لا تزمر ولا غضب. لا عجب؛ فكل هذه الصفات من غرس معلمه وأستاذه محمود محمد طه. يجهد بغية أن يخلق مناخا للتسامح، للحد من التطرف في السودان وقاطبة العالم الإسلامي. في حديث مع الصديق محمد أحمد محمود قال إن أكثر ما يحق للجمهوريين أن يفخروا به هو هذا المنتوج الغزير الذي وفره لهم عبد الله، محمد أحمد محمود كان جمهوريا في فترة من فترات حياته ثم ترك الفكرة فغيرها لما هو غيرها ،لكنه كتب كتابه المهم بالإنجليزية عن محمود وفكرته Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Muhammad Taha وقد نشرته جامعة سيراكوز الأمريكية. محمود قتل بتهمة الكفر وأحرقت كتبه في مشهد يذكر بمحاكم التفتيش، بالقرون الوسطى. شهدنا بأعيننا ما لا يصدقه العقل! عبد الله يدأب على أن يذكرنا بخطورة ثقافة التكفير والاتهام المنتهي بإزهاق النفس التي حرم الله إلا بالحق. لعبد الله جرأة في تحريك، ثم هز ما يسميه بالفضاء الإسلامي، له جرأة على منافحة بل منازلة ما يسميهم بالأوصياء على العقول. ثم إنه يطرح من القضايا مما "ظل الفقهاء يتناولونها بمداخل فقهية من دون ورع علمي، وهي قضايا فكرية تتجاوز سقوفهم المعرفية ودربتهم العلمية"؛ -فهي- تنشر الجهل وتسييل الخرافة وتبث العبث في الفضاء الإسلامي". لعلي لا أبالغ إن قلت إنه قد أفلح في حملته المخلصة في التأثير حتة على بعض الدوائر المغلقة، تكاد ترى أثر حرفه في كلمات شيخ الأزهر أحمد الطيب التي أطلقها في يناير من العام 2020م ، يومها قال فضيلته "التكفيرُ فتنةٌ ابتليت بها المجتمعات قديما وحديثا، ولا يقول به إلا متجرئ على شرع الله تعالى أو جاهل بتعاليمه، ولقد بينت نصوص الشرع أن رمي الغير بالكفر قد يرتد على قائله فيبوء بإثمه، والتكفير حكم على الضمائر يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره، فإذا قال الشخص عبارة تحتمل الكفر من تسع وتسعين وجها وتحتمل عدم التكفير من وجه واحد فلا يرمى بالكفر لشبهة الاحتمال؛ اعتدادا بقاعدة ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين" أثر عبد الله تراه لأن الحديث للأزهر الذي كان قد كفر محمود محمد طه في العام 1972م". عبد الله خريج جامعة الخرطوم.

والآن ننثني إلى صديق عزيز، أيوب صديق، من صميم أرض الشمال، أسمر الجبهة، طيب الوجه. إبن للنيل، للصحراء؛ فأبو حمد هي مسقط رأسه، منها أخذه مشور طويل لأمدرمان ثم من بعد إلى لندن التي سرعان ما تألق فيها، وبها، كوكبا تأتلق به العشيات. قابلت أيوب أول مرة في لندن، ثم امتدت بيننا الوشائج واشتدت الصلات. وهو من قبلُ ومن بعدُ، صاحب خبرة تؤهله لأن يكون من نخبة الإعلاميين الذين استضافتهم هيئة الإذاعىة البريطانية أيام بوش هاوس، أيام المعايير المنضبطة النزيهة الدقيقة العالية. من القلائل الذين يجيدون العربية وآدابها في الوسط الإعلامي الراهن. قدم الكثير من البرامج اللافتة في هيئة الإذاعة البريطانية. قال غيمون مكليلان، آخر مدير للقسم العربي عاصره فيه، في تقرير كتبه عنه " كان أيوب ذا أسلوب مميز في قراءة الأخبار جعله محبوبا لدى الكثيرين من مستمعينا في أنحاء العالم". وأيوب شاعر جيد، من القلائل الذين يحسنون الوزن وينتقون المفردة عندما يجلسون للفن والأدب غير أن في كتابة المقال السياسي غير ذلك. بدأ حياته بدراسة الهندسة المدنية في المعهد الفني. والمهندسون يشتهرون برجاحة العقل. ثم إن مهنة الإعلام شدته فعمل مراسلا لصوت أمريكا وغيرها، ثم استفاد أيما إفادة من عمله في تلفزيون وراديو أمدرمان. لأيوب خصوم، وهو خصم، وبعض تلك الخصومات كاد أن تنتهي بالجميع إلى ما منع فيها من مغالاة أو فجور.

