Munzinger's Observations on the Sudan, 1871: "The Little America of Africa"
فريدريك كوكس Frederic J. Cox ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لمعظم ما ورد في مقال لفريدريك كوكس عن نشر في عام 1953م بالعدد الثالث والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" من ملاحظات عن السودان خطها يراع المغامر السويسري فيرنير منزينجر باللغة الفرنسية بعنوان Observations sur la Situation Economique du Soudan. وفيرنير منزينجر (1832 – 1875م) هو رحالة ومستكشف وإداري سويسري الجنسية كان قد عمل في خدمة الخديوي المصري إسماعيل باشا وقاد حملته ضد الحبشة. وعمل أيضا قنصلا لإنجلترا وفرنسا في مصوع. وجاء في موسوعة الويكيبيديا أن " الخديوي إسماعيل كان يؤمل أن يجعل النيل كله نهرًا مصريًا، فزيّن له منزينجر التغلب على الحبشة وامتلاكها، مغتنمًا فرصة قيام الفتنة بين ملوكها وأمرائها، وأكد للخديوي أنه قادر على الاستيلاء عليها بقليل من الجنود، وشيء يسير من النفقة. فاقتنع الخديوي برأيه، وولاه المحافظة على فرضية مصوع، مفتاح أرض الحبشة البحري، ومنحه رتبة الباكوية، فأخذ منزينجر يستميل زعماء القبائل بالهدايا والأموال، ويدفع بهم إلى دس الدسائس وإيقاظ الفتن كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وفي سنة 1872، اغتنم منزينجر فرصة ذهاب يوحنا الرابع ـ إمبراطور الحبشة ـ إلى محاربة القالا في الجنوب، فاستولى على كرن (سنهيت) عاصمة البوغوس بألف وخمسمائة رجل، واستمال رأسًا يقال له النائب محمد، كان يكره يوحنا، فاشترى منه مقاطعة (آيلت) الواقعة بين الحماسين ومصوع، وأدخله تحت ولاء الخديوي مقابل مرتب سنوي يُدفع له...". كما سيلاحظ القارئ لا يخلو بعض مما ذكره منزينجر من أخطاء بينة. وسبق لنا أن ترجمنا شذرات من مقال بقلم أليس مور هاريل يدور حول سعي الخديوي إسماعيل للسيطرة على كثير مناطق شرق أفريقيا بعنوان " ثلاث سنوات من الهيمنة السودانية على ساحل الصومال، 1877 – 1890م". المترجم ******* ******* ******** ******* كان المغامر السويسري فيرنير منزينجر باشا من أشد المناصرين لسياسة مصر التوسعية. وكان الخديوي إسماعيل قد ولاه حاكما على شرق السودان وأرتيريا في غضون سبعينيات القرن التاسع عشر. وقضى الرجل ما يزيد عن العقدين من الزمان في منطقة ساحل البحر الأحمر، وخدم في تلك السنوات حكومات فرنسا وإنجلترا ومصر في عدة وظائف دبلوماسية وتجارية، مما أتاح له فهما وتقديرا للثروات الهائلة التي يتمتع بها السودان، وموقعه الاستراتيجي في المنطقة التي تضم مصر والسودان وأرض الصومال والحبشة وأرتيريا. وكان لمنزينجر عقلا نيرا وخيالا خصبا، فكتب عددا من المذكرات بين عامي 1855 و1875م تؤكد على أهمية السيطرة المصرية على سائر المناطق التي يمر بها النيلان الأبيض والأزرق. وتركت تلك المذكرات أثرا كبيرا على الخديوي إسماعيل، لا