من المسؤول عن الانفصال ؟ (ردود، حلقة 4)

 


 

 

mohamed@badawi.de

ألا في سبيل المجدِ ما أنا فاعلُ ٭ عفاف وإقدام وحزم ونائلُ (أبو العلاء المعرّي)

ماذا كان يجب لبنود نيفاشا أن تعطي أكثر مما أعطته لإبقاء الوحدة ولِلمّ الشمل؟ ولماذا لم يستطع، لا قطاع الشمال ممثلاً في شخصية أمينه العام ولا حتى حكومة الإنقاذ، من وقف الزحف الانفصالي داخل الحركة الشعبيّة؟ يمكننا انطلاقا من السؤالين السابقين أن نطرح سؤالا فاصلاً: ما هي مجهودات قطاع الشمال التي قام بها للتنفير من فكرة لم يتبناها الزعيم قرنق ولجعل وحدة الشماليين والجنوبيين جاذبة؟ لا يمكن أن نرمي كل اللوم على الإسلاميين وحدهم في التفريط في وحدة السودان ولكل من القوى السياسيّة التي شاركت وابرمت الاتفاقيات مع أطراف النزاع تحمّل المسؤوليّة. وليس باقان أموم وحيداً في تصوره وحبه للانفصال فلقد صرّح سلفاكير مراراً عن رغبته القويّة في الانفصال. فجعل يسخر كل جهوده حتى قبل الاستفتاء لهذا الهدف. نشرت جريدة الشرق الأوسط (٩/١/٢٠١١ عدد ١١٧٣٠) لقاءاً مع باقان أموم يقول فيه: (لقد أعطت اتفاقيّة السلام الشامل، التي وقعناها مع المؤتمر الوطنيّ، الأولويّة لخيار الوحدة على أساس أن تكون جاذبة لجنوب السودان خلال ال٦ أعوام من عمر الفترة الانتقاليّة). وأوضح متحدثا لشعب الجنوب قائلا: (وهي المسؤوليّة التي يجب عدم المساومة فيها. إذا أردتم الحريّة فإن أصواتكم هي التي سوف تحرركم من سوء المعاملة؛ لذلك يجب على مواطنينا الذين سجلوا أسماءهم ألا يفوتوا فرصة الإدلاء بأصواتهم في اليوم الأول ويجب أن نشجعهم على الذهاب لمراكز الاقتراع، وإذا كنت تسكن في المدينة وسجلت اسمك في قريتك فالرجاء الذهاب إلى هناك للإدلاء بصوتك) وشدد على أنه سيذهب للتصويت (ولو أمطرت السماء نيرانا).

في غضون الفترة الانتقاليّة كانت تهيأ الحركة الشارع في الجنوب لإعلان الدولة الوليدة التي طالما حلموا بها. نحن نجد أثناء الفترة الانتقالية أن قيادة الحركة الشعبيّة ومن بينهم السيد ياسر عرمان لعبوا دوراً هاماً ورئيساً في إثارة المعضلات والعقبات، فاتسمت تلك الفترة بالعراك الحاد لدرجة أخلّت بالبرامج التي تم تنسيقها لصالح الوحدة. فكان أعضاء الحركة الشعبية يضعون العقبات تارة باسم الحريات وتارة "بسياسة الكرسي الفارغ"، التي اتبعها سلفاكير إذ أنه لم يعير المنصب الذي أدخله القصر الجمهوري ولا المهام التي أوكلت إليه أي اهتمام. فكان قلبه قد رحل سلفا إلى ملكه الجديد وأحطّ به. كيف يرفض نعمة الاستقلال في دولة هو القائد الأول فيها، والآمر والناهي وبيده مفاتح الحكم وصولجانه؟ لذا سخّر كل اهتمامه لهذا الهدف ومثله فعل الآخرون. فسياسة الكرسي الفارع كانت تقتضي انسحاب وزراء الحركة الشعبية التكتيكي من الحكومة المركزية، سيما بعد وفاة جون قرن، لوضع الشريك في موقف حرج يجبره - تحت ضغط حلفاء الحركة الأقوياء من الخارج - المثول لرغباتها الجامحة في تحقيق التقدم في المفاوضات والانفراد بحصّة الأسد، حتى بلغت اتفاقية نيفاشا أجلها الأخير في ٢٠٠٥ والتي اقتضت إجراء استفتاء أهل الجنوب في ٩ يناير ٢٠١١. وببلوغ هذه الغاية تحقق الحلم الذي انطوى على قلوب قيادة الحركة وأسرّته في صمت وكتمان طيلة الفترة الانتقالية.

