مقاربات ما بين الحالة السودانية ورصيفتها الصربية
14 November, 2009
من واشنطون للخرطوم
fataharman@yahoo.com
ربما يرى بعض من يؤمنون بنظرية لكل بلد خاصيته
الجيو-سياسية، و اصحاب ما يعرف
بـ(Atomistic Approach) الذين يعمدون علي تجزئة القضايا، ان لا علاقة تجمع ما بين الحالة السودانية و نظيرتها الصربية، وهم محقون جزئياً، ولكن بالنظرة الشاملة والكلية للاشياء، واذا كنت عزيزى القارىء من اصحاب هذه النظرة،
و التي تعرف عند الفرنجة
بـ( Holistic Approach) سوف يتضح لك –علي ما اعتقد- بان النظرة الكلية للاشياء هي التي تساعد و تنجي بلادنا من المهالك. واذا اخذنا نموذج داعية السلام الكبير و ملح الارض الراحل، المهاتما غاندى و طريقته في طرد القوى العظمي
–بريطانيا- من ارض الهند العظيمة، و التي كانت تعرف بـ(Nonviolence Movement) وهي حركة سياسية وإجتماعية تدعو للتغيير عبر الوسائل السلمية، برفض العنف. كان الاب الروحي لهذه الحركة، الراحل المهاتما غاندى، لكن إستفاد من منهاجه هذا القس الراحل وقائد ثورة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مارتن لوثر كنغ، كما إستفاد منها ايضاً، المؤتمر الوطني الافريقي في جنوب افريقيا بقيادة، نلسون مانديلاً. و إستفادت منها كذلك، حركة المقاومة الصربية.
إستفاد هؤلاء الاشخاص و تلك المجموعات من النموذج الهندى للتحرر، ولم يكن هذا الامر بهذه السهولة، لو لا رؤيتهم
و نظرتهم الشاملة للاشياء، لان القضايا لا تتجزأ، وليس هنالك من يعيش في جزيرة بمناى عن العالم و التأثير الخارجي.
حكم رئيس الحزب الإشتراكي، سلوفادان مليسوفيتش جمهورية صربيا من الفترة مابين 1989 الي 2000. و عندما اتي الي سدة الحكم كان دخل الفرد الشهرى حوالي (80) دولاراً شهرياً ثم انخفض في فترة حكمه الي (50) دولاراً شهرياً –حسب الإحصاءات المحلية- ومن منا لا يُذكر تصريحات جهابزة الإنقاذ عندما استولوا علي السلطة بليل، قالوا وقتها: اذا لم نستلم السلطة لاصبح سعر الدولار الواحد (14) جنيهاً! وبقية القصة معروفة لديكم. أقام الراحل، مليسوفيتش حكماً ديكتاتورياً كامل الدسم، حيث تم التضييق علي (18) حزباً سياسياً معارضاً،
و امر بالرقابة علي الصحف و اغلق كل الإذاعات المستقلة
و محطتي البث التلفزيوني الغير حكوميتين. خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، اصاب احزاب المعارضة الصربية الوهن، وكانت شبيهه باحزاب المعارضة السودانية، التي إن حملت عليها تلهس و إن تركتها تلهس من شدة الضمور و الإعياء الذى اصابها. المواطن الصربي، كانت صورته مطابقة لصورة المواطن السوداني هذه الايام، لا يكترث لشىء خصوصاً عندما يتعلق الامر بساس يسوس، و إن قلت لهم علكيم بالتصويت للمعارضة لإزاحة الحكم الديكتاتورى يقولون لك: لا خير في هذا و لا خير في ذاك؛ ربنا يولي من يُصلح!.