سيما وقد كانت له أصلا طموحات عظيمة في بناء إمبراطورية مصرية في وادي النيل من منبعيه إلى مصبه. وكانت مذكرة منزينجر التي كتبها في 1871م والتي عنونها باللغة الفرنسية " Observations sur la Situation Economique du Soudan" هي أشد ما شد انتباه الخديوي إسماعيل، وحثه على تهدئة الأوضاع في كل أطراف السودان وإكمال السيطرة عليه، حتى بعد إخفاق السير صمويل بيكر في رحلته جنوبا (لاكتشاف منابع النيل). وكانت تلك المذكرة هي الدافع الذي أثار شهية الخديوي للاستفادة من الميزات الاقتصادية المتوفرة في أرض السودان. واعترافا بخبرة منزينجر في منطقة البحر الأحمر، ولخدمته لمصر، أمر الخديوي بتعيينه حاكما لمصوع. وقام الرجل في وظيفته الرسمية الجديدة بتكثيف جهوده السياسية، وواظب بانتظام على كتابة تقارير مفصلة للخديوي عن الفرص الممكنة لمصر في شرق أفريقيا. وكانت أولى القرارات السياسية التي اتخذها منزينجر بعيد تعيينه هي تكليف عالم النبات الألماني دكتور ج. م. هيلديبراندت للقيام بجولة استكشافية في شرق أفريقيا باعتباره "مراسلا مصريا"، وطلب منه تحديدا تقديم تقارير دورية له عن الأحوال في أرتيريا وأرض الصومال وزنزبار. ومن أمثلة ما كان يمد به هيلديبراندت مخدمه خطاب بتاريخ 9/3/1873م، كتب على إثره منزينجر رسالة للخديوي إسماعيل جاء فيها: "يتسابق البرتغاليون والإنجليز والنمساويون والأمريكيون والفرنسيون علانية للفوز بجائزة عظيمة القدر، وهي ثروات جنوب شرق أفريقيا (هكذا). فالفرنسيون يتهالكون على اوبوك Obok ويستخدمونه كمسوغ أخلاقي لشجب تجارة الرقيق التي يمارسها الشيخ أبوبكر في زيلع (مدينة صومالية تقع في الشمال الغربي على ساحل خليج عدن المقابل لدولة جيبوتي، كانت مركز سلطنة إيفات. المترجم). وينصح مراسلنا الألماني مصر بأن تستفيد من حالة الفوضى الضاربة الاطناب الحادثة الآن في شرق أفريقيا، وأن تسرع بتوطيد سلطتها على ممتلكاتها في ساحل أرض الصومال بالاستيلاء على ميناء بربرة، التي يمكن بسهولة تحصينها والدفاع عنها". وسر الخديوي بالمعلومات التي قدمها هيلديبراندت، ووافق على تعيينه كوكيل (عميل) رسمي لمنزينجر. واستخدم منزينجر غالب المعلومات التي قدمها له هيلديبراندت كأساس للتوصيات التي ظل يزود بها الخديوي، والتي كانت تلح على ضرورة الاستيلاء على بربرة وأوسا (عفار). ودفعت تلك التوصيات الخديوي لاحقا إلى ليأمر رؤوف باشا بقيادة جيش للاستيلاء على هرر، وليطلب من ميتشل استطلاع الأحوال في زيلع وتاجورا، وماكيلوب ولونق لاستكشاف نهر جوبا. وكان الهدف (النهائي) من كل تلك الحملات هو تمكين مصر من فرض سيادتها الكاملة على مثلث أرض الصومال، الذي وصفه منزينجر للخديوي في تقرير عن بربرة المعنون: Rapport sur Berbera عام 1873م كما يلي: "تتكون أرض الصومال من مثلث هائل، يقابل المحيط الهندي وخليج عدن من اتجاهين، ويمثل خط وهمي من جوبا إلى تاجورا ضلع