ولعل هذا ما يقودني من هنا إلى الأستاذ مرتضى الغالي فبينه وبين أيوب أكثر مما قد صنع الحداد. مرتضى، حوله سياج يمنعه ويمنع عنه المهادنة. صحفي عتيد مؤمن بدور الصحافة إيمانا قاطعا يرى فيها الوسيلة الأكثر أهمية، ليس فقط في نشر الأخبار والمعلومات، يرى فيها قدرتها على أن تكون رافعة للقيم وأن تكون معولا لهدم معاقل الجهل والشعوذة. لا تعجب لابن الصحافة التي وصل فيها إلى أعلى المواقع التحريرية في كبرى إصدارتها أن يكون جل همه الزود عنها بحسبانها السلطة الرابعة. وهو، بعدُ، مؤمن أشد ما يكون الإيمان بضرورة إصلاح نظامنا العدلي والقضائي وقد كتب في ذلك الكثير. . ومرتضى يذهب فيما يؤمن به وفيما يقوله مذهبا قصيا يعجب البعض ويسخط آخرين. فمثلا في حدة يصف أيوب صديق بالرجل "الغائب عن الوعي وعن الضمير وعن العقل والذي لا يدري فداحة ما يقول وهو ينشر الحقارات". وكان أيوب قد وصف مرتضى بالكذب والسفاهة والهتر" فهو محضُ سوءٍ يسعى بين الناس، إهاب مهترئ يحوي نفسا خبيثة، جماع ما فيها هو كذب صراح، ولؤم محض وغدر متناه. فهو كذاب أشر". مرتضى صحفى متمرس وله مؤلف بعنوان الثورة والدولة المدنية. ثمن هما، مرتضى وأيوب كلاهما كاتب مكثر ولا يمكن إلا تقف عندهما اتفقت أم اختلفت.

رجل آخر، كاتب آخر: صدقي كبلو، وقفت معه طويلا في نظرته للتراث ... لعله قد وفق في الكثير مما قد ذهب إليه من تعددية التراث السوداني وضرورة النظر إيه من هذه الزاوية. نعم "لدينا ثراء تراثي متعدد لحضارات فيها التواصل والانقطاع، وفيها التراكم المعرفي والثقافي والانفتاح على الهجرات الداخلية والخارجية، وما خضنا من حروب مع بعضنا البعض ومع جيراننا". صدقي مهموم كذلك بقضية التعليم العام وضرورة ديمقراطيته "لا بد من أن يكون موجودا في المكان المناسب، وأن يكون مجانا، وأن تتوفر له أدوات ووسائل التعليم، أن يتوفر العدد المناسب من المعلمين والمعلمات المدربين تدريبا علميا مناسبا للقيام بمهنة التعليم في المواد والفنون والعلوم والتطبيقات التي يراد تعليمها ..." يسهم أكثر ما يسهم في دائرة تخصصه : الاقتصاد. في نظرنه للاقتصاد السوداني ينطلق من إيمان ماركسي كامل، في مقالاته المختلفة يعارض أشد المعارضة التوجهات الاقتصادية المتاحة اليوم، ولربما اختلفنا ها هنا معه، لإسعاف البلاد عبر المؤسسات الغربية المعروفة. لعمري إنا لا نرى منه كيفية توفير الموارد اللازمة لتمويل عمليات الإنتاج أصلا وهي عملية تحتاج إلى رساميل كبيرة وسنوات طويلة. تمترسه خلف نظرية واحدة لم تصمد كثيرا لم يزل يثير الجدل. غير أنه ملم بمختلف مذاهب ومدراس الاقتصاد، رفقة النمسا ثم مارشال وكینز والكینزیین الجدد متمرس في مناهج التحليل والاقتصاد القياسي، في مناهج الاقتصاد الكلاسيكي في مناهج المدرسة النقدية النیوكلاسیكیة. صدقي خريج جامعة الخرطوم وليدز البريطانية. من مؤلفاته: من يقود الراسمالية السودانية، نظرية الثورة السودانية، اقتصاديات الثورة والدولة المهدية.

