ملامح الفكر السياسي للشيخ محمد الغزالي 3-8
1 February, 2010
نظرات في فكر الرواد
محمد وقيع الله
3-8
(إهداء إلى فضيلة أستاذنا البروفسور عمر أحمد العوض .. مع الإعزاز)
إذا كانت إدارة الدولة جزءً من وظائف الدين، فإن السؤال الأول الذي يُطرح يتعلق بتفويض السلطة وكيفية ممارستها، وهل هي سلطة شورية (ديمقراطية)، أم هي سلطة الحق الإلهي المطلقة. وكما هو الشأن دائماً مع الغزالي فإنه لم يكن ليتوقف عند مجرد المصطلحات والتسميات في أمر الديمقراطية، وإنما كان ينفذ دائماً إلى جوهرها، ويعقد الموازنة بينه وبين التوجيهات الإسلامية.
الشورى ومناخ التداول السياسي:
وإذا كانت التعريفات الأشهر للديمقراطية هي التي تثير الإشكالات لدى القارئ المسلم وتستحضر لديه مفهوم (الحاكمية) الذي صاغه المفكر الإسلامي الكبير المودودي ونظر له وأشاع استخدامه المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب، ذلك المفهوم القاضي بأن هناك تعارضاً ما بين الإسلام والديمقراطية فيما يتصل بأمر التشريع، إلا أن التعريفات الأدق للديمقراطية، وهي التعريفات الأحدث، لا تثير ذلك الإشكال، لأنها لا تنحو ذلك النحو الذي يثيره تعريف أبراهام لنكولن القائل بأن الديمقراطية هي ( حكم الشعب بالشعب للشعب )، وإنما تتحدث عن آليات الحكم والتأثير في القرار السياسي.
فالديمقراطية بهذا الاعتبار هي كما يعرفها المفكر السياسي النمساوي جوزيف شمبيستر: " النظام السياسي الذي يتيح فرصاً دستورية منتظمة لتغيير الفئة الحاكمة. وكذلك تهيئ تنظيمات اجتماعية تسمح بأن يكون للسواد الأعظم من السكان تأثير في القرارات الهامة، وذلك عن طريق الاختيار بين المتنافسين على المراكز السياسية ".
ومثل هذا المعنى هو الذي يركز عليه الفكر السياسي للشيخ محمد الغزلي ويحاول أن يؤصله من وجهة نظر إسلامية ويبلوره بحسبانه قناعة راسخة في الضمير الإسلامي.
اختيار الحكام بالشورى:
وفي هذا المنحى فقد أكد الشيخ أن الوضع الطبيعي لاختيار الحكام في المجتمع المسلم هو الوضع الشوري، أي الوضع الذي يختار فيه الناس حكامهم، غير مكتفين بمجرد مبايعتهم أئمة نافذين أو متغلبين، مستنتجا ذلك من وقائع اختيار الخلفاء الراشدين الذين يمثلون التجربة الأقرب التصاقاً بتوجيهات النصوص، وبروح الدين، وبتجربة الرسول r في الحكم.
أما فيما يتصل بمهمة الشعب في صنع القرار، وهو الأمر الذي نوقش في الإطار التنظيري المعروف: هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ فقد أبدى الغزالي انزعاجه من الطريقة المغرضة التي حُشدت بها مرويات الفتن، التي كرست دائماً لأمر طاعة القائد، ولزوم أمره، حتى بدا أن ذلك الوضع، " الذي يمكن أن يسمى وضع الطوارئ "، هو الحالة الأصلية التي تصادر على الدوام حريات الشعب وحقه في المناقشة وإبداء الرأي، والضغط في سبيل اتخاذ قرار ما.
وليست تلك هي الصورة الإسلامية المثلى بالطبع، فالتوجيه بضرورة لزوم الشورى جاء حتى قبيل قيام الدولة الإسلامية، عندما نـزلت آية الشورى المكية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، (الشورى:38)، تؤكد أن الشورى صفة لازمة للمجتمع المسلم تتخلل حياته كلها، لا حياته السياسية فقط، ثم توالت آيات الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهي آيات لم تستثن الحكام من الخضوع لذلك الأمر أو النهي.
الوقائع النبوية في الشورى:
والوقائع النبوية المطردة أكدت أن النبي r كان يستشير صحابته في كل قضايا السياسية، ويقطع فيها على رأي الشورى الراجح (مثل اتخاذ الموقع الاستراتيجي في موقعة بدر، وقرار الخروج للقتال في أحد، وقرار حفر الخندق في غزوة الأحزاب، إلخ...). وهكذا كان الرجل الذي تكلؤه السماء، ويؤيده الملأ الأعلى، وتصلي عليه الملائكة، ويبلغ رسالته بعين الله، ويصحبه من آي القرآن قول الله له: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ (البقرة: 119)، لم يمنعه هذا من أن يلتقط الحكمة من أي إناء، وأن يبحث عن الحق مع أولي الفطنة والفقه من صحابته".