المثلث الثالث". وكانت كل التحركات تسعى لتحقيق خطة الخديوي الكبرى للالتفاف حول الحبشة وضمان السيادة المصرية على كل شواطئ وادي النيل من منبعه لمصبه. وصَرَمَ منزينجر الثلاث سنوات التالية بحسبانه إداريا وضابطا عسكريا يقوم بتنفيذ خطط الخديوي إسماعيل في شرق أفريقيا. وفي عام 1872 صدر الأمر من الخديوي له لبدء عملية التفاف حول الحبشة عبر أراضي شعب يسمون البوغوس كانوا يسكنون حول كرن في أرتيريا. وكان منزينجر قد أقنع الخديوي سلفا بأن الوقت مناسب جدا لاحتلال تلك المناطق. وكان الخديوي يرغب أصلا في اتخاذها مركزا أرضيا داخليا استراتيجيا لمصوع، مينائه على البحر الأحمر. وكانت منطقة بوغوس، البالغ عدد سكانها نحو 10,000 نسمة، تقع بين مصر والحبشة، وكانتا تتنازعان دوما حول ملكيتها. وفي يونيو سار منزينجر من مصوع بقوة مسلحة مكونة من 1,200 جنديا مصريا وأحتل كرن دون كبير مقاومة. وعندما أحتج يوحنا ملك الحبشة على احتلال قوت الخديوي إسماعيل لكرن، رد عليه الخديوي بأن تلك المنطقة هي من أملاك مصر منذ أيام محمد علي، وهي الآن من أملاك مصر بحق الاحتلال. ولم يكن أمام ملك الحبشة ما يمكنه فعله سوى الاحتجاج، لمجرد أن يسجل ذلك في تاريخه، إذ لم تكن له من القوة ما تتيح له مقاومة ذلك الاحتلال من غير عون أوروبي. وتجاهل منزينجر احتجاج ملك الحبشة وضم أرض البوغوس لأملاك مصر وتولى قيادة محافظتها. وكان ضم أرض بوغوس لمصر هو أول خطوات الخديوي إسماعيل للاستيلاء على كل أراضي شرق أفريقيا الواقعة قرب منابع النيل الأزرق. غير أنه أتضح في عام 1872م أن الخديوي لم يكن يرغب في هزيمة الحبشة، بقدر كان يريد فقط تأمين سيطرة مصر على فروع النيل في تلك المنطقة. وكان ريتشارد بيردسلي القنصل الأمريكي العام بالقاهرة قد أدرك نوايا الخديوي إسماعيل تلك عندما كتب لوزير خارجيته ما يلي: "يتطلب الوصول إلى مصوع بالسكة حديد المرور عبر أراضي البوغوس. لذا أعتقد أن احتلال مصر للبوغوس يهدف لإكمال الطريق الحديدي المصري، وليس غزو الحبشة، وتلك هي الخطوة الأولى نحو إخضاع كل مناطق روافد النيل إلى أعالي النيل تحت السيطرة المصرية...". وعقب الاستيلاء على أراضي البوغوس أرسل الجنرال الأمريكي شارلس بومايروي استون رئيس أركان جيش الخديوي مذكرة سرية إلى منزينجر ذكر له فيها أنه يلزم لاستكمال السيطرة المصرية على المنطقة كلها من أرض غالاس (Gallas) إلى البحر الأحمر أن تتم المرحلة التالية، وهي احتلال أوسو. وبالفعل قام منزينجر باحتلال أوسو عام 1875م، وأفلح بذلك في تحقيق هدفه، وفي منع ما خطط له الفرنسيون لاوبوك، وأهم من ذلك كله، في تحقيق السياسة المصرية الكاملة على ساحل أرتيريا على البحر الأحمر حتى خليج عدن. وبذا غدت إمبراطورية الخديوي إسماعيل في شرق أفريقيا حقيقة واقعة في عام 1875م. وأزعجت تلك الحقيقة القوى الأوروبية الكبرى. غير أن الفكرة المسيطرة دوما على عقل الخديوي