مفهوم “الحاكمية لله” عند سيد قطب

 


 

 

 

 

morizig@hotmail.com

الإهداء:
أهدي هذا المقال للأخ والصديق الأستاذ صديق عبد الهادي عضو الحزب الشيوعي السوداني الذي شجعني على شرح أفكار سيّد قطب من أجل فهمها في حد ذاتها من جانب، وإنصاف سيِّد قطب من جانبٍ آخر.
مقدمة المقال:
إنَّ الحقيقة التي يتجاهلها عمداً كثيرٌ من الناس أنَّ سيد قطب راح ضحية لعنف الدولة العلمانية التي كان يتزعمها جمال عبد الناصر في مصر. ولقد أعدم الرجل شنقاً لا لشيء جناه سوى ما خطه قلمه الذي ما زال يزعج الطغاة!! فالرجل لم يدعُ لعنفٍ ضد الدولة والمجتمع قط، ولم يؤسس أو يقود ملشيات مسلحة قط، ولم يكن لديه أبناء يدفعهم للعنف، وكان معدماً لا يملك مالاً يمول به العنف أو يشترى به السلاح لأهل العنف. وعندما فتشت الدولة العلمانية عن شيئِ تدينه به ولم تجد لفَّق له جهازُ مخابراتها -الذي أدخل ممارسة العنف والتعذيب في الدول العربية- عدة تهماً منها محاولة اغتيال عبد الناصر وقلب نظامه، كما أُعتبرت كتاباته تحريضاً للعنف ضد الدولة بعد أن فسروها على هواهم باخراج كلماته من سياقها.
تلقى الرجل حكم الاعدام ببسالةٍ وثباتٍ قلَّ نظيره، وعندما طُلب منه أن يكتب خطاباً يسترحم فيه الرئيس ناصر، أخذته عزة المؤمن الواثق بربه وفكره فقال قولته المشهورة: " إن أصبع السبابة الذي شهد لله بالوحدانية ليرفض أن يخط حرفاً يقر به حُكمَ طاغية"، وعندما بلغت كلماته تلك الرئيس عبد الناصر هاج الطاغية هياجاً شديداً كما هاج من قبله فرعون وقد صور له خياله أن يرى الرجل منكسراً أمامه، فأمر بإعدمه شنقاً في يوم 29 أغسطس عام 1966 فخرج سيِّد الى المشنقة يتضرع كما يتضرع الأسد راضياً مرضيا.
إنّ الرجل كان مفكراً وكاتباً وناقداً وأديبا وشاعراً ومفسراً ومجدداً، وكان جرئياً شجاعاً لا يخاف أحداً ولا يجامل أحداً في مبادئه ومعتقداته ولو كان عبد الناصر الذي ملكت شخصيته قلب الوطن العربي وعقله. وصفه عميد الأدب العربي د. طه حسين بقوله: "إنَّ في سيد خصلتان هما: المثالية والعناد"، ولا يعرف التاريخ الحديث رجلاً واحداً في العالم الإسلامي كله كان يخاف منه أعداؤه وهو في سجنه وما زالوا يخافون منه وهو في قبره بعد أن مرَّ على إعدامه أكثر من نصف قرن غير سيد قطب. ولعله تنبأ بالخوف من كلماته حين قال: "إنَّ كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة"
فما زال الهجوم عليه يشتد يوما بعد يوم إلا انَّ معدن الرجل كالذهب إذا زدته ناراً زادك توهجاً وجمالاً. والهجوم المنظم والمحكم والممنهج الذي يتعرض له سيد قطب سببه هو مناداته بمباديء أصبحت اتجاهاً سياسياً متنوعاً ومتجذراً في العالم الإسلامي كله بشقيه الشيعي والسني يستحيل إقتلاعه. فقد قضى بفكره هذا الذي تلقفه الكثيرون - بعضهم تلقفه بوعي وبعضهم بغير وعي- على كثيرٍ من الحركات والأفكار السياسية الدخيلة للعالم الإسلامي في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، وما زالت أفكاره تقف سداً منيعاً ضد علمنة العالم الإسلامي في عصرنا هذا.
