نساء فلاندرز والجبهة الغربية في الحرب العالمية الأولى
عبد المنعم عجب الفيا
5 April, 2023
5 April, 2023
ظل مصطفى سعيد، في قرية "ود حامد" ولا أحد يدري شيئاً عن ماضيه في أوربا حتى عاد الراوي ابن القرية من أوربا بعد أن نال درجة الدكتوراة في الأدب.
عند عودته لمح الراوي من بين المرحبين به بالقرية رجلاً غريباً لم يره بالقرية من قبل، سأل عنه فقالوا له هذا مصطفى سعيد "ليس من أهل البلد، لكنه من نواحي الخرطوم جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام. اشترى أرضاً تفرق وارثوها، وتزوج حسنة بت محمود. رجل في حاله لا يعلمون عنه الكثير".
وقال جد الراوي في الثناء على مصطفى "طول إقامته في البلد لم يبدو منه شيء منفر، وإنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وإنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح".
كان يمكن لحياة مصطفى سعيد، أن تسير كالمعتاد في تلك القرية الوادعة بشمال السودان كما أراد لها هو، ولكنّ شيئاً لم يكن في الحسبان حدث رغماً عنه أدى للتشكيك في حقيقة أمره، ومن ثم إلى انشكاف سر حياته الأخرى التي عاشها في أوربا.
حدث ذلك بينما كان الراوي في مجلس شرابٍ ببيت محجوب، فحضر مصطفى سعيد دون ترتيب للتحدث في أمرٍ ما مع محجوب، ولكن محجوب طلب منه الجلوس والانضمام إليهم في مجلس الشُرْب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السكر، طفق ينشد شعراً إنجليزياً بلغةٍ سليمة، وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، ماداً رجليه، دافناً قامته في المقعد:
Those women of Flanders,
Await the lost,
Await the lost who never will leave the harbour,
They await the lost whom the train never will bring
To the embrace of those women with dead faces,
They await the lost, who lie dead in the trenches,
The barricades and the mud,
In the darkness of night,
This is Charing Cross Station, the hour past one,
There was a faint light,
There was a great pain.
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل،
هذه محطة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،
ثمة ضوء ضئيل،
ثمة ألم عظيم".
لم يصدّق الراوي أذنيه. قفز من مكانه ووقف فوق الرجل وصاح فيه: ما هذا الذي تقول؟ ما هذا الذي تقول؟ لم يرد مصطفى سعيد بكلمة بل هبّ واقفاً ودفع الراوي بعنف بيده، وخرج من الغرفة. وكان محجوب مشغولاً يضحك مع بعض من بالمجلس فلم ينتبه لما حدث.
هذه الواقعة أكدت للرواي أن مصطفى سعيد شخصٌ آخر غير ما يزعم. ذهب إليه في حقله ثاني يوم وتعمد أن يبادر سؤال مصطفى سعيد باللغة الإنجليزية. ولكن مصطفى سعيد رد عليه بقوله هل أنستك إقامتك في أوربا العربي؟
فرد عليه: ولكنك البارحة كنت تقرأ شعراً إنجليزياً. فأجاب مصطفى سعيد: السكران لا يؤاخذ على كلامه. فقرر الراوي أن يرغمه على الكشف عن حقيقته وإلا سوف يكون له معه شأن آخر.
لم يطُلْ انتظارُ الرواي إذ جاءه مصطفى سعيد في مساء نفس اليوم وطلب منه الحضور إلى بيته، وكان مصطفى سعيد قد عزم تلك الليلة أن يبوح بسر حياته الأخرى إلى الرواي مبرراً ذلك بقوله: "خِفت أن تذهب وتحدث الناس وتقول لهم إنني ليس الشخص الذي أزعم فيحدث بعض الحرج لي ولهم". ومن هنا تبدأ قصة مصطفى سعيد، أو بالأحرى تبدأ حكاية موسم الهجرة إلى الشمال.
يقول الراوي إنه وجد فيما بعد أن القصيدة التي أفلتت من لا وعي مصطفى سعيد في جلسة الشراب تلك هي من بين قصائد الحرب العالمية الأولى.