كانت هي السيطرة على النيلين الأزرق والأبيض وروافدهما. وكان احتلال كرن وهرر وأوسو وزيلع وبربرة ضروريا لاستكمال بناء إمبراطوريه أفريقية مركزية، يكون مركزها في الخرطوم. وكانت إنجازات منزينجر العسكرية في شرق أفريقيا، وقدرته على كتابة مذكرات شديدة الاقناع، بمثابة المقدمة لحملات الخديوي إسماعيل في السودان. ولم يكن من أحد يدرك الأهمية العظيمة للسودان مثل منزينجر نفسه، إذ أنه منذ عام 1871م كان قد بعث للخديوي ببعض "الملاحظات" عن السودان. واشتملت تلك الملاحظات على معلومات تاريخية وجغرافية واقتصادية، ومعلومات شخصية تحض الخديوي على أن يسيطر على السودان. وهنا نسرد بعضا من تلك الملاحظات: ملاحظات عامة أود هنا أن أعرض بعض الملاحظات العامة عن الوضع الاقتصادي في السودان، بحسب ملاحظاتي الشخصية عن ذلك البلد بعد عدة جولات فيه. وأستطيع أن أؤكد أن كل آرائي المذكورة في هذه المذكرات يعضدها أيضا كل من كتبوا في هذا الموضوع. لعل كل من قرأ كتاب بيركهاردت عن رحلاته عبر النيل، الذي صدر قبل نحو خمسين عاما، يشعر بالسعادة لأن السودان قد صار يتبع لمصر، ويأسف في الوقت نفسه أن دارفور لم يتح لها مثل ذلك الحظ السعيد. لقد كان العبور جنوب أسوان للسودان في تلك السنوات مغامرة محفوفة بالمخاطر. وكان السودان معزولا عن بقية العالم (كما هي وداي الآن). وليس هنالك سلام ولا أمان في وقتنا الحالي من مصر إلى سوباط، ومن كردفان إلى البحر الأحمر. لقد ازدادت الآن الحركة الزراعية والتجارية بصورة ملحوظة، ولكن هذا ليس كافيا! ورغم إمكانات السودان الضخمة فإن صادراته ووارداته ليست بالحجم الذي ينبغي أن تكون عليه. وسأحاول هنا أن أقدم بعض الأفكار عن إمكانات السودان الاقتصادية، وأن أبين الأسباب التي تعيق تطوره الطبيعي. وكمقدمة مختصره عما سأدلي به، أسارع بالقول ابتداءً بأنه لا توجد في السودان صحراء ميتة، فهنالك من الأمطار ما تكفي للزراعة. وهنالك الأنهار والسيول والفيضانات التي يمكن الاستفادة منها في الري والملاحة. وبالبلاد عدد كبير من السكان (أكثر من خمسة ملايين) وهم قوم نِشاط. ينبغي أن يكون السودان بأكمله مزرعة قطن كبيرة. والسودان هو بلا شك هو المفتاح لدواخل أفريقيا! يقع السودان في المنطقة المدارية بين خطي عرض 21 و10 درجات شمالا، ويحظى بنصيب وافر من الأمطار في كل صيف. ليست لدي إحصائيات دقيقة عن كمية الأمطار التي تهطل بالسودان، ولكني لا أشك في أنها غزيرة. كل مناطق السودان (وأعنى المناطق جنوب كورسيكو) قابلة للعيش. وليس في عُشر مساحتها ما يمكن أن يعد أرضا صحراء قاحلة. فثلث الأراضي صالحة للزراعة، والبقية تصلح للرعي. وكل أراضي السودان غنية بالطمي، وبترسبات شديدة الخصوبة. ولا بد أنها كانت في أزمان سحيقة مستنقعات (أهوار) واسعة. يمكن وصف طبيعة البلاد العامة بأنها أرض سهلية واسعة، تتخللها في بعض الأماكن حواف منخفضة أو تلال جرانيتية