ومن أهم الشعارات التي رفعها سيد قطب في مجال السياسة والعدل الإجتماعي شعار "الحاكمية لله" مع أنه قد رُفع في التاريخ القديم ولكن لم يكن بعمقِ وفهمِ واستنارةِ سيِّد. ولا يُذكرُ هذا الشعار بخيرٍ إلا وذُكرَ معه سيد قطب بخير. وما لُعِن أوحُورب هذا الشعار إلا ولُعن وحُورب معه سيد قطب أيضاً!
فما هي حقيقة هذا الشعار من زاوية سيد قطب ونظرته وفهمه له؟
و المغني السوداني يقول "سمح الكلام من خِشيم سيدو"
فالى كتابات سيِّد نستنطقها لتشرح لنا أبعاد مصطلح "الحاكمية لله" عند الرجل.
يقول سيد قطب في كتابه العدالة الإجتماعية في الإسلام: " تقوم نظرية الحكم في الإسلام على أساس شهادة أنَّ لا إله إلا الله. ومتى تقرر أنَّ الألوهية لله وحده بهذه الشهادة تقرر بها أنَّ الحاكمية في حياة البشر لله وحده. والله سبحانه وتعالى يتولى الحاكمية في حياة البشر عن طريق تصريف أمرهم بمشيئته وقَدَرِه من جانب، وعن طريق تنظيم أوضاعهم وحياتهم وحقوقهم وواجباتهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم بشريعته (قانونه) ومنهجه من جانب آخر. وفي النظام الإسلامي لا يشارك الله سبحانه أحدٌ، لا في مشيئته وقَدَرِه ولا في منهجه وشريعته..." (صفحة 80)
وهذا الكلام ببساطة شديدة المقصود منه أن تكون مقاصد الدين التي أنزلها الله تعالى الحَكمُ الفردُ العدل هي الإطار الدستوري الذي تُفرَّع عليه القوانين المتجددة التي تُثبِّت الحقوق والواجبات والعقوبات بحكم تغير الزمان والمكان. وهذه المقاصد والمباديء الدستورية كثيرةٌ جداً في القرآن الكريم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: العدل والمساواة، وحرمة الدماء والأعراض، وإستقلال القضاء، وعدم الإسراف، وعدم الإفساد، ومحاربة الفواحش والرذائل ما ظهر منها وما بطن، وعدم محاباة الأهل أو أي قرابة في الحكم، وغيرها من المقاصد الدستورية الأخرى.
هذه المباديء الدستورية هي في الحقيقة أحكام إلهية دائمة وثابتة أنزلها المولى عزَّ وجلَّ علينا لتتحقق بها حاكميته علينا، وبتطبيقها يتحقق إيماننا به. هذا هو الإطار الفلسفي لنظرية "الحاكمية لله" وكما هو واضحٌ ليس عليها غبار البتة ولا يستطيع أيّ مسلم أن يختلف معه في هذا المفهوم العام، وبالتالي ترجع لسيّد فضيلة تثبَّيت مفهوم الحاكمية لله في إطاره الدستوري العام وإطاره القانوني المتفرع منه.
وسيد قطب يذهب أبعد من ذلك لتوضيح أسس وقواعد هذه النظرية حتى لا تلتبس على أحد من الناس من بعده فيقول: " وتقوم سياسة الحكم في الإسلام - بعد التسليم بقاعدة الألوهية الواحدة والحاكمية الواحدة- على أساس العدل من الحكام، والطاعة من المحكومين، والشورى بين الحاكم والمحكوم وهي خطوط أساسية كبيرة تتفرع منها سائر الخطوط التي ترسم شكل الحكم" (ص. 80)
وبهذا يضع الرجل إطاران للحكم الإسلامي، فالإطار الأول هو الإطار التشريعي الذي يقوم على المباديء الدستورية والمقاصد العليا الصالحة لكل مكانٍ وزمان، أمَّا الإطار الثاني هو الإطار التنفيذي المنوط به تنفيذ تلك المقاصد وإنزالها في واقع الناس عدلاً وقسطاً وأمناً ورفاهية وتقدماً. هذا الإطار الثاني يعتمد على الحكومة والشعب وآلية التشاور التي يتواصل بها الشعب مع حكامه ويملي عليهم مطالبه العادلة فيما يخص مصالح الأمة لأنّ "الشورى أصل من أصول الحياة في الإسلام ... فلم يحدد لها نظاماً خاصاً، وتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات" (83)