فلماذا تلى مصطفى سعيد في تلك الساعة قصيدة من قصائد الحرب العالمية الأولى تحديداً؟ وما هي فلاندرز؟ وما قصة الجنود الذين يرقدون في الخندق والطين وتلك النسوة اللائي ينتظرن دون جدوى عودة هؤلاء الجنود بمحطة تشارنغ كروس بلندن؟ ومن هو شاعر القصيدة؟ وما موقع القصيدة وعلاقتها ببنية الرواية، وقصة مصطفى سعيد ككل؟
فلاندرز إقليم في بلجيكا ويشمل أجزاء من شمال فرنسا. وكانت فلاندرز أكبر مسرح للحرب العالمية الأولى، وهو ما عرف بالجبهة الغربية للحرب حيث دارت العديد من المعارك الشرسة المدمرة طوال فترة الحرب من أكتوبر 1914 وحتى نهايتها في نوفمبر 1918.
والمعروف أن الحرب العظمى كانت تدور على جبهتين كبيرتين الجبهة الغربية ومسرحها إقليم فلاندرز ببلجيكا وشمال فرنسا، والجبهة الشرقية حيث يدور القتال بين روسيا من جهة وألمانيا ومناصريها من جهة أخرى، إلى جانب جبهات أخرى ثانوية كالجبهة التركية وفلسطين.
والأبيات التي تلاها مصطفى سعيد في تلك الجلسة هي من قصيدة انتويرب Antiwerp للشاعر فورد مادوكس هويفر أحد جنود الحرب العالمية الأولى. وانتويرب هي إحدى أكبر مدن إقليم فلاندرز ببلجيكا، وقد شهدت أشرس المعارك وظلت محاصرة من قبل الألمان إلى أن انتهت الحرب. وتتكون القصيدة من ست مقاطع اختار الطيب صالح هذه الأبيات من المقطوعة الأخيرة والتي تعد أكثر أجزاء القصيدة رمزيةً وغنائيةً. وأغلب الظن أن الطيب صالح كتب هذه الأبيات من الذاكرة حيث أننا وجدنا اختلافاً طفيفاً في بعض الألفاظ بين نص القصيدة والأبيات المقتبسة في الرواية.
وكان مصطفى سعيد وصل لندن سنة 1916 أي بعد عامين من نشوب الحرب العالمية الأولى التي امتدت لمدة أربع سنوات (1914 - 1918). وفي ذات العام الذي وصل فيه دارت بالجبهة الغربية أكبر المعارك كلفة وهي معركة السوم وفردان بشمال فرنسا. فقد تكبد الألمان في معركة فردان خسائر ناهزت ربع مليون قتيل.
أما في معركة السوم (نهر السوم بفرنسا) فقد خسر الجيش البريطاني في اليوم الأول وحده ستين ألف قتيل وجريح، ومع ذلك تمكن من إجبار الألمان على التقهقر. وقد استعملت الدبابة في هذه المعارك لأول مرة كما استُعملت الطائرات لضرب المدنيين في المدن مباشرة. ولهذا أزهقت ملايين الأرواح في تلك الحرب.
من هنا اتخذ مصطفى سعيد من هذه الحرب، ومن معركتي السوم وفردان على وجه التحديد، رمزاً على العنف الأوربي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب:
"إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان. جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ".
وقد كان مصطفى سعيد يراقب مجريات الحرب، ويتتبع أخبار النصر والهزيمة، وينتقد الطريقة التي أُنهيت بها الحرب في فرساي، بينما يواصل حربه هو الآخر ليلاً بالقوس والسيف والنشاب مع فتيات الإنجليز، انتقاماً من ذلك العنف الأوربي الذي فتك بالعالم. وبالنهار يواصل تأليف الكتب في فضح الاستعمار، وفي دعوته الإنسانية للاقتصاد القائم على العدالة والمساواة والاشتراكية:
"كنتُ أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والنشاب. رأيت الجنود يعودون، يملؤهم الذعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي. ورأيت ديفيد لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية".
هذه حرب وتلك حرب، وإن اختلفت الوسائل والغايات. والإشارة هنا إلى معاهدة فرساي التي انهت الحرب الأولى بين ألمانيا والحلفاء وقد أملت الاتفاقية على ألمانيا شروطاً مذلة، كان من نتائجها أن أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية في 1939. لذلك قال مصطفى سعيد رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي.
كينز وتوني علماء اقتصاد إنجليز أدخلا إصلاحات ذات طابع اشتراكي على النظام الراسمالي. وديفيد لويد جورج هو رئيس وزراء بريطانيا عن حزب الأحرار والذي اضطر إلى خوض الحرب إلى جانب حليفته فرنسا وبقية الحلفاء، وكان قد أدخل إصلاحات اقتصادية واجتماعية جعلت من بريطانيا دولة شبه اشتراكية.