معزولة. ولا توجد جبال إلا في جنوب شرق البلاد وشرقها، حيث تشكل امتدادا لهضبة الحبشة شمالا. ولكن لا تختلف التلال بالسودان عن الأراضي السهلية، ففيها هضبات واسعة، وكلها مغطاة بالحشائش والأشجار. ولا توجد في معظمها إلا مساحات نُظفت من الحشائش والأعشاب البرية من أجل الزراعة. أما البقية فهي غابات أو براري عذراء ترعى فيها قطعان كبيرة من الماشية. ومما يتضح ذكره ندرك أن سكان السودان هم في الغالب (75%) رحل. ولكن نسبة قليلة من هؤلاء يزرعون ما يكفي لغذائهم فحسب. لعلي لا أبالغ إن قدرت عدد سكان السودان المصري بخمسة ملايين نسمة على الأقل. وهذا العدد لا يشمل سكان النيل الأبيض فوق خط عرض 12 شمالا. وتقديري لعدد سكان السودان نابع من خبرتي الطويلة جدا في كل مديرياته. فالتاكا مثلا فيها نحو مليون نسمة، وهي أقل المديريات ازدحاما بالسكان. وسكان غالب مناطق السودان هجين من العرب والزنوج. وقد بدأت الهجرة العربية المكثفة للسودان من الجزيرة العربية منذ قديم الأزمان، والتزم أسلافهم (مثل الشكرية والجعليين وغيرهم) في الغالب بالسكن في الأودية. غير أن هنالك موجات يومية من الهجرة قدمت من دارفور ووداي، واستقر كثير من هؤلاء المهاجرين (في أراضي السودان). وهؤلاء يسمون التكارنة/ التكروريين (Tagruri)، وهم قوم أشداء ومجدين في أعمالهم. وستكون هنالك موجات هجرة من أفريقيا الوسطى إلى الجنوب بمجرد فتح الحدود وقيام إدارة ليبرالية عليها. وهنالك أعراق أخرى مهمة هي البداويت – البشاريين والهدندوة والبني عامر، وهؤلاء يتحدثون لغتهم الغوغازية الأصل (لعل الصحيح هو أن تلك اللغة كوشية الأصل. المترجم). والسودانيون على وجه العموم قوم أشداء وصحيحي البدن، ويتميزون بالبساطة واللطف والكرم. وحتى العرب بينهم تخلصوا من قسوتهم وعنفهم المتأصل في السودان. ويسهل حكم السودانيين لأنهم ظلوا يتمتعون منذ زمن بعيد بحكم ذاتي، والذي أعتقد أنه سيكون من الحكمة الإبقاء عليه الآن، وإصلاحه إن تيسر. أنني اذكر هذا الآن في وقت ليست فيه بالبلاد حروب أو وبائيات سارية، وعدد السكان في نمو مضطرد. وسيزداد عدد السكان بلا ريب إن ضاعفت الحكومة من الاهتمام بالصحة العامة في المدن، إذ أن الأرياف – بصورة عامة – عادة ما تكون صحية وخالية من الأوبئة. وبما أن السودان بلد مداري ويقع على ارتفاع 1,000 إلى 3,000 قدم عن سطح البحر، وبه غطاء نباتي كثيف، فلا عجب أن تظهر فيه حميات كثيرة بين وقت وآخر، ولكنها لست خطيرة جدا. ويمكن التخلص من كثير منها في المدن بعمل تصريف جيد للمياه حتى لا تتراكد، وبوسائل الصحة العامة الأخرى. وأكثر المدن صحية في السودان هي بركة والهدندوة (؟) والقضارف، وغالب مناطق كردفان، ومروي وسنار، وكل وادي النيل من دنقلا إلى الخرطوم. والماء في كل المناطق من نوعية جيدة وصالح للشرب. ويمتاز السودان أيضا بأنهاره القابلة جزئيا للملاحة، وهي تشكل شابكة متكاملة عبر سائر