ولأن سيد قطب مفتون بالعدالة ومهموم بها واقعاً لا شعاراً أكَّد على مبدأ مهمٍ في مفهوم طاعة الشعوب لأولي الأمر فقال: "فالطاعة لأولى الأمر مستمدة من طاعة الله والرسول، لأنّ ولي الأمر في الإسلام لا يطاع لذاته، وإنما يطاع لإذعانه هو لسلطان الله واعترافه له بالحاكمية، ثم لقيامه على شريعة الله ورسوله، ومن اعترافه بحاكمية الله وحده، ثم تنفيذه لهذه الشريعة، (وبهذه الشروط) يستمد حق الطاعة (من الشعب) ، فإذا انحرف عن هذه أو تلك سقطت طاعته، ولم يجب لأمره النفاذ" (ص.81) وبهذا المفهوم يضمن سيّد قطب للشعوب حق الثورة و الخروج ونقض البيعة متى ما انحرف الحاكم وحكومته عن جادة الطريق. "والطاعة من المحكومين منوطة وموقوتة فقط باعتراف الحاكم بأنّ الحكم لله وحده ومن ثمّ تنفيذه لشريعة الله بلا شرطٍ آخر غير العدل وطاعة الله" (ص. 81) و"ليس للحاكم إذن فيما عدا الطاعة لأمره والنصح له والمعونة على إقامة الشريعة-حقوق أخرى ليست لأفرد من عامة المسلمين" (ص. 83)."وليس للحاكم أن يعتدي على أرواح الناس وأجسادهم، ولا حرماتهم وأموالهم" (ص.84) "وليس لأهله حقٌ فيها (أي الأموال) غير ما لرجلٍ من عامة المسلمين" (ص.84) فإن فعل ذلك وجبت عليه الثورة في فقه سيّد قطب.
وسيّد قطب لا يقيم للشعارات الإسلامية وزناً إذا لم يصدقها العمل الذي هو دليله وبوصلته التي يحكم بها على نظام الحكم الإسلامي، فها هو يقول: "كل حكم يقوم على قاعدة أن الحاكمية لله وحده، ثم تنفذ فيه الشريعة الإسلامية (بشقيها الدستوري والقانوني) هو حكمٌ إسلامي. وكل حكمٍ لا يقوم على أساس إفراد الله تعالى بالحاكمية، ولا تنفذ فيه هذه الشريعة، لا يعترف به الإسلام، ولو قامت عليه هيئة دينية، أو حمل عنواناً إسلامياً." (ص.82)
وسيد قطب يطمئن الذين يظنون أنَّ مبدأ الحاكمية لله ما هو إلا تكريس لكهنوت جديد باسم الأسلام على قرار الكهنوت الكنسي، فيقول لهم: " إنّ الاسلام لا يعرف هيئة دينية مثل "هيئة الإكليروس" في الكنيسة المسيحية. والحكم الإسلامي ليس هو الذي تقوم به هيئة معينة (أو حزب أو جماعة معينة) ولكنه كل حكم تنفذ فيه الشريعة الإسلامية إقراراً من الحاكم بأنَّ الحاكمية لله وحده، وأنَّ مهمته هو (أي الحاكم) لا تتعدى تنفيذ الشريعة." (ص.82) لأنَّ "الدين في المفهوم الإسلامي هو النظام العام الذي يحكم الحياة" (ص. 78)، "وهو مرادف لكلمة "النظام" في الإصطلاحات الحديثة." (ص.79 )
ويواصل سيد قطب شرحه لمفهوم الحاكمية فينفي عن الإسلام مفهوم "الحكومة الدينية" فيقول : " فإذا كان مفهوم "الحكومة الدينية" في أيّة ديانة أو طائفة معينة هي التي تتولى الحكم، فإنَّ هذا المعنى ينتفي في الإسلام انتفاءً كاملاَ، وليس هناك مبرر ٌ لأن يفهم احدٌ أنَّ الحكم في الإسلام يحتاج الى أكثر من تنفيذ الشريعة الإسلامية، بعد إفراد الله سبحانه بحق الحاكمية." (ص.82) أي أنَّ أمر الحاكمية ببساطة لا يتعدى تطبيق الدستور والقوانين الشرعية المتفرعة منه في إطارٍ مدني مؤسسٌ على أسس ديمقراطية حديثة.
