من: موسوعة تاريخ العالم: عصر الثورات (1750 – 1914م) الحركة المهدية في السودان

 


 

 

من: موسوعة تاريخ العالم: عصر الثورات (1750 – 1914م)
الحركة المهدية في السودان The Mahdiyya Movement in Sudan
أيرس سيري – هيرش Iris Seri-Hersch
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير يلخص تاريخ الحركة المهدية في السودان، نُشِرَ في "موسوعة تاريخ العالم"، العصر السابع: عصر الثورات " في ثلاثة أجزاء عام 2009م (1).
تعمل سيري – هيرش أستاذةً مشاركة لدراسات الشرق الأوسط الحديثة، في جامعة إيكس - مارسيليا بفرنسا. وهي متخصصة في تاريخ السودان الحديث، وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عدداً من الأوراق ونشرتها في عدد من الدوريات العالمية. وسبق لنا ترجمة عدد من تلك الأوراق مثل "حول كتاب تاريخ السودان للمدارس الأولية بين عامي 1949 و1958م"، و"التعليم في السودان فِي إِبَّانِ سنوات الاستعمار (1900 – 1957م)؛ ومقالات متنوعة أخرى مثل مقال "مناهضة جار مسيحي: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) في عهود المهدية الأولى"، و"إعادة التفكير في الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله". وكانت الكاتبة قد فازت في عام 2013م بجائزة معهد الدراسات الإسلامية والعالم الإسلامي لأفضل أطروحة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي.
قد لا يخلو هذا المقال المنشور في "موسوعة تاريخ العالم"، العصر السابع: عصر الثورات" من اختصار مخل لمجريات أحداث المهدية وتاريخها، ومن تعميم كاسح في بعض المواضع. وتجد فيه أيضاً بعض الاختلاف عما سرده مؤرخون غربيون آخرون مثل روبرت كرامر في كتابه المعنون "مدينة مقدسة على النيل: أم درمان في سنوات المهدية".
المترجم
************* ************ ***********
تشير كلمة "المهدية" في التاريخ السوداني إلى تلك الحركة الثورية التي أطاحت بنظام الحكم العثماني – المصري في بدايات ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأقامت لها حكومةً في السودان استمرت حتى عام 1898م. وكانت مصر (التي كانت إحدى أقاليم الإمبراطورية العثمانية) قد نالت استقلالا ذاتياً على يد محمد علي باشا (1805 – 1848م) قد غزت السودان وسيطرت عليه بين عامي 1820 و1822م. وسعى محمد علي ومن خلفوه للحصول على الموارد المعدنية والبشرية الوفيرة المفترضة في السودان من أجل تمويل مشاريع التنمية والتحديث في مصر، ولإنشاء جيش جديد، ولتطوير المؤسسات الزراعية والصناعية بالبلاد.
وبعد ستة عقود من الحكم الأجنبي، أصاب الضجر والتململ والاضطراب قطاعات واسعة من السودانيين لأسباب عديدة: كان أولها هو أنهم كانوا قد كرهوا اعتماد الحكومة المتزايد على الأوربيين المسيحيين من أمثال صمويل بيكر (الذي حكم الاستوائية بين عامي 1869 و1873م)، وشارلس غوردون، الذي حكم الاستوائية بين عامي 1874 و1876م، وتولى حكمدارية السودان بين عامي 1877 و1880م. وكان الخديوي إسماعيل باشا هو من عين ذَيْنِكَ الضابطين البريطانيين من أجل توسيع رقعة السيطرة العثمانية – المصرية في مناطق أعالي النيل الأبيض، والعمل على منع تجارة الرقيق.
وكان ثاني تلك الأسباب هو أن الضرائب والمكوس (الباهظة) التي فرضها الحكم العثماني – المصري قد أفضت لمجاعات ونقص في أعداد السكان وتهجريهم، في حين أن نمو مدن مثل الخرطوم والأبيض شكل تحدياً اقتصادياً للمراكز الحضرية القديمة في مدن مثل سنار وود مدني وشندي.