مناطق البلاد، عدا كردفان، المعزولة الخالية من الأنهار. وتسير المياه في غالب تلك الأنهار (مثل النيلين الأبيض والأزرق) طوال العام، وتسهل الملاحة بهم. وهنالك قليل من الأنهار الموسمية (مثل الرهد وأتبرا) لا تفيض إلا في غضون شهور موسم الأمطار (التي تمتد لثلاثة أو أربعة أشهر فقط بين يوليو وأكتوبر)، وتصعب الملاحة فيها إلا في اتجاه تيار المياه. وتباع كثير من المراكب والطوافات القادمة لمصر عبر النهر من السودان كخشب، وتجلب أرباحا كبيرة. ومن المظاهر الجغرافية الأخرى أن كل تلك الأنهار تجري عبر أراضي السودان السهلية، ولها شواطئ منخفضة، ويسهل في الصيف غمرها بالمياه في موسم الأمطار. وتوجد بالبلاد الكثير من المياه والطمي الذي يمكن استغلاله في الزراعة. ويمكن أن نرى من الخريطة أن كل منطقة في السودان لها فيضاناتها الخاصة: التاكا (القاش وبركة)؛ الخرطوم وبربر (النيل)؛ سنار (النيل الأزرق ورشاد والدندر). أما كردفان فهي الوحيدة في السودان التي لها تربة ناعمة لا تساعد على تكوين الأنهار. وإن أردنا إعطاء فكرة عن المناطق المختلفة التي يتكون منها السودان، فلا بد لنا من أن نتجاهل التقسيمات الرسمية التي تناسب الأهداف الحكومية، ولكنها لا تناسب أغراضنا هنا. ونلاحظ أن كل منطقة من مناطق السودان تتميز بطقس مختلف نوعا ما. التقسيمات الإقليمية 1. أرض نهر النيل الأزرق - منطقة سنار وأرض النيل من الخرطوم إلى دنقلا. كل تلك الأراضي تشبه صعيد مصر كثيرا. وبها شرائح من الطمي على طول ضفاف النهر، ولكن غمرها بالمياه عسير بعض الشيء. لذا تسقى بالسواقي. والشريط الذي يزرع على طول الضفاف ضيق بعض الشيء، ولكنه مأهول بالسكان. وزراعته بالذرة والسمسم والقمح توفر الغذاء لسكان المنطقة. أما المناطق العليا في سنار – فازوغلي وبرتا – ففيها بعض التلال، وهي غنية بالأخشاب (من الأكاشيا والأبنوس) ومناجم الذهب. 2. مناطق دلتا الجزيرة ومروي: هي المنطقة بين النيلين الأزرق والأبيض، وبين النيل ونهر أتبرا، على التوالي. وهذه الأراضي تتميز بطمي له خصوبة عالية. وتهطل عليها أمطار غزيرة، إضافة لغمرها بالمياه عندما تفيض الأنهار. وتزرع فيها أجزاء قليلة، ويترك الباقي لرعي البهائم. وتغطي هذه الدلتا الكثير من الغابات الكثيفة. وكانت مروي مشهورة في الماضي البعيد، ولكنها الآن برية مهجورة. 3. كردفان: كردفان يمكن أن تكون قطرا مستقلا لوحده. ويفصلها عن النيل أراضٍ يغلب عليها التصحر. وتجد في جنوبها أراضٍ جبلية خصبة (مثل أرض النوبة) تمتد إلى بحر الغزال. أما بقية كردفان فتتميز بتربة رملية لا ينتج فيها غير الدخن. وبها غابات تنتج أشجارها الصمغ العربي. وبها ثروة حيوانية ضخمة يستفاد من لحومها وجلودها. ويصدر منها أيضا ريش النعام. ويبدو أن ليس للإنسان أي دور في ما ينتج من هذه المنطقة. 