منصـور خـالـد (الغير سـياسي)

 


 

 

 

خطر لي كتابة هذا المقال بعد أن اطلعت – أكثر من مرة - على الكتاب الذي أصدرته لجنة تكريم منصور قبل نحو عامين تحت عنوان " في حضرة غيابهم " تولت إعداده لجنة ثلاثية من الأساتذة الفنان إلياس فتح الرحمن و الشاعر عالم عباس محمد نور والسفير رحمة الله محمد عثمان.
اللغة الرفيعة غير التقليدية التي تستقي من عميق قواميس اللغة العربية وارتفاع السقف العقلي و اتساع الماعون وتنوع المخزون المعرفي و الثقافي الرصين : هذه بعض مما أفاء الله به على منصور من آلاء .. فإن لم تكـن هذه الميزات كافية لوصفه بالعبقرية فما هي المواصفات الإضافية المطلوب توفرها في إنسان ليستحق أن يوصف بالعبقري ؟!
الكتاب صغير الحجم جليل القدر يحوى بعض المقالات الأدبية التي كتبها منصور في رثاء بعض أخدانه و أصدقاء عمره و بعض الشخصيات العامة التي استهوته لخصالها الإنسانية غير العادية أو للأدوار الكبيرة التي لعبتها في الحياة العامة و تقاطعت دروبها مع دروبه في أزمان و أماكن مختلفة : و من هنا جاء عنوان الكتاب " في حضرة غيابهم " .
لعل أهم مقال جاء في الكتاب هو ذلك الذي تحدث فيه دكتور منصورعن اختيار موسم الهجرة ضمن مائة أثر أدبي كان لها أثر مميز على التأريخ الثقافي للعالم منذ أن عرف الإنسان الكتابة انتقاها مائة اديب و شاعر- من بينهم أربعة من الحائزين على جائزة نوبل - و كان هؤلاء المحكمون يمثلون ثقافات العالم المتنوعة و نقل لنا الدكتور في هذا المعنى قول المازني : " الآثار الأدبية الخالدة تزيد الإنسان عراقة في إنسانيته ".
ويذكر الدكتور أن " الموسم " لم يكن الكتاب العربي المعاصر الوحيد الذي وقع عليه الاختيار بل تضام إلى " أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ كما لم يكن الأثر الإفريقي الوحيد الذي انتقاه المحكمون فإلى جانبه كانت " عندما تتساقط الأشياء " للكاتب النيجيري شنوا أشيبي. و يعقب دكتور منصور هنا بقوله : ( إن كان " الموسم " يعبر عن قلق وجودي عميق فإن قرية أشيبي في " تتساقط الأشياء " هي رمز لأزمة لم تعان منها نيجيريا وحدها بل تتكرر في كل قطر في القارة .. فالأزمة تبدأ دوماً عندما يتساقط القديم قبل ، أو دون ، أن يولد الجديد ) .
و يواصل اتحافنا بالإشارة للآثار الأدبية التي اختيرت مع موسم الهجرة ضمن المائة في مقاله ( الزين يغيب عن عرسه ) الذي أعتبره أجمل مقالات الكتاب فيذكر منها : الكوميديا الإلهية ، فاوست ، هاملت ، لير ، عطيل ، أوديب ملكاً ، يوليسس ، أوراق العشب ، الأمال العراض ، الغرور و التحيز ، المحاكمة ، مائة عام من العزلة . و لا يكتفي بذكر أسماء تلك الآثار و أسماء مؤلفيها بل يذكر أسباب اختيار كل واحد منها كما يشير من جهة أخرى إلى أنه كان لرائعة الطيب صحاب من أروع نصوص الأدب العرفاني : المثنوي لجلال الدين الرومي و أريج البستان للسعدي الشيرازي . ويضيف: ( تلك صحبة تزهي " الموسم " كما يزهي الطل الورود ) .
و في مقالات أربعة عن الدكتور إحسان عباس بعنوان " سادن التراث و شيخ المحققين " يطوف بنا دكتور منصورعلى الاسهام الأدبي الكبير للدكتور إحسان في السودان و في غيره من الأقطار العربية . فيقول: ( إحسان لم يكن فقط أديباُ مطبوعاً و محققاً ثبتاً رصيناً و إنما كان أيضاً ذا قدرة فائقة على ترجمة النصوص الأجنبية ومن أضخم الكتب التي قام بترجمتها قصة هيرمان ميلفيل " موبي ديك " التي تعتبر من روائع الأدب العالمي و التي قال عنها برنارد شو" منذ عرف الإنسان كيف يكتب لم يوجد قط كتاب مثل هذا .. وعقل الإنسان أضعف أن ينتج مثله " ) . لقد اتاحت لإحسان المرحلة الأخيرة من حياته- المرحلة العمانية – فرصة لأن يسترد شيئاً من عافيته خاصة وقد كان في تلك الفترة محل رعاية أمير أريب ثاقب الفكرهو الحسن بن طلال. مع ذلك ما برح الحزن و اليأس ينتبران من صفحات رسائله. قال عن عمان التي التقي فيها صحابه القدامى الأفذاذ (إن مكاناً ضم جميع هؤلاء لمكان طيب و إن زماناً جاد علي بصداقتهم لزمان كريم معطاء.. و حين أجدهم جميعاً من حولي لا أحس أني مهيض الجناح و لا آسى على أني تأخرت في الأجل حتى أدركت هذه الحقبة المظلمة في تأريخ أمتي و أنا عاجز عن تقديم أية خدمة إليها " .. يعلق د. منصور :
( الجملة الأخيرة اختصار مؤس لحياة أديب عبقــري عاش العمر كله يبحث عن الجوهـر الإنساني في البشر و قبض ولما يعثر عليه ) .
عود على بدء : قلت أن أروع ما في هذا الكتاب هو مقال " الزين يغيب عن عرسه " لذلك أرى أن من المناسب أن أقتبس بعضاً مما ذكر د. منصور عن فكر و أسلوب الطيب صالح :
( قلة هم الذين يستطيعون وضع بلادهم على خارطة الأدب العالمي بكل ما في أهلها من تمزق وجودي يعترف به البعض و ينكره الآخر و استماتة للحفاظ على مناقب الخير التي ورثوها أو ظنوا أنهم ورثوها و بكل ما فيها أيضاً من فحولة و استخذاء و آمال و خيبات. لا يحسن