ثم الآن إلى رجل وكاتب من طراز جد مختلف، عرفت يده ملمس زناد البندقية، مثلما تعرف ملمس القلم: ياسر عرمان حقا ممن يدهشونك بحيويتهم وطاقتهم وإيمانهم بما هم فيه ذاهبون. رأيته مرات قليلات حينما كان يرتاد بيت الصديق خالد محي الدين، ممضيا معه الأيام بعد الأيام، برفقتهما دوما حسن محمد الحسن (نابليون). أفكر أحيانا كيف يتسنى له تخصيص بعض وقته للكتابة من إجل إثراء ساحة رأينا العام! يركز على مفهوم السودانوية مع ضرورة التركيز على أن السودان هو ما يجمع بيننا لا الأطر الخارجية. ممجد لثورة 1924م ويكفي أن حملته الانتخابية العام 2010م انطلقت من بيت قائد حركة الللواء الأبض علي عبد اللطيف. ورغم محاولة ياسر الكتابة بموضوعية غير أنك تشعر بعض الأحايين إنه كذلك ممن يجتذبهم شعر الكلمة وسرها الإبداعي اللطيف ، ها هوذا يقول "لا ترافق الشهداء وتعود عند، منتصف الطريق، حيث لا نور إلا نورهم يشق صبح الهتافات، الحكايات البدايات، لا عشق الا عشق الشهيد، ولا هلال ولا صليب، إلا دم الشهيد، ولا هلال ولا صليب، إلا دم الشهيد". ياسر مثقف ربما بالمعنى الكامل لغرامشي ولبعض مما قد ذهب إليه صمويل هنتغتنون في رباط المثقف مع الفلاح والعامل. بدأ حياته شيوعيا صلبا ثم لم يلبث أن سار مسارا وعرا مختلفا مع حزبه، منضما للحركة الشعبية بقيادة الراحل جون غرانق. في غابات الجنوب تحول من مقاتل مجازي إلى مقاتلي فعلي، رجل يمسك على بندقيته ويضغط على الزناد مطلقا الرصاص الحي على اعدائه. وهو ليس أشوس باسل مقدام فقط في ميادين الحرب وأتون معاركها، بل في المعارك الأدهى والأمر، معارك الثقافات، معارك القيم الاجتماعية السائدة. صفق الكثيرون يوم تزوج، وهو الجعلي العربي، من امرأة جنوبية كاملة الزنوجة، رأيت وقتها ولم أزل أن ياسر يمضي مع يؤمن به حتى المنتهى. فهو رجل فائق الشجاعة. حقا رجل سيف وقلم واجتماع.

