نحو نظرة جديدة لتخطيط المدن فى السودان

 


 

 

 

سيف الدين عبد العزيز ابراهيم – محلل اقتصادى بالولايات المتحدة

Aburoba04@gmail.com

ازدحام المدن فى السودان فى العقدين السابقين صار هاجسا لسكان تلك المدن وللمسؤلين الذين يقع على عاتقهم واجب ادارة تلك المدن. ذلك الهاجس ليس استنكارا للزحام من حيث المبدأ ولكن مصدره عدم المقدرة على توفير الخدمات الضروريه التى تتطلبها تلك الزيادة المضطردة ويدور الحديث عن نقص المياه أو المواد الضرورية والوقود وما الى ذلك من الخدمات الاساسية التى تفتقرها تلك المدن ولكن هذه الظاهرة أكبر بكثير وأكثر تعقيدا من أن ننظر اليها من خلال تلك النظرة الضيقة التى تنحصر فى توفير الخدمات أو الاحتجاج المشروع من قبل قاطنيها  على انعدامها او حصرها فى الحديث عن هجرة سكان الأرياف الى المدن لعدم توفر مقومات الحياة الكريمة بتلك الأرياف من تعليم وصحة وفرص العمل وفى السنين الاخيرة انعدام الأمن فى مناطق كثيرة داخل الوطن. هذه السلبيات التى يعانى منها السكان فى تقديرى اما أسباب جانبية ترتبت على أصل المشكل أو نتاج لظاهرة أكبر لهذا المشكل وهوما أود ان أطرحهه هنا ليتناولها من له باع أكبر فى اى مجال من مجالاتها المختلفة وليستبيحنى القارئ الكريم عذرا لأنى سوف أزود هذا المقال بكثير من الاحصائيات المملة ولكنها ضرورية لتوضيح ماأصبو اليه.

فى البداية اود أن ألفت نظر القارئ الى ظاهرة ازدحام المدن عالميا ومن ثم نتحدث عنها فى السودان لنضع الأمور فى نصابها وتكون الصورة واضحة والمعلومة غير مبتورة. استنادا على الموقع الالكترونى (انفوبليس) والذى يختص بتزويدك بمختلف المعلومات الاحصائية ومنها عدد سكان العالم فى مختلف الأعوام , انه فى عام 1953 كان عدد سكان العالم 2.6 بليون واليوم عدد سكان العالم  يفوق ال 6 بليون. بنائا على ذلك يقدر صندوق التعداد السكانى التابع للأمم المتحدة أن عدد سكان العالم سيتجاوز ال 9 بليون اى بمعنى أن عدد سكان العالم سيتضاعف ثلالثة مرات عند حلول العام 2050 عما كان عليه فى عام 1953. هذه الزيادة المضطردة والمذهلة ترجع لعدة أسباب أهمها تطور وتوفر الرعاية الصحية عموما وان كان ذلك التطور محصور فى مناطق معينة وتتفاوت درجات تركيزه حسب امكانيات المنطقة الجغرافية. أيضا هناك تطور التطعيم ضد الأمراض الوبائية والتى كانت تفتك بسكان العالم فى شكل وبائى وبطريقة منتظمة مما قلل من النموء السكانى فى القرون السابقة. السبب الثالث والذى اراه مهما وهو التنمية الاقتصادية النسبية لجزأ كبير من سكان العالم.  الذى يدعو الى القلق أن معظم الزيادة الحالية والمتوقعة لسكان العالم يتوقع حدوثها فى الدول النامية او الأقل نموءا حيث يتوقع أن يقفذ عدد سكان الدول النامية من 5.4 بليون فى علم 2007 الى 7.5 فى عام 2050 وبالطبع سبب هذا القلق هو أن البنيه التحتية والخدمات البسيطة والضرورية للمواطن غير متوفرة  فى الوقت الحالى وبالعدد الحالى للسكان فما بالك عندما يحدث ذلك الانفجار السكانى المتوقع.  عدد سكان الدول المتطورة أو الصناعية يتوقع له أن يكون على نفس النسبة العددية الحالية وذلك يرجع الى عدة أسباب منها تدنى نسبة الولادة فى تلك الدول لانخراط الرجال ونسبة كبيرة من النساء فى الوظائف التى تتطلب كثيرا من الوقت وبالتالى لا تشجع على تكوين الاسر الكبيرة و التى تتطلب رعايتها مزيدا من الوقت ليس متاحا لها. السبب الآخر الذى يساعد هذه الدول الصناعية على المحافظة على نسبتها السكانية رغم تراجع نسبة المواليد بها هو الهجرة المنتظمة من الدول الأقل نموئا اليها والتى تقدر ب 2.5 مليون سنويا على حسب تقرير صندوق التعداد السكانى التابع للأمم المتحدة والذى صدر فى عام 2007