القراءة من لا يرى ما في أقاصيص الطيب و رموزه من رسالات الرفض و التحدي و الانتصار للإنسانية.. حنى الدومة أصبحت عند الطيب رمزاً للتحدي و الرفض .. و لعل اتخاذ تلك الشجرة محوراً لنضال جبار أبلغ في تعبيره عن اتخاذ كافـكا للقلعة محوراً للحياة و النضال في قريته البوهيمية . ) و في موضع آخر : ( هو نفس الزول الذي عرفته في سني الدراسة و خبرته من بعد في لندن حيث ظللت أختلف عليه و رفيق دربه صلاح أحمد في كهف كان يأويهما يكثران فيه القرى على الأضياف بوجه خصيب . من ذلك الكهف خرج لنا طيب آخر بعد أن غرق إلى أذنيه في المجتمع الجديد الذي اختار لمقامه و صارت له فيه رفقة و صهرة دون أن يتأنجل .. لم ينض الوطن أبداً عن ذاكرته وعن قلبه و هذا العمق في الجذور لم يمنعه من الإفادة من ذلك المقام .. و لعل من أهم ما افاد : إرهاف وعيه الجمالي على إرهاف ، و تعميق شعوره الإنساني على عمق ) .
لعل أطرف ما في ( في حضرة غيابهم ) تلك المقارنة التي أجراها د. منصور بين قصتي " أولاد منتصف الليل " و " الآيات " لسلمان رشدي حيث يقـول د. منصور أن الأخيرة يشوبها الإفتعال و لهذا يعتري نسيجها الوهن : فليت الذين يبغضون رشدي لتفحشه في الآيات لاموه على ضعفها الداخلي - فالأديب يحاسب على رداءة أدبه .. و ليتهم فعلوا معه ما فعله العامي الروماني بسـينا الشاعر في رواية يوليوس قيصر:
العامي : مزقوه إرباً فهو واحد من المتأمرين.
سينا : أنا لست متأمراً .. أنا سينا الشاعـر .
العامي : إذن مزقوه إرباً إرباً لشعره الردئ !!

*****
الخرطـوم في :
2 مارس 2018 م


abasalah45@gmail.com
>

 

آراء