والآن إلى كاتب تقيده ثقافة القانون وأطر القانون: .سيف الدولة حمدنا الله. شخصية سودانية صادقة كل الصدق، في قولها، في مسلكها بكل ما يتعلق بالشأن العام قاضي عضو لجنة قضاة لسودان1982م له مقالات جمة تتناول الشأن العام مع تركيز على القضايا العدلية والمسائل القانونية، من أشد المنادين بضرورة تجديد مؤسستي القضاء والنائب العام، بل هو يجعل من ذلك أمرا لازما حيويا وملزما للحكومة الإنتقالية "وإذا ما تعارض تحقيق هذه الأهداف مع القناعات الفكرية لأي صاحب منصب في أي جهة ذات صلة بتنفيذ ما ورد، بما في ذلك رئيس القضاء أو النائب العام أو أي عضو بالسيادي أو الوزراء، عليه التنحي من مقعده لا أن تُنحى له هذه الأهداف". لسيف الدولة كذلك مقالات تثقيفية لرفع الوعي والثقافة القانونية لدى قارئه. يمتعك وهو يحدثك عن الفرق بين أصناف الحكم والأحكام، بين الباطل والمعدوم، هضمه لمادته يجعله سهلا في في تقديم معلومته وحجته وطرحه. وهو، من قبلُ ومن بعدُ، من أشد أنصار ثورة ديسمبر وأعتى المنافحين عنها. وقد أبدى مؤخرا ملاحظات غاية في الأهمية لرفد مسودة الدستور الانتقالي. لا شك أن مساهمة قانونيين إلى جانب الثورة وبمثل هذا العطاء يشكل كسبا عظيما.

والآن، التجاني عبد القادر، فهو لعمري، من أولائك النفر من الكتاب الذين أخذوا على أنفسهم إن كتبوا في الشأن العام أن يكتبوا بكل ما استطاعوا من مسؤولية وموضوعية. بالطبع، الموضوعية لا تعني الحياد ضربة لازب فهدف الكاتب وكتابته خلق مناخ صحي يتعافى وينضج فيه الحوار مما يوفره من تأمل وتمحيص ومراجعة فيما يلزم من أحيان. مما يحسب للتجاني محاولة فهمه وتعامله بكثير من الهدوء مع الثورة التي أطاحت بنظام كان هو، على الأقل، في فترة من الفترات، من داعميه. "مشهد الأعداد "المليونية التي خرجت في مسيرة الثلاثين من يونيو 2019م يؤكد ما بات مؤكدا: أن شعلة الثورة السودانية لم تخمد. أما إن قُدر لهذا الحراك أن يترجم الى مشروع وطني متكامل الأبعاد فسيؤذن بافتتاح صفحة جديدة في السياسة السودانية. إن كثيرا ممن تخصص في دراسة النظم السياسية يضع اعتبارا كبيرا لظاهرة "الأعداد الكبيرة" التي تخرج الى الشوارع لتعبر بقوة عن ارادتها الجماعية، بحسبانها "قوة" فاعلة في تحريك الواقع الاجتماعي-السياسي، وخلخلة قواعده وتغيير مساره. غير أن "الأعداد الكبيرة" وان نجحت في خلخلة الواقع السياسي، لا تستطيع لوحدها أن تستولد نظاما سياسيا بديلا (يتوفر فيه الاستقرار والسلام والحرية والعدالة)، وإنما تحتاج الى "أقلية خلاقة" بتعبير أرنولد توينبي". للتجاني أيضا نظرات ثاقبات في ظاهرة قادة المليشيات والجماعات المسلحة في غرب السودان وفي شرقه، فهم بحسبه يسعون لأن ينتهوا إلى زعماء وشيوخ! لعمري من شأن هذا أن يفتت البلاد تفتيتا، من بعدما، مزق النسيج الاجتماعي تمزيقا. درس التجاني بجامعة الخرطوم. من مؤلفاته: مقدمة في فلسفة السياسة، أصول الفكر السياسي في القرآن المكي.