ولكن دعاة تضييق نطاق الشورى لا يعدمون حجة، إذ يتحككون بظاهر الوقائع والنصوص، ليستنبطوا من واقعة رفض الرسول r رأي صحابته يوم الحديبية، غير الموافق على إمضاء شروط تلك الهدنة، أن الرأي الشوري غير ملزم على الإطلاق، طالما أن الرسول قد اتخذ قراره بقبول شروط تلك الهدنة على علاتها.
وفي كتابه (الإسلام والاستبداد السياسي) يستعرض الغزالي بالتفصيل ملابسات تلك الواقعة ليؤكد أن بروك القصواء (ناقة الرسول r ) وتقاعسها هو الذي حسم الأمر، فقد "حبسها حابس الفيل"، أي تدخلت الإرادة الإلهية في الموضوع، وأخرجته عن مجال الشورى، واجتهاد الرأي. "ومع أن الرسول كان يقول لأبي بكر وعمر: " لو اتفقتما على أمر ما خالفتكما "، فإنه هنا خالف جمهور الصحابة، لأن المجال قد قطع فيه الوحي، وأصبح لا رأي فيه لبشر... فإذا جاء حاكم مستبد، وافتأت على رأي الأمة، مستشهداً بما حدث في الحديبية، فيجب أن يصفع بحد السيف، لا بباطن اليد، فإن الاستبداد لا يُستشهد له بدليل من دين الله".
وإذا كان (بروك الناقة) والوحي أمراً لا يتعلق إلا بشخص رسول الله r، وبمثل تلك الواقعة، فإنه يكون الاستثناء الذي لا يُجهز على القاعدة؛ ولو كانت الشورى لا تلزم لتراجع رسول الله r عن عزم صحابته بالخروج لقتال الكفار يوم أحد، وهو الخروج الذي كان أحد أسباب الكارثة. ولقد ارتضى رسول الله r دفع ذلك الثمن الباهظ ليؤكد إلزامية الشورى لحكام المسلمين، ونزل القرآن يقر ذلك التصرف النبوي ويشيد به في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ (آل عمران:159). وقد كان تصّرف رسول الله r هو الذي حدد مناط العزم، وهو عزم الجماعة لا الفرد.
حرية التكتل السياسي:
وإذا استقر أن الشورى هي الإطار العام للتداول السياسي، فإن من مستلزمات ذلك أن يتمتع المجتمع الإسلامي بحرية التكتل والتنظيم و (مأسسة) العمل السياسي، وقيام مراكز الأبحاث والدراسات السياسية (Think Tanks) فهل يجيز الإسلام أياً من ذلك؟
إن إجابة الشيخ الغزالي تأتي بالإيجاب... فهو القائل في كتابه (أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية:" كثيراً ما رمقت المعارك الداخلية في تاريخنا الإسلامي ثم حدثت نفسي: ماذا لو أن النزاع بين علي ومعاوية بتَّ فيه استفتاء شعبي، بدلاً من إراقة الدم؟. ولو سلمنا أن الأسرة الأموية تمثل حزباً سياسياً له مبادئ معينة، فماذا عليها لو تركت آل البيت يكونون حزباً آخر يصل إلى الحكم بانتخاب صحيح أو يحرم منه بانتخاب صحيح؟!
قال لي مُتعالم كبير: إن الانتخابات بدعة!
قلت له: وسفك الدم واستباحة الحرمة هو سنة؟!".
فتكوين الأحزاب إذا كان يسمح بالتداول السلمي للسلطة، ويحقن دماء المسلمين، أقرب إلى سنة الإسلام إذن، وإيّما طريق ظهر به الحق فثمَّ سنة الإسلام وشرعه كما ورد في عبارة ابن القيم الشهيرة!
فتكوين الأحزاب هو أحد وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هي وسيلة قد يتعين اتباعها لأنها تيسر أداء ذلك الواجب الكفائي في مواجهة الحكومات التي تتضاعف قوتها في هذا العصر، بالتقدم التقني، وتراكم التسلح، وتوسع المعارف الاستخبارية، بحيث لم يعد يجدي في مواجهتها أمر ونهي يتقدم به أفذاذ لا عضد لهم، ولا عمق تنظيمي يدعم آراءهم ومواقفهم.
وهذه الأحزاب والتنظيمات قد تخطئ أو تصيب، مثلما تخطئ الحكومات أو تصيب، وليس بالضرورة أن تكون أحزاب المعارضة في النظام الإسلامي –كما يدعي بعض المنظرين- أحزابَ نفاق أو إفساد عام!!.