أما السبب الثالث فقد كان كثير من السودانيين (وأهمهم التجار من رجال قبائل الجعليين والدناقلة وغيرهم) الذين كانوا قد انتقلوا إلى مديرية كردفان بسبب ضغوطات مالية، واعتماد مزارعي المناطق النيلية على عمل المسترقين، قد عارضو مساعي الحكومة لمنع تجارة الرقيق المربحة.
وكان السبب الرابع والأخير هو أن زعماء الطرق الصوفية كانوا قد كَرِهُوا وجود علماء الأزهر القادمين من مصر، وكذلك علماء أهل السنة الآخرين القادمين من غيرها بالسودان، الذين كانوا يعملون في سلكي التعليم والقضاء الشرعي. وكان زعماء الصوفية يرون في هؤلاء تهديداً لسلطتهم ونفوذهم. وكان السودانيون الذين يدينون بالولاء لتلك الطرق الصوفية (مثل الختمية والسمانية والمجذوبية والإسماعيلية) قد أحسوا بالوحشة والنفور والانعزال عن ذلك الإسلام الأشد التزاما بالمسائل العقدية / المُعْتَقَدِيّة، الذي كان يقوم العلماء المصريون (وغيرهم) بتعليمه والدعوة له بين السودانيين.
لذا، فإن محمد أحمد بن عبد الله (المولود في 12 أغسطس 1844م في منطقة دنقلا، والمتوفي في 22 يونيو 1885م في أم درمان) صرح علانيةً في الجزيرة أبا يوم 29 يونيو 1881م بأنه هو "المهدي المنتظر". وانضمت لدعوته أعداد غفيرة من السودانيين، وشرعوا في الاستعداد لقتال قوات الحكومة العثمانية – المصرية. وبحسب تعاليم العقيدة السنية (الشائعة في السودان) فإن من علامات خروج المهدي أن يكون في آخر الزمان ليملأ الأرض (أي العالم) قسطا وعدلاً، كما ملئت ظلما وجوراً، وليبعث الدين الحق من جديد. وكانت سمعة محمد أحمد، بحسبانه شيخاً صوفياً من أتباع الطريقة السمانية، والتوقعات الشائعة بقرب ظهور المهدي (خاصة وقد كانت تلك الأيام قريبة من بدء العام الهجري 1300هـ (الموافق لعامي 1882 – 1883)، قد ساهمت في جعل فكرة ظهور المهدية بالبلاد أمرأً شائعاً ومتوقعاً في أوساط السودانيين. وفي أقل من أربع سنين تمكنت الحركة المهدوية من السيطرة على معظم مناطق السودان، واحتلت الخرطوم، عاصمة الحكم العثماني - المصري في 25 يناير 1885م.
*********** *************
كيف استطاع محمد أحمد أن يضفي الشرعية على سلطته؟
زعم محمد أحمد أنه خليفة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) بناءً على رُؤًى للرسول. وبينما كانت سمعة محمد أحمد بحسبانه أحد شيوخ الطريقة السمانية قد ساعدته على كسب العديد من الأتباع، كانت استراتيجيته المركزية التي استخدمها لإضفاء الشرعية على سلطته هي صياغة حركته على أساس نموذج الإشارة التاريخية إلى أصحاب الرسول الأوائل في المدينة المنورة، فهاجر إلى قدير (في نوفمبر 1881م)، وأعاد تمثيل هجرة الرسول من مكة إلى المدينة. ومن بعض أقرب أتباعه إليه عين محمد أحمد ثلاثة خلفاء، في تقليد لخلفاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أول عهد الدولة الإسلامية. وكان خليفته الأول - كحاكم للمهدية - هو عبد الله التعايشي، ولقب بالخليفة الصديق (أبو بكر). وكانت الانتصارات العسكرية المتتالية التي حققها محمد أحمد ضد قوات الحكومة في نظر أنصاره دليلاً آخر على صحة وصدق دعوته المهدية.