أقف الآن عند رجل لم تجفف العقود الطوال قطرة من مداد قلمه. لخمسين عام عام أو نحولها وهو لم يزل يكتب بانتظام يأخذك! طاقة إيجابية ونظام ملزم. إنه بابكر عيسى. سوداني صميم لم ينحرف عن عن طبعه وأصالته. سمح الخلق. طيب القلب، شأن المطمئن لبياض صفحته. يطالعك فتؤخذ أشد الأخذ بإشعاع لطيف لنفس حلوة. ضحوك مؤنس كأحسن ما يكون الإيناس. يطالعك فتؤخذ أشد الأخذ باشعاع لطيف لنفس حلوة نقية. مهموم بقضايا التخلف والهوية والدولة الوطنية. يكتب لك عن الغربة فيشعرك بأسى عميق، بصنوف الاختبارات وما تلده من محن وضغوط نفسية تنحدر لحالات من الاكتئاب تقعد الكثيرين نتيجة للقهر. ما يميز مقالات عيسى انشغالها بالقضايا الماسة الملحة التي تترى. خذ حديثه عن تفشي المخدرات، انهيار التعليم وتراجع الخدمات الطبية مع تركيزه على ضرورة الانتباه لدور الدولة فيما يتعين عليه توفيره من صحة البيئة في ظل الظروف الكارثية للسودان. يحدثك حديث العارف عن أثر الأيدولوجيا على وسائل الإعلام "قبل الإنقاذ 1989م ، عبر مسيرة امتدت لما يزيد على العقدين من الزمان حركت هذه الآلة الإعلامية الجهنمية بحنكة، ودراية ومكر شديدين، فكانت قادرة على تشويه صورة الخصوم السياسيين من شخصيات وأحزاب بصورة ممنهجة في أذهان الناس، حتى إنها نجحت باقتدار في استلاب عقول الناس وقلوبهم مستخدمة الجرعات الدينية المكثفة ومستعينة بالخطباء والمتحدثين من فوق المنابر ومستخدمة الخطاب التحريضي والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وسير الصالحين"، غير أنه يستدرك مستعينا بتفاؤل فيه عتيد "إن البكاء على اللبن المسكوب لا يجدي، ولابد من وسائل للخروج من هذه الشرنقة المميتة، وأن نضطلع بدورنا في فضح كل تلك الممارسات المذمومة، أن نتصدى للفساد وأن نكشفه ونعريه، حتى يعرف الجميع من هم الذين تلوثت أيديهم بقوت الفقراء وبالمال العام الذي هو للتنمية وليس للحسابات السرية أو الصناديق السوداء، وأن ندعو السلطات إلى إجراء إصلاحات جوهرية توسع من دائرة المسؤولية وتشرك الشباب وقطاعات المجتمع في تنقية الواقع الملوث وتطهيره، وتضع ضوابط صارمة في صون المال العام، ووضع إستراتيجيات عاجلة لإخراج الناس من دائرة الفقر والحاجة والسؤال من خلال توفير الأساسيات". لبابكر عيسى متابعة راصدة مذكرة مرشدة، له رأي مع ممارسة سياسية رائدة ورفد ثقافي ناضج.

ثم الآن الشفيع خضر. ذهن متألق متحرر، روح مطمأنة راضية لا تشوبها عقدة واحدة. بين القناعة من طرف والتسامي من طرف. يصدقك القول دون أن يجرحك. لكنه، وفي طبعه، يلتزم الصدق دائما، معك ومع نفسه.يأخذ الأمور بيسر المنطق مع بعد نظر تقطعهما أحيانا شدة فيه جدية يمتزج فيها القطع بالتسامح. يهزم الإحباط ويُشرع نوافذ الأمل. عرفته في دورست هاوس؛ فهو شقيق نجاة خضر زوجة الصديق العزيز التشكيلي فتحي محمد عثمان. كان يتردد كثيرا على لندن وكنت دوما أسعد بلقائه. تلك الأيام كان بعد عضوا في الحزب الشيوعي السوداني. من أسرة بسيطة. وله الفخر أن يقال عنه نفس عصام سودت عصاما. إنه من قلائل النخبة الذين قابلت في حياتي فاستطاعوا في الدقائق الأولى أن يكسروا الحاجز ببساطة وسماحة وأن يكشفوا عن جوهرهم بغير تعمد أو ادعاء. معه، كنت أحس أنني بجوار غدير صاف لا صخب فيه ولا اغبرار. يقول بإيمان