وفي قمة حالة الياس هذه، خرجت مجموعة من الشباب الصرب تستهدى بنموذج المهاتما غاندى في التغيير، و اسمت نفسها ((Otpor و التي تعني المقاومة. نظمت حركة الشباب هذه نفسها و انتشرت في كل المدن الصربية. كانت تطبع المنشورات التي تحث الناس علي اهمية تغيير نظام الديكتاتور مليسوفتش،
و إن لم يكن من اجل المعارضة فمن اجل تحسين وضعهم المعيشي. وزاد الطين بلة، ان الدكتاتور ملوسفيتش أقدم علي حملة تطهير عرقي لالبان كوسوفو، مما جعل أنظار العالم تتجه اليه بقوة إعلامها وبارجاتها الحربية التي دكت معاقل جيش الدكتاتور الصربي عبر الطيران الحربي لحلف
(النيتو/ NATO). فاتورة الحرب علي كوسوفو كانت باهظة التكلفة علي كاهل المواطن الصربي، وفي ظل هذه الاوضاع، اعلن ملوسفيتش عن إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة تقام في سبتمبر 2000 بدلاً عن يوليو 2001، ولو علم الدكتاتور بان هذه الخطوة سوف تكلفه عرشه الذى بدأ يهتز كسنابل القمح في عِزّ الشتاء لما اقدم عليها. إرتأت الإدارة الامريكية –السابقة- اهمية دعم حركة شباب المقاومة و المعارضة للفوز بالانتخابات القادمة، و إزاحة الدكتاتور، الذى إتهمته محكمة الجنايات الدولية بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية ضد البان كوسوفو، في حالة شبيهة بدكتاتور الخرطوم الذى تلاحقه محكمة الجنايات الدولية بنفس التهمة. ضخت الإدارة الامريكية (25) مليون دولار لدعم حركة شباب المقاومة و احزاب المعارضة، و اتفقت تلك الأحزاب علي مرشح واحد لمنازلة الدكتاتور، ووقع إختيارها علي فوقسلافو كوتشينكا، رئيس الحزب الديمقراطي الذى نازل الدكتاتور في إنتخابات سبتمبر 2000. كانت كل الدلائل تشير الي فوز مرشح المعارضة، التي اظهرت النتائج الاولية فوزه، ولكن الدكتاتور عزم علي الغاء نتيجة الإنتخابات و اعلنت لجنة الإنتخابات –الحكومية- عن عدم تمكن منافسه من الحصول علي 50% من الاصوات. لم يدر بخلد احد في العاصمة الصربية بلغراد أن لحظة سقوط الدكتاتور قد حانت، و أن صربيا كلها سوف تجبره علي التنحي في مشهد نادر الحدوث.
دعت المعارضة الي الإحتجاج لمدة عشرة ايام، وخرج المواطنون في تجمعات مهيبة جلجلت صمت القصر الرئاسي، وقرر (17) الف من عمال الطاقة و التعدين الإضراب، مما احدث شللاً في الإمداد الكهربائي في جميع انحاء صربيا، حيث توقف الإمداد الكهربائي بنسبة 90%، ولحق بهم سائقي الباصات الحكومية. وسد الجيش الطرقات حول العاصمة حتي يمنع دخول مزيداً من المواطنين اليها، ولكنهم في نفس الوقت تعاطفوا مع المحتجين، وذلك عندما قام المحتجون بازالة العوازل التي وضعت في الطرقات، لم يمنعهم الجنود المكلفين بحراستها من فعل ذلك. ووصلت تلك الجموع الغفيرة الي قلب بلغراد و إحتلت البرلمان و القصر الرئاسي، و هرب الدكتاتور عشية الليلة الثانية للانتخابات، في حالة شبيهة بهروب المتنبيء من بطش كافور الإخشيدى. بالنظر لما حدث في صربيا، كينيا، زيمبابوى و إيران، نقول بان انتخابات ابريل القادم مؤهلة اكثر من غيرها لاحدى هذه السيناريوهات -وإن كنا نرجو من الله أن ينجي بلدنا شر المهالك-، و لكن لا يبدو –حتي الان- ضوء في نهاية النفق.