********* *********** *********
وفي نفس تلك السنوات الحاسمة، هزت مصر العثمانية في سبتمبر 1881م ثورة / تمرد للضابط أحمد عرابي. وكانت تلك تُعد حركة التمرد القومية الأولية (proto nationalist revolt) (بمعنى الأيديولوجية التي كانت موجودة في بلد ما قبل اكتمال الشعور القومي المتطور. المترجم)؛ واحتلت بريطانيا مصر في سبتمبر 1882م، وفقدت مصر حكم السودان (في يناير 1885م).
لقد رافق التوسع الإقليمي للمهدية إنشاء مؤسسات إدارية وعسكرية وقضائية متنوعة. واختار المهدي بعد سقوط / فتح الخرطوم (في 25 يناير 1885م) حكاما لمختلف أقاليم الدولة المهدية الوليدة. وقسم جيشه إلى "رايات" ثلاث، وأنشأ خزانة للدولة (سماها "بيت المال")، وعين رئيسا للقضاء أسماه "قاضي الإسلام". وقام أيضا بنقل العاصمة إلى أم درمان التي يفصل بينها وبين الخرطوم النيل الأبيض. وعمل محمد أحمد على تركيز كل سلطات اتخاذ القرار في يديه. وأصدر أمراً بتحريم كل الطرق الصوفية، واتهمها بأنها تعمل على تفرقة المسلمين، وأنها غدت عديمة القيمة بعد مجيء حكم المهدية الشامل الذي يستوعب الجميع. وقام أيضا بإلغاء المذاهب الإسلامية التقليدية، وذكر أن قوانين وشرعية حكمه للبلاد يستند على ما ورد في القرآن والسنة و"الإلهام النبوي" (2). وصار حق الاجتهاد حقاً حصريا له وحده. وشملت قوانينه الجديدة تلك تحريم زيارة مقابر الأولياء والصالحين، والموسيقى، وشرب المسكرات، واستخدام التبغ (بأنواعه)؛ وأمر بلزوم النساء لبيوتهن.
وتوفي المهدي في 22 يونيو 1885م (أي بعد خمسة أشهر من سقوط النظام العثماني – المصري في السودان). وخلفه في الحكم عبد الله التعايشي (1846 – 1899م)، الذي عمل على إكمال تحويل هيكلية المهدية إلى كيان "دولة". وواجه في غضون سنوات حكمه (بين عامي 1846 – 1898) الكثير من التحديات الداخلية والخارجية. وعارضه الأشراف (من أقرباء وأنصار المهدي، وهم ينتمون لقبيلتي الدناقلة والجعليين)، وأعلنوا صراحةً عن عدم الاعتراف به خليفةً شرعياً للمهدي، ونظموا ضد نظامه تمردين كبيرين (بين 1885 و1886م، وفي عام 1891م). وكان هذا مما زاد من خشية الخليفة على سلامته الشخصية وبقاءه السياسي، فتزايدت عنده النزعة الأوتوقراطية (الاستبدادية). وقام بتهجير قبيلته التعايشة الرحل بالقوة من غرب السودان، وأعاد توطينهم في عاصمته أم درمان من أجل تقوية قاعدة سلطته وقوته. أما بالنسبة للشؤون الخارجية، فقد سعى الخليفة لتوسيع المهدية من جهتي الشرق والشمال. وأدخلت حروب الحدود تلك السودان في صراع مع أثيوبيا لعدد من السنوات (1885 – 1889م)، حتى قتل الامبراطور جون الرابع في معركة القلابات (مارس 9 – 10 من عام 1889م). وعلى الرغم من أن الجهاد المهدوي كان يستهدف مصر (التي كانت محتلةً من قبل البريطانيين)، إلا أن الكثير من عوائق السياسية والطبيعية كانت قد منعت الخليفة من الهجوم على مصر وأجلته إلى صيف 1889م. ونجحت القوات البريطانية – المصرية في هزيمة جيش المهدية في معركة توشكي (في الثالث من أغسطس 1889م)، وهي الهزيمة التي قضت على طموحات المهدية في توسيع حدود أراضيها شمالاً في مصر. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر تزايدت شدة ضغوط الأوربيين على السودان عبر وادي النيل والبحر الأحمر وأفريقيا الوسطى. وصار البريطانيون يحاربون قوات المهدية من مصر (في الغالب من سواكن)، وتقدم الإيطاليون غرباً من مستعمرتهم في أرتيريا. وسُيرت حملات من "دولة الكنغو الحرة" (3) نحو جنوب السودان، مهددةً مديريتي أعالي النيل وبحر الغزال. وبعد عامين من التقدم جنوباُ عبر النيل، تمكنت أخيراً القوات البريطانية – المصرية من إسقاط دولة المهدية في معركة كرري (في الثاني من سبتمبر 1898م). وتم التوقيع على اتفاق للحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر في التاسع من يناير 1899م، وهو الاتفاق الذي أقر حكم السودان بصورة مشتركة بين بريطانيا ومصر إلى أن نال السودان استقلاله في الأول من يناير عام 1956م.