معجب "لا إرادة إلا إراة الشعوب". مؤمن إيمانا لا يتطرق إليه الشك بتفرد وقدرة الشعب السوداني، في طليعته فئة الشباب. واثق من قدرته على رفد الوعي مستندا على العقلانية والتحليل المنطقي، ليس بالناشد بل الطالب للحرية للديمقراطية. تسأله فيجتهد معملا ذهنه، غاية ما يستطيع، ما يدفعك دفعا لاحترامه لأنه يحترمك. ليس من اللازم أن تكون الإجابات صحيحة لكن من المهم أن يستمر طرح الأسئلة. ساهم بكل إخلاصه وطاقته في خدمة حزبه أيام الانمتاء. لم يقعده النأى عن الآلة الحزبية عن المشاركة والتأثير في الشأن العام. نشهد أنه قد كان من أولائك النفر القليل الذين سهروا وكابدوا بغية أن ننجح في إنجاز مهام الفترة الانتقالية. لكنها العثرات تعود. لكنها الأزمات تسود. والشفيع بيننا يعيد طرح ذات السؤال الذي لم نزل نسأله "لماذا يتشاكس العسكريون والمدنيون الذين يأتمنهم الشعب على قيادة البلاد في هذا المنعطف الحرج والخطير؟ ولماذا تتضارب مصالحهم إذا كانت هي ذات مصالح الوطن؟ ولماذا هم غير آبهين لغضبة الحليم؟ ومن هذا الذي يود رمي البلاد في لجة الاحتراب الأهلي تأسيا بسوريا وليبيا واليمن والصومال؟". ثم لكم يسرع فيطمأنك عندما يتحدث عن جدوى الضغط الشعبي، ذلكم الضغط الواعي ليس الطائش "الضغط الذي يسير على هدى بوصلة تشير فقط إلى مصلحة الوطن، وليس إلى خدمة أهداف هذا الحزب أو أجندة تلك المجموعة، وذلك لوضع الأمور في نصابها، ومن أجل أن نقف جميعا وقفة حاسمة، ننشط خلالها ذاكرتنا المتصلة ونقويها، حتى لا تترك شاردة ولا واردة إلا ونضعها في الحسبان، من أجل التركيز على أولويات مهام الفترة الانتقالية، ومن أجل وقف النزيف اليومي في البحث عن لقمة العيش والحقوق الضائعة في وطن مرهق". الشفيع درس الطب في جامعة الخرطوم لكنه آثر الطريق الوعرة بعيدا عن ما تعد به المهنة المرموقة المجزية العائد في السودان وفي غيره.

ولكم يجدر بي أن أقف الآن عند واحد من البيوريتانز: الوليد مادبو. لعمري إنه لمنهم. كان من المرشحين لجائزة سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الدولية للتميز في مكافحة الفساد. ما يحتاجه السودان هو قيادة واعية متطهرة معافاة. بينا يتدافع المستقلون على الرافعات والحاضنات فإنك لتراه ملقىً وحده في صحراء التغيير، من تحته الرمل، على صدره الصخرة، وهو ينادي أحد أحد. العسكريون، المدنيون المليشيات، كلهم له لناظرون. يسألونه النصح طوراً وطورا لجهده يطلبون. ولد لأسرة موسرة من أسر الإدارة الأهلية المعروفة. بيد أنه ظل مشغولا بالمهمشين، بالمحرومين. في دأب يكتب المقالات المتلاحقة للمساهمة في الشأن العام. يشقى، مع القلة، لترشيد وتطهير الساحة السياسية في السودان، بل يذهب إلى أبعد من ذلك مناديا بفكرة "العزل لكل من ساهم في العمل التنفيذي أو التشريعي منذ الاستقلال، وفي الفترة الأخيرة خاصة، حتى تستبين سيرته ويستطيع أن يحصل على إبراء لذمته من جهة قضائية محددة ."هل قدر السودان أن يشهد النهايات المنطقية للحكم الأيديولوجي الديني الذي يعتبر الفساد والاستبداد أحد أهم إفرازاته، أم إنها خصوصية التجربة الإسلامية السودانية وإهمالها المتعمد للثقافة السودانية؟". رجل فائق الذكاء، يكفي أنه قد درس الهندسة بجامعة الخرطوم. والمهندسون مشهورون برجاحة العقل. فوق ذلك، وفي تغيير يذكر بالمحجوب، ترك الهندسة وما تعد به من رغد في العيش ليدرس العلوم السياسية في الولايات المتحدة متخصصا في الحوكمة التي هي مدار المستقبل في بلد مثل السودان. ثم هو من قبل ومن بعد، مشغول بالقضية المحورية في كيفية التعامل مع الإرث والتراث، مع دين الأمة "لقد كان الدين حاضرا دوما في حياة السودانيين، لكنه لم يمثل اشكالا إلا عندما جاءت المجموعات الدينية – تحديدا الطائفية والجبهة الإسلامية – وحاولت توظيفه توظيفا سياسيا؛ الأمر الذي جعل الناس ينفرون ويتوجسون من مجرد ذكر أحد المسؤولين لمروية من المرويات الدينية".الوليد ليس بالدارس للدولة الحديثة، بل هو مؤمن بها أشد ما يكون الإيمان، مناديا بأن تكون الحوكمة والرشد هما أساسها. إنه مؤمن بالمفهوم الجوهري للدولة باعتبارها كيان خادم تركز بحسب جيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل على حقوق وحريات الفرد باعتبارها مقدسة، ويقتصر تدخلها على الحد الأدنى الضروري للحفاظ على النظام العام ومنع الضرر عن الآخرين. من مؤلفاته المدينة الآثمة، نفحات الدرت ودارفور المستعمرة الأخيرة.

وليس لنا أن نمضي قدما في هذه الطريق دون أن يوقفنا أحمد أبو شوك. مثقف ملتزم بقضاياه: قضايا الشأن العام. مصطلح المثقف مصطلح غربي استلفته الثقافة العربية، للتعبر عن النخب الممتازة الناشطة في عرصات السياسة والفكر والثقافة. يعبر أبوشوك بلغة ناصعة وعبارة موجزة عما نرجوه "صوغ نظام حكم جديد وحديث يتسق مع تطلعات الثورة السودانية، مستندا إلى المواطنة معيارا في تحديد الحقوق والواجبات، وإلى الديمقراطية ممارسةً في دفع المسار السياسي-الحزبي إلى الأمام، وتمكين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات من إدارة الشأن العام والتنوع الثقافي والعرقي والديني بكفاية عالية".أكثر ما يجذبني لكتابته هو التركيز على ضرورة تجاوز ثنائية الدين والعلمانية غير المنتجة في السودان، هذا الرتوريك المستنزف للطاقات والجهود بعيدا عن القضايا والوظائف الموكلة بماكينة الدولة الخادمة. أحمد مهموم بتقلبات المناخ السياسي والفرص المتاحة لتأمين الانتقال السلمي المنشود ومهموم على نحو أكبر بتضعضع عزمنا على الإنجاز منذ مطلع يناير 1956م. مؤكد أننا خسرنا مع خروج الإنجليز ضمان كفاءة الأداء التنفيذي للدولة، التجارة الدولية المنفتحة، انهيار مشروع الجزيرة وتبددد قطاع انتاج الصمغ العربي، إضافة للفشل الكبير في الاستفادة من الثروة الحيوانية. شأنه شأن الوليد ولد لأسرة موسرة من أسر الإدارة الأهلية المعروفة، وهو نفسه دخل سلك الإدارة في مقتبل حياته، ثم انصرف لدار الوثائق والاهتمام الجاد بتاريخ وحاضر ومستقبل السودان من وجهة نظر فيها من التقدمية والطرافة والاعتدال. واحد من أهم كتاب المقال النشطين. ومن أبرز المؤرخين المعاصرين في السودان. على الدوام منطق متسق، قلمه رشيق، وإن حديث لهادئ لا جدال ولا ادعاء.
تخرج من جامعة الخرطوم أيام كانت جامعة للكريم أوف ذا كريم، ثم من بعد هو خريج الجامعات النرويجية. مهتم بالفدرالية، والدستور، والتنمية، والسياسة السكانية، والاغتراب، والتنمية المتوازنة. من مؤلفاته : الثورة السودانية (2018-م2019م)، الانتخابات البرلمانية في السودان (1953م- 1986م).

mohsulieman@gmail.com

 

آراء