موازنة بين قصيدتين في الرهبة والاعتذار للنابغة الذبياني و كَرْتَن العيّادي !!

 


 

 

Khaldoon90@hotmail.com

أما النابغة الذبياني ، فهو الشاعر الجاهلي الشهير أبو أمامة ، زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر الذُبياني الغطفاني انتساباً ، والقرشي العدناني أصلاً كما يقول أهل العلم بالأنساب. ذلك بأنه جده عوف بن لؤي بن غالب بن فهر ، كان قد خرج من قومه كما يقولون ، ودخل في بني ذبيان الغطفانيين فانتسب إليهم ، وانتسب بنوه من بعده إليهم أيضا.
ولد النابغة في ديار نجد من جزيرة العرب في حوالي عام 535م وتوفي في نحو عام 604م ، أي قبل البعثة النبوية بحوالي سبعة أعوام ، وذلك وفقاً لما جاء في ترجمته بموسوعة ويكبيديا بالشبكة العنكبوتية . وأما ما جاء عن سبب تلقيبه بالنابغة ، فقد وردت فيه عدة آراء لخصها محرر الترجمة المذكورة آنفاً فيما يلي:
" النابغة لُقّب بهذا اللقب لأنه نبع في الشعر أي أبدع في الشعر دفعة واحدة. واختلف النقاد في تعليله وتفسيره. أما ابن قُتيبة فيذكر أنه لُقّب بالنابغة لقوله:
فقد نبغَتْ لهم منّا شؤونٌ
وحلّتْ في بني القيْنِ بن جِسْرِ
وردّ ابن قُتيبة هذا اللقب الى قولهم: " ونبغ بالشعر قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر ". وفي رأي البغدادي، أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربما كان اللقب مجازاً، على حدّ قول العرب: نبغت الحمامة ، إذا أرسلت صوتها في الغناء ، ونبغ الماء إذا غَزُر. فقيل: نبع الشاعر ، والشاعر نابغة ، إذا غَزُرت مادة شعره وكثُرت ".
مهما يكن من أمر ، فقد أجمع النقاد على أن النابغة قد كان أحد شعراء الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية ، أي طبقة امرىء القيس ، وزهير بن ابي سلمى ، ولبيد بن ربيعة ، وطرفة بن العبد وأضرابهم. ومما يدل على سبق النابغة وتقدمه في مجال الشعر ، ما ذكره النقاد الاقدمون كالاصمعي وغيره من أنّه كانت تضرب له قبة حمراء من أدم في سوق عكاظ ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها ، وربما حكم فيما بينهم. وقد روي عن أبي عبيدة قوله في تفضيله شعر النابغة على أشعار غيره قوله: هو أوضحهم كلاماً ، وأقلهم سقطاً وحشواً ، وأجودهم مقاطع ، وأحسنهم مطالع ، ولشعره ديباجة.
هذا ، وللنابغة قصيدة يعدها النقاد من المعلقات السبع، أو العشر في قول ، وهي التي مطلعها؛
