د.أسامه عثمان، نيويورك Ussama.osman@yahoo.com استعرضنا في المقالين السابقين كتاب أستاذ كرسي القانون بجامعة إيموري الأميركية، البروفيسور عبد الله أحمد النعيم (نحو تطوير التشريع الإسلامي) الذي اعتبرناه من أهم الكتب التي صدرت في عقد التسعينيات من القرن الماضي. وقد صدر أولاً باللغة الإنجليزية تحت عنوان: (Toward an Islamic Reformation)، ثم نقله إلى العربية وقدّم له الكاتب المصري حسين أحمد أمين وصدر عن دار سينا في عام 1994، ثم عرضنا بعضاً من فصول الكتاب التي عبر فيها المؤلف عن العقبات والتوترات التي تواجه تطبيق الشريعة من خلال أربعة مجالات من مجالات القانون العام وهي الدستورية والعدالة الجنائية والقانون الدولي وحقوق الإنسان، حيث بيّن في كل مجال من هذه المجالات المأزق الذي تجد الشريعة التقليدية ودعاتها أنفسهم فيه في قضايا مثل استمرارية الرق قانوناً في إطار الشريعة على الرغم من وقف ممارسته، أو الوضع القانوني للمرأة، أو وضع غير المسلم في ظل دولة الشريعة والمسائل المتعلّقة بحرية الاعتقاد وقضية الردة ومبدأ جواز القتال لنشر الإسلام وغير ذلك من المسائل التي لم يحسم أمرها بعد في إطار الشريعة التقليدية وتسبب معضلات لمحاولات التطبيق الحديثة للشريعة في عالم اليوم وذات الانعكاس على القضايا الدستورية والحريات المدنية والعدالة الجنائية وحقوق الإنسان وعلاقات الدول ببعضها. وعلى الرغم من كل أوجه القصور هذه يرى دكتور النعيم أنه لا مناص من تعديل القانون العام في الدول الإسلامية لأن هناك دعوة متزايدة إلى إعادة تطبيق الشريعة الإسلامية بوصفها القانون العام للدول الإسلامية يقر المؤلف بمشروعية تلك الدعوة على الرغم من توقعه أن يكون مآلها الفشل لاعتقاده بتناقض القانون العام للشريعة الإسلامية مع حقائق الحياة المعاصرة ولكنه يبشر، على غير نهج العلمانيين، بحل من داخل الإطار الإسلامي نفسه وفقاً لمنهج وفهم جديدين وهذا ما سنحاول أن نراه في هذا المقال. ويقول في ذلك تفصيلاً واختصاراً فإن الآليات الداخلية للتكيف والإصلاح في إطار الشريعة، بما في ذلك الاجتهاد، آليات لا تكفي لحل المشكلات الناجمة عن التطبيق الحديث للشريعة، ومع ذلك فإن ثمة ضرورة لاكتشاف مخرج إسلامي من هذا المأزق وإحدى الوسائل التي قد تمكن المسلمين من استعادة تلك المبادرة الخلاقة». والوسيلة الأصيلة للخروج من المأزق هي ذلك المنهج الذي أخرجه المفكر السوداني الأستاذ محمود محمد طه المتمثل في فكرة الرسالة الثانية من الإسلام والتي تقول بأن النظرة المتمعنة في محتوى القرآن والسنة تكشف عن مستويين لرسالة الإسلام: الأولى هي الفترة المكية، والثانية هي الفترة المدنية التالية لها، والرسالة المكية تبعاً للأستاذ محمود هي في حقيقة الأمر رسالة الإسلام الخالدة الأساسية، الرسالة التي تؤكد الكرامة الأصيلة لكافة البشر، دون اعتبار للجنس أو العقيدة الدينية، أو العرق أو غير ذلك. وقد تميّزت تلك الرسالة بالمساواة بين الرجال والنساء وحرية الاختيار الكاملة في أمور الدين والعقيدة. وقد قام أسلوب الدعوة في الفترة المكية على حرية الاختيار دون أدنى قدر من الإكراه والقهر. وحين رفض المشركون هذا المستوى الرفيع للرسالة في عنف بدا واضحاً أن المجتمع ككل لم يكن مستعداً بعد للأخذ بها جاءت الرسالة الثانية الأكثر واقعية في الفترة المدنية ونفذت أحكامها المتناسبة مع الظرف التاريخي للقرن السابع في جزيرة العرب وعلقت أحكام الرسالة المكية ليس تعليقاً دائماً وإنما تعليق مؤقت حتى تحين الظروف المناسبة في المستقبل لتطبيقها. ويقول الأستاذ محمود إن التعليق لو كان دائماً لفقد المسلمون الجوانب الأفضل والخالدة من شريعتهم إلى الأبد. وبما أن القرآن قد اكتمل والرسالة قد ختمت فليس ثمة رسول جديد ليأتي بحلول لتعارض بعض آيات القرآن مع حقائق الحياة المعاصرة وإنما الحل في القرآن نفسه ببعث الآيات