(مهارب المبدعين) .. أو عصبة الهاربين من ذكائهم (1-3) … بقلم: عادل الباز

 


 

عادل الباز
1 August, 2010

 

أهدت (دار مدارك) للنشر - أميز دور النشر السودانيَّة - للمكتبة السودانيَّة هذا العام أكثرَ من عشرة عناوين متميزة، أميزها كتابي الأستاذ المحبوب عبد السلام (العشرية الأولى - دائرة الضوء  وخيوط الظلام) و(مهارب المبدعين - قراءة في السير والنصوص السودانيَّة) للدكتور النور حمد. يشرفني أن أُقدِّم للقارئ سفراً بديعاً غير مسبوق في مجال الدراسات السودانيَّة والنقد الأدبي بذل فيه أستاذنا النور حمد جهداً عظمياً في البحث والتقصي والتحليل المبصر لظاهرة لم يتوقف عندها النقاد بما تستحق من نقد وتحليل، وهي ظاهرة امتدت بتأثيراتها للأدب والثقافة والاجتماع والسياسة, هي ظاهرة هروب المبدعين.
في هذه الحلقة سنسعى لتقديم ملاحظات عامة حول هذا السفر البديع ثم نغوص عميقاً في بحر المؤلف: النور حمد لنرى كيف استطاع هذا الناقد العالم توظيف معارفه الموسوعيَّة في تحليلِ ظاهرةِ هروب المبدعين السودانيين وسبر أغوارها.
ما يلفت النظر في بداية سفر (مهارب المبدعين) هو التصدير البديع والشامل الذي قدَّم به الأستاذ عبد الله البشير الكتاب، وهو من أكثر الباحثين عمقاً ودراية في مجال الدراسات السودانيَّة الحديثة. شكَّل التصدير إضاءة شاملة للخفليات الثقافية التي صدر عنها النص وقدم قراءة شاملة للإشارات السابقة الخاصة بموضوع الكتاب في البحوث والكتب التي صدرت من قبل فقدم إضافة معرفية رافداً القراء بمصادر أخرى لدراسة ظاهرة هروب المبدعين. والملاحظة التي نسجلها على تصدير عبد الله هي الإطالة التي اتسمت بها والتي استغرفت (50) صفحة من جملة (370) صفحة صدر فيها الكتاب. لعل سعة المعرفة أغرت عبد الله بالتوسع وكان يمكن أن يختصر التصدير ولكن هذا لا ينقص من قيمته وإضافته التي قدمها في إضاءة النص.
ما ميَّز مهارب المبدعين هي رحلة البحث والتقصي الشاملة التي قام بها الكاتب لأجل الإلمام بموضوعه، ولعله استغرق سنوات للإحاطة بموضوع بحثه في الكتاب. وقد أحصيت أكثر من مائتي عنواناً ووثيقة استخدمها الكاتب كمراجع في تتبعه لظاهرة هروب المبدعين  وهذه ظاهرة نادرة في دراساتنا الحديثة التي غالباً ما تتسم بالعجلة وعدم الصبر على متاعب البحث وتكاليفة الباهظة.
ميزة أخرى هي المناهج التي استخدمها الكاتب في تحليل ظاهرة هروب المبدعين السودانيين من بيئاتهم الاجتماعية الخانقة. فاستخدم الكاتب مناهج علم الاجتماع الحديثة لتفكيك البنى الاجتماعية التي أنتجت أولئك المبدعين؛ ثم عمد للنظر للبيئات الثفافية التي شكَّلت دواخلهم وهي بيئات شديدة التنوع؛ أهمها البيئة الدينية في بعديها الصوفي وآخر أسماه الكاتب بالمؤسسة الدينية العثمانية.... وأخيراً استخدم الكاتب بطريقة مبدعة منهج التحليل النفسي في سبر غور هذا الهروب وآثاره على نفسيات الهاربين وتأثير ذلك على إنتاجهم الأدبي والثقافي، والاستخدام المبدع لهذه المناهج في تحليل عشرات بل مئات النصوص المختلفة، وبمثل تلك الرصانة والعمق ليس متاحاً إلا لقليل من النقاد، فتوظيف تلك المناهج بذلك الشكل الرائع بحاجة لمؤلف موسوعي بقامة النور حمد ومثله قليل.
النماذج الذي قدمها الكاتب ومثلت موضعاً لبحثه كلها جديرة بالدراسة وفق الكاتب في التقاطها من بين عشرات الهاربين الذين تنطبق عليهم ذات المعايير التي اتخذها المؤلف. فمن الشاعر محمد سعيد العباسي إلى محمد المهدي المجذوب الى الناصر قريب الله حتى محمد أحمد المحجوب، كلهم مثَّلوا التعبير الأمثل لظاهرة الهروب بحسب المؤلف في أكمل تجلياتها.
ينوِّه المؤلف لقضية مهمة لما تضمنه الكتاب؛ حيث قال: «إن هذا الكتاب لا يمثل مساءلة أو محاكمة لزمرة الهاربين من جيل الرواد والجيل الذي تلاه... بل محكمة الجوانب السلبية والخانقة في ثقافتنا, وللضعف الذي وسم حياتنا الفكرية والسياسيَّة وقعد بنا عن الإحياء الفكري والثقافي والسياسي... لقد كان (الهاربون) ضحايا لوضع معقد, عجزوا عن مواجهته ونحن اليوم ضحايا لوضع معقد ورثناه وعجزنا عن مواجهته). وبحق لم ينصِّب المؤلف محكمة لأيٍ من المبدعين الذين وضعهم تحت منصة بحثه؛ بقدر ما حاكم البيئة الثقافية والاجتماعية التي قادتهم للهرب دون أن يعفيهم من مسؤوليَّة هربهم وما ترتَّب عليها كما سنرى في الحلقة القادمة.
 

 

آراء