يا دار ميّةَ بالعلياءِ فالسّنَدِ
أقوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأمَدِ
على أن النابغة قد اشتهر بصفة خاصة باتصاله اولا بملوك المناذرة عموماً في العراق ، وعلاقته الخاصة جدا بالملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء ، ومدحه اياه ، ثم فراره من وجهه والتجائه الى ملوك المناذرة بالشام ، ثم عودته مرة أخرى الى أحواز ملك المناذرة بنجد والعراق، خائفاً ومعتذراً شعراً للملك النعمان ، ذلك الشعر الذي سارت به الركبان باعتباره النموذج الارفع لشعر الرهبة والاعتذار في الشعر العربي بصفة عامة.
وقد حفظت لنا كتب الادب العربي رواية ذائعة الشيوع تدلّ على ذلك ، هي ما حكاه الأصمعي فيما رواه عن أبي طُرفة اذ يقول: كفاك من الشعراء أربعة: زُهيرٌ إذا رغب ، والنابغة إذا رَهِب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كَلِب الخ .. ويضيف بعضهم: وامرؤ القيس إذا رَكِب.
أما أشهر اعتذاريات النابغة للملك النعمان بن المنذر ، فهي قصيدته التي مطلعها:
أتاني أبيتَ اللّعْنَ أنّكَ لُمْتَني
وتلكَ التي أهْتَمُ منها وأنصِبُ
ومناسبتها أن النابغة كان ينادم الملك النعمان ، وقد اصطفاه النعمان وقربه اليه وفضله على الشعراء ، فحسده الحساد ووشوا به الى النعمان ، فهرب النابغة الى الشام فاتصل بالملوك الغساسنة اعداء النعمان ، ومدحهم فأكرموه. ولكنه كان يحب النعمان حبا شديداً ، ولم يطق البعد عنه ، فرجع الى الحيرة على خوف من النعمان ، فأنشأ هذه القصيدة في الاعتذار والتبرّؤ مما نسب اليه من تهم.
قال النابغة:
أتاني أبيتَ اللعنَ أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصبُ
فبتُ كأنّ العائداتِ فرشن لي
هراساً به يُعلى فراشي ويقشبُ
حلفتُ ولم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء اللهِ للمرءِ مذهبُ
لئن كنتَ قد بُلغتَ عني خيانةً
لمبلغك الواشي أغشّ وأكذبُ
ولكني كنتُ امرءاً لي جانبٌ
من الارض فيه مسترادٌ ومطلبُ
ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما أتيتهمْ
أحكّمُ في أموالهم وأقرّبُ
كفعلك في قومٍ أراك اصطنعتهمْ
فلم أرهمْ في شكر ذلك أذنبوا
فلا تتركنّي بالوعيد كأنني
إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجربُ
ألمْ ترَ أنّ الله أعطاكَ سُورةً
ترى كل ملكٍ دونها يتذبذبُ
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
إذا طلعَتْ لم يبدُ منهنّ كوكبُ

وشرح المعنى العام لهذه الابيات هو باختصار:
بلغني أيها الملك انك لمتني ، ولومك لي وغضبك مني اصابني بالهم والتعب. فصرت بسبب ذلك كالمريض الذي صار فراشه الشوك فكيف ينام ؟. وقد حلفت لك بالله وهو غاية القسم، حتى أزيل الشك الذي في نفسك تجاهي. فلئن بلغك الوشاة الحاسدون اني قد خنتك، فإن هولاء الوشاة النمامون هم أكثر غشاً وكذبا. وكل الذي حدث انني رجل كنت اعيش في متسع من الارض وهو يعني مملكة الغساسنة بارض الشام التي بها ملوك واخوان لي قربوني وجعلوني اتصرف في اموالهم ، كما تفعل انت ايها الملك مع مادحيك ، فهل عليهم ذنب اذا مدحوك كما مدحت انا ملوك الشام ؟ ثم قال له يستعطفه: لا تتوعدني وتهددني فأهرب وحيداً بعيداً عن الناس فيتحاشونني مثل الجمل الاجرب المعزول عن الابل حتى لا يعديها .. الخ.

أما الشاعر كرتن العيادي ، فهو شاعر بدوي سوداني ينتمي لقبيلة المجانين فرع العيادية ، التي تقطن بشمالي غرب كردفان الكبرى. اسمه كما يقول الرواة هو: حمد حمدان كَرْتَن ، والراجح أنه قد عاش خلال النصف الأول من القرن العشرين ، وعاصر ناظر تلك القبيلة الشيخ جمعة سهل 1880 -1953م.
ويبدو ان الشاعر كرتن قد كان في شبابه طائشاً وعابثاً نوعاً ما ، ذلك بأنه قيل انه لم يتورع من هجاء الشيخ الوقور جمعة ود سهل نفسه ، فخشي على نفسه من عاقبة صنيعه ذاك ففر من وجه الشيخ جمعة و " نجع " باسرته الى دار حَمَر.
وبالرغم من ذلك ، وجّه ذلك الرجل الحليم سيد قومه وذو الصدر الواسع ، من يذهب اليه من رجال القبيلة لكي يحملوا اليه الامان منه ، ولكي يقنعوه بالعودة الى ديار قبيلة المجانين ، خصوصاً لأنه كان اباً لبنات ، فخشي أن يتزوجن بعيداً عن مرابع أهلهن.. فتأمّل !
وهكذا عاد الشاعر كرتن كما عاد النابغة من قبل ، تائباً معتذراً ، وفي نفسه رهبة ووجل من مغبة فعلته التي فعل. فما كان منه إلا أن نظن هذه القصيدة الاعتذارية التي خاطب فيها الشيخ جمعة ود سهل ، واستعطفه فيها لكي يعفو عنه. وهي قصيدة ذاع صيتها، وسارت بها الرُكبان في بوادي كردفان وقراها. وهاهو نص القصيدة:

حبابك مرحبابك يكره الياباك
يا ناظر البلد شينه القبيله بلاك
فات زار المدينه ولامس الشباك
رب العرش العظيم من الظنوب نجاك
وياملبوس بناتنا الدخري لي الحارات
يامنشار الحديد الباكل العتلات
ودعيقه الكسر ظيله علي اللوراك
دقاش لي رفيقه ولي الشدر عراك
دابي المورده أبو نايبا بعيد جياك
البوبح بعيدسيد أم شراع باباك
بدورك لي حدار البل زراف بوحات
خيالهن لوبن ولفن علي الحوات
الحاوتهن قال يسوقهن في المبارك مات
جليس أبان برانيط منزل التراك
أبوجابر بلاك مين بضبح الجزرات
اجوادا مخلصا قلبك بلا إشراك
أهلا مرحبا ياحضرة الاستات
يشيل الليل عباده يألف الركعات
حزب السيف حجابه وتحصينه بالقافات
ماكر عجوبه وماشرب تمباك
كان ما الحكم بطروك في السادات
ناس الميرغني وناس الشريف بركات
صرفولك عساكرة وتسعه امباشات
وحدين قرمصيص وحدين أبو عشرات
الدنيا ياسيدنا سروجها ميالات
كم شالت وظيفة التافر امبايات
مابدوم الحكم ومابدومن الدولات
كان دام الحكم ودامن الدولات
كان دامن للنبي سليمان قبل ما مات
ما نادي الجبال جن ليهو متقطرات
وما ملك الهبوب وسوالها عصارات
وما نتر الطيور في السماء راسيات
سويتني اني قصد ناظر القبيلة وراك
كان مابلاي اني زولا مسحب جاك
تحمل البسيط وقولي خاطري معاك
والكلمه القبيل خليها في الفايتات
نقعدو في الواطاه ونتغافروا السيات
نتركو القديم ونندم علي المافات
خليتني اني كيف صيدة الشراك
دارجها الدقل ودبلها في اللوراك
وكل ماغفيت قالولي اقلع جاك
زينتك لاتكون كيف زينة الضرات
يتعايشن جيمع ويتقطعن مع الجارات
السن بي بريقها والبطون غبرات

.. ....كرتن.......

وكنتُ في الواقع ، قد سمعتُ بضعة مقاطع وأبيات يسيرة من هذه القصيدة لأول مرة ، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، وأنا حينئذٍ طالب بجامعة الخرطوم ، أسمعنيها أخونا وزميلنا في الدفعة التالية لدفعتنا بكلية الآداب الأستاذ " ابراهيم ابّكر " ، وهو من أبناء " ام سعدون الناظر " بريفي دار حامد.
وقد أعجبتني جداً هذه القصيدة ، ورواية ابراهيم ابكر لها ، لما آنسته فيها من الجزالة وشدة الأسر ، وأريحية الطبع ، وأصالة التشبيهات والاستعارات ، وخصوصاً ما تميزت به من روح الدعابة والمرح التي اكتنفتها جميعها.
ومن ذلك على سبيل المثال ، تحية الشاعر للشيخ جمعة في مستهلها بقوله:
مرحبتين حبابك الله يكره الباباكْ
يا فيل ام سقادو اللى الشدر عرّاكْ
قلتُ: تشبيه الرجل الفارس بالفيل ، تشبيه سوداني بل " سودانوي " أصيل ، لا نظير له في الشعر العربي كله فصيحه وعاميه. ذلك بأنّ عرب الجزيرة العربية القدامى ، وكثير من العرب المعاصرين لم يشاهدوا الفيل وعركه للأشجار واقتلاعه لها من جذورها ، وإنما هذه صورة واقعية من بحبوحة البيئة الطبيعية السودانية.ذات البعد الافريقي الواضح. وشبيه بذلك لعمري ، وصف صديقنا الشاعر إبراهيم الدلال للخليفة عبد الله رحمه الله ، وثباته في معركة ام دبيكرات التي استشهد فيها مقبلا غير مدبر ، وذلك اذ يقول:
سلْ ام دبيكرات عن صولاتِ فارسها
كالفيلِ يحْرِنُ إذ طاشوا من الفَرَقِ
وجوهرة هذا البيت هو بالطبع الفعل " يحرن " بكل تأكيد ، لجهة التكثيف الدلالي البيّن الذي ينطوي عليه.
وتأمّل تأكيد المدح بما يشبه الذم في وصف كرتن للشيخ جمعة ود سهل بالتدين والورع والصلاح ، التي لو لا أن أثّر عليها تلبّسه بالسلطة والحكم في رأيه، لصار من الاولياء المشهور ين مثل السيد عليّ المرغني والشريف بركات ، وهو قول الشاعر :
كان ما الحُكُمْ يطروكا في السادات
ناس المرغني والشريف بركات
وأما حسّ الفكاهة الواضح في هذه القصيدة ، فيتمثل على سبيل المثال ، في وصف الشاعر الكاريكاتوري لنفسه ، وما كانت تنتابه من هواجس ، فيما لو أن الشيخ جمعة سهل قد ظفر به. فقد صور نفسه بالغزال التي وقعت في حبائل القناص او " الشرّاكي " التي امسكت بها حبال الصياد ، بقوة لا فكاك معها ، وكيف أنه كلما غفا برهةً ، أفزعه الناس وخصوصا الساخرين والشامتين بقولهم صائحين به: جاك !! وهو قوله:
خليتني كيف غزال الشرّاكي الدرجها الحبل على الاوراك
وكل ما غفيت قالو لي أقلع .. جاك !!!
ثم إني ظللت التمس النص الكامل لهذه الخريدة سنين عددا، عند سائر من التقيت بهم من اخوتي واصدقائي وزملائي من " عيال المجانين " ، بمن فيهم طائفة من أحفاد الشيخ جمعة نفسه كالبشير سهل ، وأسامة سالم وغيرهم فلم أظفر منهم بشىء ذي بال، فهجرت هذا الأمر مليّاً ، وفي النفس حسرة.
ومؤخراً جداً قيض الله تعالى لي فتحاً مبيناً ومساعدة قيمة للغاية من قبل الاخ والصديق وزميل الدراسة والصف منذ المرحلة الابتدائية ، الاستاذ فاروق محمد الامين المراد ، وهو نفسه سبط الشيخ جمعة سهل ، لأن والدته هي احدى كريمات هذا الشيخ الجليل والسيد الغطريف. وقد بذل الاستاذ فاروق جهدا مقدّراً ، حتى حصل على نص هذا القصيدة ، والذي يسرني أن أكون - ربما وفي حدود ما أعلم - أول من نشره مطبوعاً على الملأ ، ولله الحمد والمِنّة. وجزيل الشكر ، ووافر التقدير والعرفان للاخ الاستاذ فاروق محمد الامين على هذه الخدمة للتراث الادبي والشعبي السوداني، والكردفاني ، ثم المجنوني الأصيل.

د. خالد محمد فرح

 

آراء