في هذا الصدد كتبت جريدة المصري (٢٤/١/٢٠١١): (كان عرمان بشخصه نموذجاً وحدويّاً (...) التحق بالحركة الشعبيّة ومارس السياسة وخاض الحرب جنباً إلى جنب مع مقاتلي الحركة الجنوبيين. كان الهدف هو سودان واحد يتسع للجميع. عرمان نموذج انساني للعائلات الهجين في السودان، فهو أب شماليّ لابنتين من أم جنوبيّة، هي ابنة أحد سلاطين قبائل الدينكا، أي أن ارتباطه العائلي ومصالحه الشخصيّة، إلى جانب انتمائه الفكري والسياسيّ، تتجه نحو دعم مشروع "السودان الواحد" ورفض التفتت والتقسيم. كان عرمان مشروع توافقي وحدوديّ يحمل خطاباً تصالحيّاً يجمع ولا يفرق، لكنه خذل أنصاره وانسحب، والأرجح أن انسحابه كان عبر اتفاق بين البشير وسلفاكير على الانفصال، بعد أن حسم كل منهما خياراته وقرر الانتصار للأيديولوجيا على حساب الخريطة الجغرافيّة.)

وكما تشير جريدة المصري (أن لحظة إعلان الحركة الشعبيّة سحب مرشحها من سباق الرئاسة هي اللحظة الحقيقيّة لإعلان الانفصال، لذلك لا يثقون كثيراً في ياسر عرمان، حين يبشّر بوحدة جديدة، بعد أن فشل هو وكل التيار الذي يمثله داخل الحركة في كبح جنوح الانفصاليين في الجنوب نحو التقسيم، وتحالفهم مع نظام الحكم الانفصاليّ في الشمال، الذي بارك ذلك).

وبعد أن فشلت خطة الحركة الشعبيّة الجنوبيّة في فرض مشروع زعيمها الراحل جون قرنق المتعلق ب(سودان علماني موحّد) وسعيها للانفصال، لم يمنع قطاع الشمال من السعي في تنفيذ ما بقي من المشروع في السودان الشمالي. لا أحد يغالي أن السيد ياسر عرمان رجل مناضل ووطنيّ يحبّ بلده، ويفني سِنيّ شبابه لتحقيق رؤاه ومبادئه من أجل رفعة الوطن. ولست أنكر أن له شعبيّة بين أهل السودان سيما من أهل الهامش (اصطلاحهُ). لكنه، يا أخوتي، في الأول والآخر ما هو إلا ابن آدم، مثلنا، من لحم ودم، يصيب تارة ويخفق تارة أخرى، مثله مثل كلّ سياسييّ الكرة الأرضية دون استثناء. أكرر مرّة أخرى أنني انطلاقاً من مبادئ الوطنية التي تجمعنا في بوتقة السودان، وطننا الأم، واحتراما لأبجديات حريّة الرأي والجهر به، أحترمه، كما وأقدر مشروعه ونضاله الذي أفنى فيه زهرة عمره. بيد أنني رجل مستقل، لي آرائي وأفكاري ورؤاي الخاصة بي والتي أؤمن بها جلّ الإيمان، وأدافع عنها دون أن أخشى في الله لومة لائم. فلا أغالي إن قلت – وحدث ولا حرج – أنني نشأت منذ نعومة أظافري أجدّف في قضايا السودان، سياسيّة، اجتماعية كانت أم ثقافيّة. نشأت في بطن أسرة اضطرم قلبها بقدسيّة أرض النيلين، إذ كانت تحسّ في كل هنيهة لهواء الوطن وهو يفتّق في نفسها لذّة جديدة، يخفق لها قلبها أيما خفقان، لذلك أبلت في نيل استقلاله أيما إبلاء، كما جادت بالنفيس والغالي في شأن رفعته منذ تلك الحقبة ولغاية اليوم، سواء في السياسة، التعليم أو الدين. هكذا جرى حبّ بلدي في عروقي مذ أبصرت عينايّ الدينا. فأنا يا سادتي، ولا فخر، أنتمي لأسرة عربية سودانية جلابيّة نشأت بهامش من هوامش البلاد، التي تزايلنا من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله ومن بحار شرقه إلى كثبان غربه. لذا تراني أحترم المبادئ التي ينهض به عرمان، لأن لي مبادئي الذاتيّة، فأنا أنهض أيضا بقلمي وجهدي المتواضع كمواطن حرّ في رفعة بلدي التي أحبها، وكم أكتأب لرؤيتها في تلك الحال، وهي أشبه بحال المريض في غرفة الإنعاش المكثفة. أجاهد بقلمي - كما علّم الله الانسان بالقلم - وبما حباني به الله من رؤى ومعرفة دون أن أنتمي لجهة ما أو أنتظم في صف من صفوف قوى المعارضة.

إنني أشارك المواطن السودانيّ في الرأي أن المخمصة والمذلّة التي يعيشها منذ عقود يجب أن تنتهي. فاسمحوا لي أن استدلّ بأبيات لأبي العلاء: ألا في سبيل المجدِ ما أنا فاعلُ ٭ عفاف وإقدام وحزم ونائلُ). فما أرجوه أن يكون سراطنا الاحترام المتبادل - رغم البعد الإيديولوجيّ والتباين المعرفي في فهم الحقائق – فتلك لعمري نقطة انطلاق حوار بنّاء نتبادل فيه الرأي وربما تتلاشي به الظنون والأحكام المسبقة بين جلابييّ الهامش ومهمشيّ الوسط.

 

آراء