4. الأراضي بين النيل، ونهر الدندر ورشاد، والقاش (التاكا): ربما كانت أراضي هذه المنطقة أخصب أراضي السودان. ومثل كردفان، لا يبدو أن للإنسان أي دور في الزراعة والتنمية بهذه المنطقة، فالأرض خصبة، والمياه غزيرة، وليس على المزارع سوى بذر البذور وانتظار الحصاد. وقد تصبح هذه المنطقة من أفضل المناطق بالبلاد لزراعة القطن مستقبلا. 5. القضارف: هي شبه واحة، تفصلها عن نهري أتبرا والقاش سهول تغطيها الغابات، ولكنها شحيحة المياه. وتشتهر المنطقة بزراعة مطرية للحبوب تنتج كميات كبيرة قد لا تجد من يستهلكها. ويزرع فيها أيضا قليل من القطن. 6. المنطقة بين نهري القاش وأتبرا: تمتد هذه المنطقة لسلسلة من الجبال إلى البحر الأحمر (من خط عرض 10 إلى 19 شمالا. وتجلب روافد بركة والقاش وأتبرا الكثير من الماء والطمي. ولا تسهل عمليات ري هذه المناطق لغرض الزراعة بسبب وجود التلال العالية. لذا فإن تربية ورعي الماشية هي أفضل ما يمكن عمله هنا. وهذا ما يقوم به الآن الهدندوة وبني عامر والبشاريون. (أسهب بعد هذا الجزء في وصف منتجات السودان الزراعية، وفي طرق مواصلاته. المترجم)
فيرنير منزينجر حاكم مصوع 31 يوليو 1871م ***** ***** ***** ***** ***** ***** مما لا شك فيه أن ما سرده منزينجر للخديوي إسماعيل عن ثروات السودان، وعن موقعه الاستراتيجي المهم، وعن ضرورة سيطرة مصر عليه، قد ساهمت في تشجيع الخديوي على الاستمرار في حملات غزو السودان، حتى بعد إخفاق السير صمويل بيكر في مهمته بالجنوب (1821 – 1893م، ضابط إنجليزي قاد حملة مصرية في عهد الخديوي إسماعيل لاكتشاف منابع النيل وبسط نفوذ مصر على تلك الأصقاع. وقام بإنشاء مديرية جديدة لمصر هناك عرفت باسم مديرية خط الاستواء، رأسها لمدة أربع سنوات بقرار خديوي. المترجم). وحل العقيد شارلس غردون محل بيكر حاكما على الاستوائية. ومنحت مذكرات منزينجر للخديوي نظرة ثاقبة وشاملة لمجمل أوضاع السودان، ووفرت له سببا لاستعمار السودان raison d'être بدعوى إقامة وحدة سياسية واقتصادية لوادي النيل. وأقنعت مذكرة منزينجر الخديوي بأن يتخذ الكثير من الإجراءات المفرطة الشدة في سبيل تهدئة الأوضاع في السودان بأكمله والسيطرة على البلاد في الربع الثالث من القرن العشرين. ولعل تلك الأحداث قد ساهمت هي نفسها في إزاحته عن العرش. مما يستفاد من مذكرات منزينجر هي أن السودان يحمل بحق "مفتاح دواخل أفريقيا"، وسيصبح كما قال "أمريكا المصغرة في أفريقيا". وتحمل تلك المذكرات كل ملامح التفكير الذي كان سائدا (عند الأوربيين) في القرن العشرين. __ ____ ____ أضاف محرر مجلة "السودان في رسائل ومدونات" في نهاية المقال تعليقا صغيرا مفاده أن بعض ما جاء به منزينجر من أحلام عن إمكانات السودان لم ثبت أمام التحقيق العلمي. وقد تبدو بعض آرائه ومقترحاته الآن مجلبة للسخرية، إلا أن دعوته لتعمير السودان عن طريق الأشغال العامة والتعليم الخ، وليس بالاحتلال العسكري قد تبناها النظام الذي حكم البلاد فيما بعد (أي الحكم الثنائي).