المكية، آيات الرسالة الخالدة بإعمال مبدأ النسخ واستبدال آيات بآيات من القرآن نفسه. ويفصل دكتور النعيم مبدأ النسخ الذي شرحه الأستاذ محمود ويحدد دوره في بناء صرح الشريعة الإسلامية ذلك أن علماء المسلمين قد ووجهوا بحقيقة أن القرآن قد نزل منجماً على مدى 23 عاماً ونزلت الكثير من آياته في ظرف معين وأن الكثير من الآيات تتناقض مع آيات أخرى فكان لا بد من إعمال مبدأ النسخ واعتبار الآيات اللاحقة ناسخة لمفعول الآيات السابقة واستطاعوا بذلك بناء مدوّنة القانون الإسلامي أو الشريعة. وبتطبيق فكرة تطوير التشريع الإسلامي يرى المؤلف أن المطلوب هو تطوير أسس القانون الإسلامي وتحويلها من نصوص الفترة المدنية إلى الفترة المكية السابقة عليها، ويعني هذا أن المبدأ في التطوير لا يعدو أن يكون عكساً لعملية النسخ بحيث يصبح بالإمكان الآن تطبيق أحكام النصوص التي كانت منسوخة في الماضي، ونسخ النصوص التي كانت تطبقها الشريعة. وعليه فإنه يمكن تأسيس المبادئ الحديثة للقانون العام على مجموعة معينة من النصوص في القرآن والسنة مخالفة لمجموعة أخرى من النصوص فإن ما ينجم عن ذلك من قوانين ستكون في مثل إسلامية وحجية الشريعة. ويرى دكتور النعيم في هذا البناء الجديد للقانون العام على أحكام من الكتاب والسنة هو شريعة العصر الحديث. ووفقاً لهذا المبدأ فإن التناقض القائم بين بعض أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئ الدستورية وحقوق الإنسان والعدالة الجنائية والقانون الدولي الذي أوضحه المؤلف بتفصيل سرعان ما يزول عندما تحل الآيات المكية ذات الطبيعة العالمية والتي تخاطب البشر جميعاً بوصفهم بشراً وتستهل الآيات بـ«يا أيها الناس» وليس بـ«يا أيها الذين آمنوا» ويتحقق في هذا الفهم مبدأ «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» دليلاً على حرية الاعتقاد، تحل محل آية السيف وبالتالي يتأسس مبدأ حرية الاعتقاد على أساس قرآني ويعني مفهوم النسخ المطبق وفقاً لفهم المؤلف وأستاذه من قبل أن هذا الإحلال حقيقي. وأحسبه أن لا يكون الاستشهاد بالقرآن المكي من قبيل الاستشهاد الذي يقوم به بعض المسلمين حالياً في معرض دفاعهم عن أن الشريعة لا تتعارض مع حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد ولا يجدون تناقضاً في ذلك الاستشهاد مع وجود قوانين تتهم من بدل دينه بالردة ليس على المستوى النظري فحسب وإنما على مستوى الممارسة أيضاً ولقد اعدم الكثير من المفكرين بهذه التهمة في القديم والحديث وعندما يستشهد علماء الشريعة بآية «من شاء فليومن ومن شاء فليكفر» فإنهم يكونون على علم تام بأنها منسوخة بآية أخرى يصمتون عنها. وعندما تكون المساواة بين الرجل والمرأة هي الأصل كما جاء في القرآن المكي فإن التمييز ضد المرأة ينتفي تلقائياً. وهكذا تأتي الحلول من داخل المرجعية الإسلامية نفسها بفهم المسلمين لدينهم فهماً يخرجهم من المآزق التي يعيشون حالياً. قد يجدر بنا أن نذكر هنا بأن منهجية تطوير التشريع التي نادى بها الأستاذ محمود تشمل تطوير الأحكام الجنائية أيضاً مع استثناء قضايا الحدود التي لا يختلف فيها موقفه عن موقف الشريعة التقليدية ولا يشملها مبدأ التطوير، ذلك أنه لا حجية قرآنية من القرآن المكي لإلغاء الحدود من حيث المبدأ، وما يقترحه المؤلّف هو أن ما يمكن عمله من وجهة نظر إسلامية هو تقييد تطبيقها من الناحية العملية وفي ذلك يقول «وبالنظر للقسوة البالغة للعقوبات المذكورة والعواقب السياسية السلبية لتنفيذها، فمن الأفضل عندي من حيث المبدأ، ومن قبيل حسن السياسة، قصر صفة الحدود على تلك الجرائم التي يحدد القرآن لها عقوبة ثابتة معينة فإن كان هذا هو المعيار فستقتصر الحدود على الجرائم الأولى الأربع وهي السرقة والحرابة والزنا والقذف، على أساس أنها هي الجرائم الوحيدة التي نص على عقوبات محددة لها في نصوص قرآنية واضحة وقاطعة» ويستبعد دكتور