هذا من ناحية الدول والآن دعنى اقدم بعض الاحصائيات عن الانفجار السكانى الذى حدث للمدن عالميا. فى عام 1800 كانت لندن المدينة الوحيدة التى بلغ عدد سكانها المليون, واستنادا على تقرير قدمته ثريا أحمد عبيد من الأمم المتحدة  أنه فى عام 1960 كانت هناك 111 مدينة يفوق عدد سكانها  المليون ارتفع ذلك الرقم الى 280 مدينة يفوق عدد سكانها المليون والآن العدد يفوق ال300 مدينة يفوق عدد سكانها المليون. اذا كانت هذه الاحصائيات مدهشة لك فتمعن معى فى عدد المدن الضخمة والتى يفوق عدد سكانها العشرة مليون حيث كانت هنالك 5 مدن تحمل هذا اللقب فى عام 1973 حسب تقرير الامم المتحدة وبلغ ذلك الرقم 14 مدينة فى عام 1995 ويتوقع ان يرتفع ذلك الرقم الى 20 مدينة فى عام 2015. وعلى هذا المنوال يتوقع صندوق التعداد السكانى أن يسكن نصف سكان العالم فى المدن فى 2030. 

هذه هى الوتيرة التى يسير عليها التركيز السكانى وهذا المنحى واضح حيث لايختلف عليه اثنان وسواء اتفقنا على اسباب الهجرة أم اختلفنا فان ما أدعو اليه هو أن نقترب من التخطيط السكانى فى السودان بوسائل وطرق تختلف تماما عما اتبعناه فى الماضى ونتبعه الآن. ما يسترعى انتباه المراقب لحال المدن فى السودان عموما ومعاناة سكان تلك المدن (والأرياف اكثر معاناة فى أحيانا كثيرة لانعدام الأساسيات ولكن هدف هذا المقال هو اعادة صياغة تخطيط المدن وسوف أعود للأرياف فى مقال لاحق انشاء الله) هو تركيز المسؤلين على ردود الأفعال فى معالجة الأخطاء أو الشكاوى حيث يتم ردم الخور اذا اشتكى المواطن من تراكم المياه أو تحويل الشارع الى اتجاه واحد اذا ازدحم الطريق. تحويل الطريق الى اتجاه واحد هو حل ولكن وقتى وتنتهى جدواه بوصول سيارلت جديدة وبعد ترخيصها تتفاقم الأمور مرة أخرى, أنا هنا لا أتحدث عن المرور أو الصحة أو مشكلة أو شكوى محددة, أنا أتحدث عن (السيستم) النظام التخطيطى واستراتيجية الحلول كوحدة شاملة كاملة وليست مجزأة لأن التجزأة هى نهج الحلول المتبعة والتى مافتأت الا واستفحلت مرة اخرى.

