من هو هذا الشمال؟؟

 


 

علي يس
8 January, 2010

 

 

معادلات

 

       ومن آخر الشماليين الذين تحدثوا عن "الظلم" الشمالي الذي وقع على الجنوب ، الشيخ حسن الترابي ، الذي اتهم – ضمن حديثه في المؤتمر الصحافي بشأن مرشح المؤتمر الشعبي لرئاسة الجمهورية - "الشمال" (باتخاذ الجنوب هامشا للموارد فقط لا يعامله بالمواطنة الحقيقية)!! وقبلهُ قال الصادق المهدي حديثاً شبيهاً ، بل تحدث مرة عن "مشروع اعتذار" شمالي ، لمواطني الجنوب لما ألحق الشمال بهم من مظالم واضطهاد.. ولم يقصر الميرغني عن الإشارة ، تلميحاً أو تصريحاً ، إلى أن ظلماً ما قد وقع على الجنوب ، وقبل هؤلاء  وبعدهم ، تحدث شماليون كثيرون، ممن ينتمون إلى أحزاب اليسار وبعض اليمين ، عن مظالم "أوقعها الشمال" بالجنوبيين ..

       لستُ هنا بصدد تصديق ، أو تكذيب هؤلاء (وأنا أعلمُ ، بالطبع ، أن عدم شهودي وقائع الظلم التي يتحدثُ عنها القومُ هؤلاء ، لا يعني أنها لم تقع ) ولكنني أعلم أيضاً ، أنه لا يوجد شمالي واحد من عامَّة الشعب يُمكن أن يُدان بأنه قد (ظلم) الجنوب أو أساء إليه بأية صيغةٍ ممكنة ، وبالتالي فلا شمالي ممن أعرف يمكن أن يعترف بأنه هُو المعني بما يتحدث عنهُ هؤلاء الساسة الأماجد، ولكن حتّى هذه الحقيقة لا تقطع بأن أشياخنا هؤلاء ليسوا صادقين ، فلا يبعُدُ أن يكون هنالك شمالي – أو شماليون – مارسوا ظلماً أو اضطهاداً على الجنوب والجنوبيين ذات يوم ..

       أنا شخصياً مستعدٌّ لأن أُدين وألعن ، وأدعو إلى محاكمة من ظلم الجنوب من الشماليين، فالظلمُ أيَّاً كان ، وعلى أيٍّ من الناس وقع  ، أمرٌ لا يقبله ذو نفسٍ سويَّة .. ولكن ..

       الشماليون قضوا ثلثي عمر دولتهم المستقلة تحت الحكم العسكري الذي (لا يُشاور أحداً) ، وقضوا الثلث الآخر تحت عهودٍ من الفوضى والتخلف المسمى "ديمقراطية" والتي كان يهيمن على الحكم فيها البيتان الطائفيان اللذان يعترف قطباهما اليوم بحقيقة الظلم الذي وقع على الجنوب .. والشيخ الترابي شكل حضوراً مميزاً على دست الحكم أو قريباً منهُ ، سواءً في عهود الديمقراطية أو في العهود العسكرية ..

       ولو كان المتحدثون أعلاهُ اعترفوا صراحةً ، على أنفسهم بأنهُم هُم الذين ظلموا الجنوب ، أو شاركوا في ظلمه ضمن آخرين ، لصدقناهم ، ولرجوناهُم أن يكشفوا لنا أسماء شركائهم من الظلمة .. بل لو أنهم برَّأوا أنفسهم وذكروا لنا أسماء أولئك الظالمين لكانت المسألة جديرةً بالمناقشة والتحقيق ..

       ولكن القوم ، الذين ربما كان بينهُم حقَّاً من ظلم الجنوب ، يتخذون من "الشمال" المعرَّف بالألف واللام ، درعاً يلقون عليه بالتهمة ، بينما هُم يعلمون جيداً أن الشماليين الذين يتحدثون باسمهم ، لم يكونوا في موقع يتيح لهم – وإن أرادوا – ظُلم الجنوب ، ولم يفوِّضوا أحداً بأن يظلم الجنوب نيابةً عنهُم !!بل إن  تسعة وتسعون بالمائة من الشماليين لم يروا الجنوب بأعينهم !!

       أحيِّي كثيراً ، وأصفِّقُ كثيراً ، لأي سياسي شمالياً كان أو جنوبياً ، يعترِف بأنهُ ، ذات يومٍ من أيام سُلطانه ، قد ظلم أحداً أو قوماً ، من الشمال أو من الجنوب، وأنهُ مستعدٌّ للإعتذار لمظلوميه أو لاسترضائهم ، فالذي يجرِّمُ نفسهُ أو يُحاسبها لن يجد من يقولُ له : ( أنت كذَّاب) ، وحسبُ المرء فضيلةً – في زماننا هذا – أن يبرأ من الكذب، وفي الصدق كثيرٌ مما يشتبه بالكذب ، ومنهُ خصوصاً ذلك الصدق الذي لايسُدُّ رمقاً ولا يحق حقَّاً ولا يبطِلُ باطلاً ، مثل قول بعض الساسة ، في سياق المزايدة السياسية واستمالة الجنوبيين : (الشمال ظلم الجنوب) أو اضطهدهُ ، أو استغلَّهُ ، فإن كانوا أرادوا إحقاق حقٍّ أو أبطال باطلٍ ، لذكروا أعيان المجرمين الذين ظلموا الجنوب ، بأسمائهم ، ولذكروا نوع الظلم الذي اجترحوه، ثم لدعوا إلى محاكمتهم ورد المظالم منهم ..

       ولكنهُم ، يا شيخ ، يقولون لك ، وكأنهم يتحدثون عن ظالمٍ أسطوريٍّ لا يُمكن تحديد أبعاده ولا الوصول إليه : ( الشمال اضطهد الجنوب وظلمهُ ) فإن حاصرت أحدهُم ، قال لك إنهُ يتحدث عن مظالم "تاريخيَّة"!! فإن سألتهُ عن ماهيَّة هذه المظالم التاريخيَّة ، وعن مجترحيها ، من هُم ؟ وعن ريعها ، على من عاد ؟ سكت القوم !!

       من يكونُ ، يا تُرى ، هذا (الشمال) الذي يتحدث عنهُ القوم ويُجرِّمُونهُ ويُلقُون عليه بالتهم ؟؟ وهل هُو حاضرٌ أم غائب؟؟ حيٌّ أم ميِّت ؟؟

ali yasien [aliyasien@gmail.com]

 

آراء