********** ************
إحالات مرجعية
1. https://www.goodreads.com/book/show/14909028-world-history-encyclopedia-era-7
2. ورد في صحيفة "المجهر السياسي" الصادرة في 7/11/2017م أن المرحوم الصادق المهدي ذكر في مؤتمر عن "إقبال" ﻨﻈﻤﻪ ﺍﻟﻤﻌﻬﺪ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺑﻨﺎﺩﻱ ﺇﺳﻼﻡ ﺃﺑﺎﺩ، أن ﺟﺪه ﺍﻟﻜﺒﻴﺮ لم يصف مهمته ﺗﺤﺖ ﺃي ﻣﻦ ﻣﻌﺘﻘﺪﺍﺕ ﺍﻟﻤﻬﺪﻳﺔ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ؛ ﻓﻬﻨﺎﻙ ﺍﻋﺘﻘﺎﺩ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﺍلاﺛﻨﻲ ﻋﺸﺮﻳﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﺘﻮﻗﻌﻮﻥ ﻟﻺﻣﺎﻡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻋﺸﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺧﺘﻔﻰ ﻗﺒﻞ ﺍﺛﻨﻲ ﻋﺸﺮ ﻗﺮﻧﺎً ﺃﻥ ﻳﻌﻮﺩ ﻣﻬﺪﻳﺎً؛ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍﻋﺘﻘﺎﺩ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴُﻨﺔ ﺃﻥ "ﺍﻟﻤﻬﺪﻱ" ﺳﻮﻑ ﻳﺄﺗﻲ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻭﻛﻼ ﺍﻟﻌﻘﻴﺪﺗﻴﻦ ﻣﺆﻫﻠﺘﻴﻦ ﻟﺮﻓﺾ " ﺇﻗﺒﺎﻝ ". وأضاف: "ﻟﻜﻦ ﺟﺪي ﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺄﻱ ﻣﻨﻬﻤﺎ. ﻟﻘﺪ ﺃﻋﻠﻦ ﻣﻬﺪﻳﺘﻪ ﻛﻮﻻﻳﺔ ﺭﻭﺣﻴﺔ ﺗﻌﺒﺮ ﻋﻦ ﻣﻬﺪﻳﺔ ﻭﻇﻴﻔﻴﺔ ﺗﺘﻔﻖ ﻭﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ، ﻣﻦ ﺣﻴﺚ أﻥ ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﺴﺎﺋﺪ ﻛﺒﻞ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺑﻌﻘﺎﺋﺪ ﺗﻔﺴﻴﺮ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﺒﺮﺕ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﻤﺬﺍﻫﺐ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ، ﺣﻴﺚ ﺃﺷﺎﺭ ﺟدي "ﺍﻟﻤﻬﺪﻱ" ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻣﺬﺍﻫﺒﻬﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻠﺰﻣﺔ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻤﻠﺰﻣﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺍﻟﺴُﻨﺔ . ﻓﺎﻟﻮﺣﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻠﺰﻡ ﻟﻠﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻻ ﺍﻻﺟﺘﻬﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳة". https://rb.gy/6a220
3. كانت دولة الكونغو الحرة Congo Free State منطقةً كبيرةً في وسط أفريقيا سيطر عليها منفرداً ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء