مُذَكِّرَات مُغتَرِب في دُوَل الخَليجِ العَرَبي (١٠)

 


 

 

كانَ مِن حُسنِ حَظِّي أنْ نُقِلتُ إلى مَدرّسةٍ المُعتَصِم بِالله المُتوُسِطة بالدّمام والتي كانَ مُديرُها إدارِيّاً وتَربَوِيّاً بٍمعَنى الكَلِمة . في البِدايةِ
رَحَّب بي أيَّما تَرحِيب . ثُمَّ قالَ لي : " قبلَ أنْ نُعطِيكَ جَدوَلاً بِحصَص الانجليزي لدَيْنا تَكليفٌ لكَ أرْجُو أنْ تَقبَله لأنَّني تَوَسَّمتُ فيك الخَيرَ والمَقدِرة " . قلتُ له : " أبْشِر إنْ شَاءَ الله " . كانَ التَّكليفُ لِتَدرِيس أحَدِ الفُصُول الغارِقةِ في الفَوضًى والاستِهتَار بٍأحَدِ
المُعلِّمين ، والذي كانَ مِن إحدى الجِنسيّات العَرَبية . وقد كانَ ضَعِيفَ الشَّخصِية لا يَستَطِيعُ إدارةَ الصَّف ولا يَهُشُّ عن نَفسِه شيئاً مِمّا يَصِل إليه أثناءَ الحِصّة ويُرمَى عليهِ وعلى السُّبُورة أثناءَ انْشِغالِه بالكِتابَة . والفوضَى ضَارِبةٌ بأطْنابِها داخِل الفَصل مِن أصواتٍ ولَعِبٍ . وباخْتِصار " جَبَّانَة هايْصَة " ... تَوكَّلتُ على اللهِ وقَبِلتُ التَّكلِيف. وقد أدركتُ أنّهُ تمَّ نقلي مِن الخُبر إلى الدَّمام لِملءِ الفَرَاغ الذي سَيَخلِفُه هذا المُدرِّس بعد أنْ تمَّ إلغاءُ عَقدِه . قُلتُ " حَسبِي الله ونِعمَ الوَكِيل " وأنا في طَرِيقي للصّف إيَّاه - وكانَ بَعيدَاً عن الإدارة . حَدَّثتُ نَفسِي : ( يا وَلَد أُترُك التَّربِية جانِباً والنُصحَ والإرْشَاد خارِجَ الفَصل وقُمْ بِمَسحِ وتَقييمِ نَوعِية الأوْلاد قبلَ كُلِّ شئ وقبلَ أي طَباشِيرة على السُّبورة ) . قَبلَ دُخُولِ الفَصل رأيتُ
الطُّلابَ يَجُرُّونَ أنفُسَهم جَرَّاً نحو الفصل كأنّهُم يُساقُون إلى المَوت يَسحَبُ بَعضُهم بَعْضا ! دخلتُ ووقفتُ أمامَ الجَالِسين - ولمَّا يكْتمِل عدَدُهم
بعدْ . انتظرتُ حتّى اكتَملَ العَدَدُ وهُم في ضَجِيجِهم سادِرون . مَسَحتُ وُجوهَ الحُضُور بِنظرةٍ شَذْرَاءَ ثُمَّ
عَرَفتُ " رأسَ الهَوَس " وقرّرتُ أنْ أقْطعَ رأسَ الحَيّة ! انْتَهَرْتُهُم نَهرَةً مُضَريةً. ونادَيتُ على الطَّالبِ إيَّاه أمامَ الجَمٍيع ، وكانَ أطولَ مِني وتَبدُو على وجْهِه آثارُ النِّعْمة وزيادةُ الوَزن . وعِندمَا وقفَ أمامي تأمَلتُه مِن أُخْمَصٍ قدَمَيهِ حتّى قِمّة رأسِه ثُمَ
......... صَفَعتُه بِملءِ كَفِّي على خَدِّه الأيّسَر . عِندَها سَمِعتُ رَدَّة فِعل الباقِين : أووووووو ! بِاستِغرَابٍ شَدِيد ! أمَرْتُ الوَلدَ بِالرُّجُوع إلى مَقْعَدِه فَفَعلَ طائِعاً . نَعَم واللهِ هذا ما حَدَث بالضَّبْط . وكانَتْ النَّتائِجُ إيجابِيَّةً مِائة بالمِائة .وبعدَ تلك الحِصّة الأُيقُونة صارَ الأولادٌ يَركضٌونَ نحو الفصلِ رَكضَاً عِندما يَرَوْنَني قادِماً مِن المَكتبِ إلى الفَصل . وطبعاً أمْليْتُ عَليهِم شُرُوطَ الفَاتِحين مُنذُ تلك الصَّفعة في ذلك اليومِ المَشهُود . وقد انتَهجتُ هذه السِّياسَة في كُلِّ المَدَارسِ التي عَمِلتُ بها بعد ذلك - لكِنْ في الفُصولِ المَوبُوءةِ فقط ! بعد يَومَين اسْتَدعَاني المُديرُ وقالَ لي : " ماذا فعلتَ للصَّف إيَّاه حتّى تَغيَّر ۱۸۰ درجة " . فَحَكَيتُ له القِصّة كُلَّها مُنذُ لحْظةِ التًّخطِيط وحتّى لحظةِ التَّنفِيذ ، ثُمَّ الشُّرُوط التي فَرَضْتُها عَليهِم . فَسُّرَّ سُرُوراً عَظيماً وصارَ يٌردِّد : " كَفُو كَفُو الله يَعطِيك العَافِية " . وأصْبَح صَدِيقاً لي حتّى بعدَ أنْ
فارقتُ مدرسَتَه . الطَّرِيفُ في الأمْرِ أنَّ الطَّالبَ الذي صَفَعتُه في المَدرَسةِ قابَلنِي بعدَ خَمسِ سَنَواتٍ في إحدى مَحَطاتِ البَنزِين على طرِيق الدّمام الرِّياض السَّرِيع ، ولمْ أعَرِفه - فقد صارَ نَحِيفاً - وناداني بصوتٍ عالٍ بإسمي : " يا اُستَاذ مُحمد عُمر ما عَرَفْتَنِي ! أنا " فُلان " اللي عَطَيتَه كَفّ في مَدرَسة المُعتصِم بِالله المُتوَسِّطة " !
وصافََحَني بِكُلِّ احْتٍرَام . واللهُ على ما أقُولٌ شَهِيدْ .
------------------

محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com

 

آراء