الأمانة المهنية تتطلب منى أن أتفق مع بعض الجهود التى يقوم بها المسؤليين للتعامل مع المشاكل الناجمة من التركيز السكانى فى المدن من بناء الطرق الداخلية والكبارى وتنظيم انسياب الحركة ومحاولة تحديث الصرف الصحى وخلافة حيث هى متطلبات لابد من الايفاء بها لتسيير الحياة وحتى لانزيد الطين بلة ولكن ماأود التنبيه له أن الحلول يجب أن تتضمن الرؤية الاستراتيجية والتى تضع هذه الاحصائيات العالمية نصب أعينها عندما تخطط.  هذا المنوال وهذه الهجرة الى المدن لن تتوقف فى الوقت القريب وبل أصبحت سمة وميزة عالمية يتعامل معها المخططين فى كل أنحاء العالم ومعظم هذه المعلومات والاحصائيات متوفرة فى مراكز البحوث وفى الشبكة العنكبوتية ويمكن لكل مسؤلينا والمخططين منهم أن يحصلوا عليها بكل سهولة ويسر وحتى المعلومات عن السودان فهى مبوبة وفى متناول اليد.  ماأدعو اليه هو الابتعاد عن تركيز التخطيط الخدمى على شحته وقلته على منطقة جغرافية محددة. ومادمنا نركز على التنمية وتوفير الخدمات فى وسط السودان عموما والخرطوم على وجه اخصوص فان تلك الزيادة ستتواصل والضغط والطلب على الخدمات المحدودة سيتضاعف. الاستراتيجية يجب أن ترتكز على عدة محاور منها على سبيل المثال وليس الحصر المسار الآنى والذى يركز على تحسين الخدمات فى المدن واكرر كل المدن لتخفيف الضغط على منطقة واحدة استحوذت على الأهتمام الادارى وذلك التحسين يجب أن يضع فى الاعتبار أن سكان هذه المدينة أو تلك سيتضاعف فى غضون 10-20 سنة وأن يتم التخطيط والارتقاء بالخدمات على هذا الاساس. المنهج المتبع الآن هو تحسين الخدمات للعدد الحالى من السكان وفور الانتهاء من ذلك التحسين يفتقد فعاليته. كبناء الكوبرى المعين لعبور العشرة ألف سيارة بالمدينة الفلانية ولكن عند الانتهاء من بناء ذلك الكوبرى والذى استغرق أعواما ازدادت كمية السيارات بنسبة 50% وهكذا دواليك. ليس هناك شك أن الطرق التى شيدت خدمت مناطق كثيرة وسهلت التنقل وخففت الكثيرمن العناء والضنك لشريحة كبيرة من السكان وهذه محمدة ولكن ذلك ليس بغاية فى حد ذاتها حيث يتحتم علينا التحذير و التنبيه الا أن تلك الطرق لم تراعى فيها ازدياد الحركة المرورية بازدياد الحركة التجارية وتشييدها تم باختزال شديد وضيق يسبب الحوادث والكوارث لافتقادها ابسط محاذير السلامة التى تكلف القليل ولكنها ستحمى ارواحا وتوفر قدرا أكبر من الطمأنينة لدى المسافر مما يعمق ثقتة فى الشارع وبالتالى فى مقدرة وطنه فى توفير الحماية له . لم نلتفت الى اخفاقات شارع مدنى  والذى مافتأت الصحف تطالعنا بأخبار حوادثه المتكررة وفقدان الأرواح به وذلك فى تقديرى لضيقة  وافتقاره لأى دلالة لاهتمام المشيدين بوسائل وسبل السلامة به. وللأسف لاحظت ضيق معظم الطرق الجديدة والتى تنبأ بكوارث قادمة كان يمكن تلافيها يقليل من التروى والتخطيط الاستراتيجى ليس لخدمة التركيز السكانى الحالى ولكن لخدمة الزيادة المتوقعة.

أما الجزء الثانى من هذا المسار الآنى و هو تنمية الارياف وبالطبع ذلك لن يوقف الهجرة منها الى المدن لأن التطلع الى الأحسن هو غريزة انسانية متأصلة فى البشر ولكن لترغيب نسبة من تلك التركيبة السكانية بالبقاء والاستمتاع بحقها فى العيش الكريم فى أى  منطقة يختارونها طواعية غير مرغمين بظروف قاهرة وغير الطبيعية من كوارث طبيعية وخلافة وتخفيف نسبة الهجرة منه الى المدن.