وبهذا المفهوم يجعل سيد قطب مسؤولية تطبيق الشريعة والعمل بمقاصد الدين مسؤولية الشعب بأجمعه وليس مسؤولية طائفة أو جماعة أو حزب بعينه، لأنَّ الإسلام لا يعرف الكُهان والكِهانة والكَهنوت، فكل من يصلح للحكم والتنفيذ وترتضيه الأمة يعقد له لواء القيادة لأنَّ هذا "الإسلام لا كهانة فيه ولا وساطة بين الخلق والخالق، فكل مسلمٍ في أطراف الأرض وفي فجاج البحر، يستطيع بمفرده أن يتصل بربه بلا كاهن ولا قسيس. والإمام المسلم لا يستمد ولايته من "الحق الإلهي" ولا من الوساطة بين الله والناس، وإنَّما يستمد مباشرته للسلطة من الجماعة الإسلامية (أي من تفويض الأمة أو الشعب له) كما يستمد السلطة ذاتها من تنفيذ الشريعة التي يستوى الكل في فهمها وتطبيقها متى فقهوها، ويحتكم إليها الكل على السواء. فليس في الإسلام رجل دين بالمعنى المفهوم في الديانات (الأخرى) والتي لا تصح الشعائر التعبدية فيها إلا بحضور رجل الدين. إنّما في الإسلام علماءٌ بالدين، وليس للعالِم بهذا الدين من حقٍ خاصٍ في رقاب المسلمين. وليس للحاكم في رقابهم إلا تنفيذ الشريعة التي لا يبتدعها هو بل يفرضها الله عليه وعلى الجميع " (ص.14- 15)
ومفهوم "الحاكمية لله" عند سيد قطب لا يبخس غير المسلمين أديانهم ومعتقداتهم ولا يطفف عليهم في حق المواطنة، "بل يدع لهم أقصى الحرية والحماية في مزاولة شعائرهم الدينية" (ص.79) "والإسلام اذ يدع للآخرين حريتهم في هذه الحدود يتأثر بروحه العالمية فإنّهم، وهو على ثقةٍ بأنّهم متى أتيح لهم أن ينظروا في الإسلام بتدبرٍ وإمعان دون حيلولة من قيود مادية، أو جهالة فكرية، بفطرتهم يفيئون الى الإسلام الذي يحقق التوازن الكامل بين جميع الأهداف التي رمت إليها الديانات من قبله، وجميع النزعات والأشواق في الفطرة البشرية، ويضمن للجميع المساواة المطلقة والتكافل التام، ويرمي الى تحقيق الوحدة الإنسانية في دائرة التصور ودائرة النظام (الرباني)" (ص. 79-80 ) فالرجل إذن واضح جداً في مسألة حقوق غير المسلمين ووحدة الإنسانية لأنّ الشرع يتطلب ذلك، والعدل المجرد يتطلب ذلك، ولهذا "فإنّ للجنس البشري كله كرامته التي لا يجوز أن تستذل" (ص.51).
وسيِّد قطب في إطار شعار "الحاكمية لله" يدعو لتأسيس دولة القانون التي يسندها الضمير، فيصرح قائلاً: " فسياسة الحكم في الإسلام تقوم على أساسٍ من الضمير، فوق قيامها على أساس من التشريع (القانون). تقوم على أساس أن الله حاضرٌ في كل لحظة مع الحاكم والمحكوم، رقيب على هذا وذاك" ويستطرد قائلاً: "ولا يفهم من هذا أن النظام الإسلامي الإجتماعي قائم على هذا الضمير وحده ولكن الذي ينبغي أن يفهم هو أنَّ في الإسلام ضمانة أخرى غير مجرد التشريع (القانون)، وهي (ميزة) تحسب له". فإذن شعار "الحاكمية لله" عند الرجل يبنى على نفاذ القانون وصحوة الضمير ولا تترك موارد الدولة ومصالحها للضمير فقط بلا حسيب ولا رقيب فيلِغُ فيها المفسدون الذين لا ضمير لهم.