النعيم الحدين المختلف عليهما بين العلماء وهما حدُّ الحرابة وحدّ الردة كما يستبعد تماماً حداً سابعاً أوردته بعض كتب الفقه وهو حدّ البغي. من المفارقة أن الحدود المختلف عليها هذه هي من الحدود التي تحرص عليها الممارسات الحديثة لتطبيق الشريعة لتجعل منها ما يعرف بالجرائم ضد الدولة في القوانين الحديثة وتستخدمها لملاحقة خصومها السياسيين وتجربة السودان ماثلة في الأذهان كذلك تجربة السعودية في ملاحقة أعضاء الجماعات الإرهابية المتطرّفة بدعوى الخروج على الملة والحاكم والفساد في الأرض وفي المحصلة النهائية لا يختلف الأمر عن تصدي الدولة المصرية للجماعات الإرهابية دون إعطاء الأمر مرجعية إسلامية. ويناقش المؤلّف ما يمكن أن يثيره تطبيق الحدود في الدولة القومية ذلك أن المسلم إذا رأى أن اعتقاده في الحدود من صميم قناعته الدينية فإنه لا يتوقع من غير المسلم الاعتقاد في ذلك وعليه كيف يعامل إذا ارتكب جرماً عقوبته الحد هل يعفى من إقامة الحد وتستبدل العقوبة بعقوبة أخرى وعندها ربما احتج محتج بأن في ذلك مخالفة دستورية لأن التفريق بين المواطنين بسبب الدين في قضايا القانون العام وليس الأحوال الشخصية يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون، ومن يحدد ديانة غير المسلم، هل يترك الأمر له أم أن جهة ما تحدد ذلك وهل يجوز وضع الديانة في الأوراق الرسمية للأفراد، وقد يرى مسلم أن يغير دينه لتجنب عقوبة قاسية إن لم يكن حد الردة مطبقاً. وربما كانت هذه التعقيدات هي التي جعلت تنفيذ الحدود يكاد يكون معطلاً في السودان في الوقت الحالي خاصة على السودانيين من جنوب السودان بغض النظر عن دينهم خشية التعقيدات السياسية التي قد تترتب عليه أو استجابة للضغوط التي يمكن أن تترتب على تنفيذها في ظل الظروف الحالية للوضع السياسي غير المستقر، وذلك على الرغم من حرص دعاة الشريعة على إبراز هذا الجانب وكأنه هو جوهر تطبيق القوانين الإسلامية. وبعد مقاربة فلسفية لمفهوم العقاب والجزاء وتعريف الجرم يخلص الدكتور النعيم إلى أن نتيحة عامة مؤداها أن ثمة شكوكاً تحوم حول الحدود واحتمالات كبيرة لإساءة استخدامها تجعل من غير المصلحة تطبيقها في المفاهيم القائمة في الشريعة الإسلامية عنها. ولكن يبقى السؤال معلقاً ما هو الموقف النهائي من قضية الحدود في إطار نظرية تطوير التشريع ولقد بدأ المؤلف مناقشة فلسفية للأمر في الكتاب الذي نحن بصدده الذي كتب في مطلع التسعينيات ولم نسمع منه أو نقرأ له رأياً في الأمر حديثاً ربما وجد فيه حلاً لمعضلة الحدود في النظام القانوني الإسلامي المقترح. من المعروف أن الحديث عن تاريخانية النص وقراءته في ضوء الظروف المحيطة به ليس فكرة جديدة وقد وردت في كثير من كتابات المفكرين المسلمين وغير المسلمين واستخدمت في بيان قصور تطبيق الشريعة الإسلامية في العالم المعاصر وطورت مناهج علمية للرد على دعاة تطبيق الشريعة في العصر الحديث ولكنها كانت تنتهي ببيان القصور ولم تقدم منهجية بديلة ذات مرجعية إسلامية وهذا هو وجه الجدة في طرح الأستاذ محمود محمد طه الذي فصّله الدكتور النعيم في الكتاب المذكور. ويقرر المؤلف بواقعية أنه مهما كان هذا المنهج متناسقاً وفعالاً فإن "احتمال أن يحظى مبدأ التطوير عند الأستاذ محمود بالقبول واسع المدى والتنفيذ لدى غالبية المسلمين في المستقبل القريب يعتبر احتمالاً ضعيفاً. ليس فقط لأن المبدأ نفسه يشكل قطيعة واضحة مع التأريخ الطويل للفقه الإسلامي، وإنما أيضاً لأنه يثير احتمال تحديه الخطير لمصالح فئات قوية في العالم الإسلامي»، ولكنه يختم بنبرة متفائلة قائلاً «في اعتقادي أن الظروف المواتية لحوار صريح ستتحق، وأن التغيير الجذري والدائم سيحدث، وستتغلّب على المناخ السلبي وعلى الافتقار إلى الحوار الصريح المنظم". د. أسامه عثمان، نيويورك عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 3 مارس 2009