نحو رأي عام مستنير تجاه تقرير المصير … بقلم: د. عثمان أبوزيد

 


 

 

Osman.abuzaid@gmail.com

سألت سائق تاكسي في الخرطوم عن رأيه في الوحدة والانفصال: الحكاية ماشة على وين؟ فأجاب: والله ما عارفين الحاصل شنو، الحكاية عاملة زي "طرّة وكتابة"!

وكتبت الدكتورة فائزة حسن طه مقالاً مهماً في هذه الصحيفة يوم الاثنين 18 يناير قالت فيه: "قبل أن يذهب المواطنون الجنوبيون إلى صناديق الاستفتاء للتصويت إما للوحدة أو للانفصال  لابد أن يعرفوا ( وكذلك المواطن في الشمال ) أية «وحدة» وأي «انفصال» اللذين سيكونان مجالا للاستفتاء ؟ إذ لا يكفي أن يصوت الجنوبيون على المبدأين من حيث إطلاقهما، دون التعرف على تفاصيل أية «وحدة» وأي «انفصال» . كذلك من حق المواطنين في الشمال أن يكونوا على علم بهذه التفاصيل ، ومن حقهم كذلك أن يكون لهم رأي في هذه التفاصيل ، ليس فقط من باب العلم ، ولكن من باب المشاركة في وضع لبناتها - لان نتائجها ستمس حياتهم ومستقبلهم السياسي سواء أكانت وحدة أم انفصالا".

وما دعت إليه الدكتورة فائزة هو عين الصواب ، فمن الضروري أن يمارس الشعب حقه القانوني برأي مستنير حتى يتوصل إلى قرار سليم ومقبول. الشعوب التي مارست هذا الحق بمجرد الغريزة تورطت بعد الاستفتاء إلى سوء المصير.

منذ تصفية الاستعمار قامت أكثر من عشرين دولة مستقلة على حق تقرير المصير ، من لاتفيا إلى كازاخستان وإريتريا ومقدونيا والبوسنة والهرسك وتيمور الشرقية ، وما يزال الحبل على الجرار.

إريتريا صوتت للانفصال بأغلبية 99.5% وليتوانيا 90% وكذلك البقية. وفي جميع الاستفتاءات حول تقرير المصير اشترطوا أغلبية واضحة لنتيجة الاستفتاء وأن يكون النصاب القانوني للناخبين بأغلبية واضحة أيضاً. عندنا اخترنا لنصاب الناخبين ولنتيجة الاستفتاء الأغلبية البسيطة مع اشتراطات صعبة في أهلية الناخب، وكأننا بذلك نمهد للانفصال مع سبق الإصرار والترصد. 

وما دام الأمر كذلك، فليس أقل من أن يقوم الاستفتاء بناءً على رأي عام مستنير تجاه هذا الحدث الهام، ولا بد من إدراك الناخب للقضية بوضوح وصراحة، بإجراء المناقشات ، وعرض الإيجابيات والسلبيات لكل خيار، وبذلك يتكون الإدراك الفردي للوحدة أو الانفصال وتأثيراتهما على الناخب وعلى مصالحه ومستقبل وطنه.

لا يكون التركيز على البعد الذاتي للقضية ولا البعد الحزبي ، بل نتصوّر البعد الاجتماعي لها والبعد السياسي.

وفي مجتمع تسوده الأمية وعلاقات السيطرة والأمر والطاعة يكون للقيادات دور فاعل في التنوير والتوعية.

لكننا بدلاً من ذلك نشهد نوعاً من التهرّب عن تبني موقف محدّد، والتستر وراء شعارات فضفاضة مثل الوحدة الجاذبة واحترام إرادة مواطني الجنوب.

وقد يتساءل المرء هل هناك حزب من أحزابنا لديه خط محدد حول خياري الوحدة والانفصال وحساب للوزن النسبي لكل احتمال وأي هذه الخيارات له أفضلية؟ أم أن الأحزاب نفسها تضم في داخلها أجندة متعارضة؛ وحدويين وانفصاليين يخشون أن يواجهوا سؤال الوحدة والانفصال بموقف جاد وموحد؟ وما موقف هيئات المجتمع من نقابات ومؤسسات اجتماعية وجماعات دينية وصحافة؟ وإذا لم يتكون رأي عام مستنير داخل هذه الهيئات فكيف يتكون خارجها؟

على الأحزاب أن تعلن موقفها من خياري الوحدة والانفصال بغير مواربة، وأن تسعى بكل جهدها في التوعية بموقفها. لم يعد هناك وقت، فالاستفتاء بقي له أقل من عام. والمطلوب أن يأتي الرأي من داخل الشعب معبرًا عن إرادته الوطنية وحكمته، لا رأياً مصنوعاً أو مفروضاً عليه من الخارج.

في عام 1991 عندما نشبت أزمة الخليج عبّر غالبية الشعب الفرنسي عن رأيه الرافض لاشتراك بلادهم في أي حرب، وقد عبّروا عن ذلك بنزول أعداد غفيرة إلى الشوارع مطالبين بالحل السلمي للأزمة. وأوضحت استطلاعات الرأي أن 92% من الشعب الفرنسي ضد الحرب.

 لم تكن الحكومة الفرنسية قد اتخذت موقفاً نهائياً من الأزمة، وكان الرئيس الفرنسي ما يزال يعمل لتفعيل حل عربي أوروبي. بعد أشهر من هذا الموقف قررت الحكومة الفرنسية الدخول إلى الحرب ، وقبل اتخاذ الخطوة عمدت الحكومة إلى حملة تعبئة سياسية قلبت الرأي العام رأساً على عقب. خاطب الرئيس ميتران شعبه في مؤتمر صحفي أن حرباً عالمية قد تقع إذا ما سكت العالم عن احتلال الكويت، وفي ظرف أيام قليلة بلغت نسبة الرأي العام المؤيد لاشتراك فرنسا في الحرب 92%، وهكذا انقلب الرأي العام من إجماع على رفض الحرب إلى إجماع لتأييد الحرب ... ولله في خلقه شؤون.   

 

آراء