وسيّد قطب في ظل شعار "الحاكمية لله" لم ينس تطور الزمان، ولم يطلب من الناس ترك متاع الحياة الدنيا وتبني خط الزهد المادي، "وكل ما هو ليس حرام فهو مباح" للمسلم. وقد كان الرجل مدركاً أيضاً لضرورة التكيف مع متطلبات الزمان الجديد وفي ذلك يقول: "فالإسلام ليس نظاماً متحجراً،عند وتطبيقاته التفصيلية لا تقف عند عصر من العصور، ولا بيئة من البيئات. فكل ما يريد الإسلام تثبيته هو القواعد الأساسية التي تحدد ملامحه الربانية وتحفظ المجتمع من الذوبان في المجتمعات الجاهلية" (ص. 85) ويستطرد قائلاً: "وليس معنى هذا أننا ندعو الى الوقوف بأوضاع المجتمع عند شكلٍ تاريخي معيَّن، فالإسلام منهج وإطار تصاغ منه أشكال متجددة" (ص.18)
ومبدأ "الحاكمية لله" عند سيد قطب يحتم "إتاحة الفرص المتساوية للجميع، فلا يقف أمام فردٍ حسبٌ ولا نشأة، ولا أصلً ولا جنس، ولا قيدٌ واحدٌ من القيود التي تغل الجهود" (ص.29) ولذلك يعتبر أن القيود والمعوقات المتعمدة لمنع الإسترزاق الحلال هو إذلالٌ للناس "ولا يجوز أن يُذلَ الإسترزاق رقاب الناس فإنّما رزقهم بيد الله، وبيد الله وحده" (ص. 37)
ولأنَّ الرجل قد عاش مضطهدا أيام الملك فاروق ثم سُجن وعذِّب وقتل مضطهدا في عهد الدولة العلمانية الناصرية تكون لديه إحساسٌ وشعورٌ قوي ضد القهر والعنف والظلم والطغاة. ولهذا تجده ينفي عن الإسلام الذي يعتقده تهمة القهر بكلماتٍ ومنطقٍ رائعٍ فيقول: " لقد قامت دعوة الإسلام على مخاطبة العقل والضمير، وتجردت من وسائل القهر، حتى القهر المعنوي بالخوارق المعجزة التي صاحبت الأديان الأولى. فالإسلام هو الدين الذي احترم القوى المدركة الشاعرة في الإنسان، فاكتفى بخطابها بلا قهر ولا اعجاز بخوارق الطبيعة. فمن باب أولى ألا يجعل القهر المادي بالسيف أداة من أدواته .."لا إكراه في الدين" ..{أدع الى سبيل ربك } (ص.146)
ولا شكَّ أن الذي يَكفرُ بالقهر والعنف بشدة يؤمن بالحرية والسلام بشدة، ومنطق الأشياء البسيط يقول إنَّ لكل فعلٍ ردُ فعلٍ مساوٍ له في القوة ومضاد له في الإتجاه. وعليه، يقول سيّد في معنى ضرورة الحرية وتحرر الوجدان الإنساني: "فإذا تحرر الوجدان من شعور العبادة والخضوع لعبدٍ من عباد الله، وامتلأ بالشعور بأنه على اتصال كامل بالله، لم يتأثر بشعور الخوف على الحياة أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة،...وهو شعورٌ خبيث يغض من إحساس الفرد بنفسه، وقد يدعوه الى قبول الذل والى التنازل عن كثيرٍ من كرامته، وكثير من حقوقه." (ص. 36) فها هي حقوق الإنسان وعلى رأسها حق الحرية حاضرة في مخيلة سيد قطب لا تفارق كتاباً من كتبه ولا شعراً من أشعاره. فقد أنشد وهو وراء القضبان يقول:
أخي أنت حرٌ وراء السدود
أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضيرك كيد العبيد
وخلاصة الموضوع أن مبدأ الحاكمية لله عند سيّد قطب مقصودٌ به الإطار الدستوري الذي تمثله المقاصد العليا التي نص عليها الدين، وليس مقصود به أن يدعي الحاكم أو حكومته أنَّها تحكم بأمر الله فتشرع ما تشاء، وتفسد كيف تشاء، وتقتل وتسجن من تشاء، وتعطي من تشاء وتنمع من تشاء. فمفهوم "الحاكمية لله" هو ضد مفهوم "الحاكم بأمر الله" وهو في الحقيقة حرب ضروس شرسة عليه لأنّ النبوة قد خُتمت والوحي قد انقطع فلا مجال لأحدٍ أن يدعي صلةً بعرش الرحمن وقد جُعِلَ الحكمُ بين الناس للقرآن.

بهذا المفهوم المتقدم كلنا نقف وراء هذا الشعار لا نلوي على إحدٍ نهتفُ بأعلى أصواتنا.
مدنياااااااااو
شرعياااااااو
عدلياااااااو
سلمياااااااو

 

آراء