   من الواضح وجليا أن النهج المتبع الآن غير ناجح وكما يقول المثل (لو اثنين قالوا ليك راسك مافى أهبشوا) وباختصار القصد هو اذا اتتك الردود بأن نهج التخطيط المستقى من خيارات وقرارات التركيز التنموى فى الخرطوم غير ناجح فعليك بمراجعة تلك القرارات وأسلوب التخطيط. مانراه كما أسلفت فى الجزء الأعلى هو التعامل مع النتائج المترتبة على ازدحام السكان كبناء المدن الجديدة المحيطة بالخرطوم أو أمدرمان كما قرأت مؤخرا اعتزام السلطات على بناء آلاف الوحدات السكنية غرب أمدرمان ممايغرى مزيدا من ضحايا الحروب والمهمشين للاتجاه صوب الامل فى الحصول على سكن يقيهم التشرد وهو حق مشروع لكل انسان يسعى الى الأحسن ولكن مايجب عمله تجاه تنمية الارياف هو عكس مايتم فعله الآن حيث أن تكلفة بناء هذه الوحدات السكنية المقترحة والتى سبق وتم بناء مثلها لن يأتى بالمردود الاقتصادى المرتجى منها كالذى كان يمكن جنيه ما اذا انفقت تلك المبالغ فى تنمية الارياف والتى لاتتطلب بناء منازل جديدة بها لأن سكان تلك المناطق لهم المقدرة على بناء مساكنهم المكيفة مع حوجة بيئتهم المحيطة بهم ولكن مايصبو اليه المواطن فى الارياف هو اعمار وتحسين المدارس بتوفير المعلم المدرب, بناء المستوصفات الطبية والتى توفر الاسعافات الاولية وتعالج الامراض الموسمية من ملاريا ونزلات البرد وتقدم التطعيم للاطفال وتوفر العناية للحوامل مما يرتقى بنوعية الرعاية ويغنيهم عناء وضنك السفر الى المدن وبالتالى تخفيف الضغط على مصحات المدن, تحتاج الارياف الى مياه الشرب النقية والتى يمكن توفيرها بحفر ابار تعادل تكلفتها تكلفة ابواب وشبابيك وحدات سكنية تعد على أصابع اليد الوحدة من تلك الوحدات التى شيدت أوالتى اقترح تشييدها على أطراف الخرطوم, الريف يحتاج الى الكثير من الاستثمار الاستراتيجى الذكى والمستمر وهذا النوع من الاستثمار قليل التكلفة وعظيم الفائدة اذا تمت فيه مراعاة وسائل التخطيط الاستراتيجى المستحدثة وروعيت فيه الاستمرارية والتصحيح السارى والقياس المستمر للنتائج. أنا هنا أدرى تماما أن ما أدعو الية ليس بالسهولة المبسطه والساذجة ولكنه فى نفس الوقت ممكنا وغير مستحيل وواجب علينا حيث أنه مخرج لحل الكثير من المشاكل الناجمة عن عدم تنمية الارياف بطريقة استراتيجية حيث انصاف الحلول لم تأتى بالنتائج المرضية بل ولدت مرارات فاغمت من تفعيل الغبن الاجتماعى والذى قاد البعض للاحتجاج الذى قوبل اما بالتجاهل اأو بعدم المقدرة على استنباط الحلول الشاملة والتى ترضى الشريحة الكبرى من سكان الريف وأيضا قادت فصيل آخر للاحتجاج المسلح والذى ولد سلبيات جديدة. هذه النظرة الجديدة للتخطيط ليس حلا واحدا ولا خطة واحدة وانما مجموعة حلول ضمن استراتيجية قومية مدعومة ببرامج تنفيذية ووسائل مراجعة لترقية الاداء. هناك أيضا معلومة خافية على الكثير وهى أن هذه التنمية ليست طريق ذو اتجاه واحد حيث يصبح الريف متلقيا للاعانات لأن تنمية الريف لها مردود سريع ومحسوس لما له من مقدرة على الانتاج وتصدير منتجاته الاقتصادية وموارده البشرية المتمثلة فى انسانه المتعلم من تلك المدارس والمتعافى من تلك المستشفيات المنشأة وهو فى طريقة الى الانتاج فى جامعات ومصانع البلاد المنتشرة مختارا وليس مضطرا.    

 

 

آراء