وقد ألهمت معارك فلاندرز بالجبهة الغربية الكثير من الشعراء الجنود. ومن أشهر هذه القصائد قصيدة In the fields of Flanders "في ميادين القتال بفلاندرز" للشاعر الطبيب محارب جون ماكريJohn McCrae من كندا. وقد اشتهرت هذه القصيدة أكثر من غيرها من قصائد الحرب الأخرى لغنائيتها وقصرها ورمزيتها المحببة.
إلا أن أهم وأشهر قصيدة نشرت في أعقاب الحرب وكتبت بوحي مباشر من الويلات التي خلفتها، هي قصيدة (الأرض الخراب) 1922 وعنوانها باللغة الإنجليزية The Waste land" لشاعر الحداثة الإنجليزي الأمريكي تي. اس. اليوت.
ومن الأعمال السينمائية التي خلدت ذكرى الحرب فيلم "كل شيء هاديء على الجبهة الغربية"، وهو الفيلم المأخوذ من رواية الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك التي نشرت سنة 1929 وتحمل ذات الاسم All quiet on the Western Front"
في قصيدة انتويرب التي قرأ منها مصطفى سعيد الأبيات الواردة آنفا، يواسي الشاعر نساء فلاندرز بالجبهة الغربية اللائيء كنّ في انتظار عودة الجنود سالمين من جبهة الحرب. إلا أن الجنود الذين فقدوا في الحرب سوف لن يعودوا مرةً أخرى إلى أمهاتهم وزوجاتهم اللائيء ينتظرنهم في خوفٍ وترقب، وبوجوه واجمةٍ كوجوه الموتى، على الأرصفة في تشارنغ كروس بلندن وغيرها من المحطات.
إن القطار الذي تنتظر عودته أولئك النسوة بمحطة تشارنغ كروس بلندن، يستدعي تغني مصطفى سعيد بتلك الجملة الشاعرية التي هي أشبه ما تكون باللازمة الموسيقية المتكررة في لحن شجي: "وحملني القطار إلى محطة فكتوريا وإلى عالم جين موريس"، وتتكرر بصيغة أخرى وفي أكثر من موضع من الرواية: "وحملني القطار إلى لندن وإلى المأساة".
ومحطة فكتوريا التي حمل إليها القطار، مصطفى سعيد، حيث عالم جين موريس، من أكبر محطات القطارات بلندن. لاحظ أنه قال: "إلى عالم جين موريس". فاللقاء بين عالمين وليس بين شخصين فقط.
ومثلما حمل القطار الجنود إلى مأساة الحرب في فلاندرز، فقد حمله القطار هو الآخر إلى مأساة أخرى. أو بالأحرى إلى حربٍ أخرى يخوض غمارها هنا في لندن بالقوس والرمح والنشاب وبأجندة مختلفة.
*من كتابنا (في عوالم الطيب صالح)2010
abusara21@gmail.com
عند عودته لمح الراوي من بين المرحبين به بالقرية رجلاً غريباً لم يره بالقرية من قبل، سأل عنه فقالوا له هذا مصطفى سعيد "ليس من أهل البلد، لكنه من نواحي الخرطوم جاء إلى البلد منذ خمسة أعوام. اشترى أرضاً تفرق وارثوها، وتزوج حسنة بت محمود. رجل في حاله لا يعلمون عنه الكثير".
وقال جد الراوي في الثناء على مصطفى "طول إقامته في البلد لم يبدو منه شيء منفر، وإنه يحضر صلاة الجمعة في المسجد بانتظام، وإنه يسارع بذراعه وقدحه في الأفراح والأتراح".
كان يمكن لحياة مصطفى سعيد، أن تسير كالمعتاد في تلك القرية الوادعة بشمال السودان كما أراد لها هو، ولكنّ شيئاً لم يكن في الحسبان حدث رغماً عنه أدى للتشكيك في حقيقة أمره، ومن ثم إلى انشكاف سر حياته الأخرى التي عاشها في أوربا.
حدث ذلك بينما كان الراوي في مجلس شرابٍ ببيت محجوب، فحضر مصطفى سعيد دون ترتيب للتحدث في أمرٍ ما مع محجوب، ولكن محجوب طلب منه الجلوس والانضمام إليهم في مجلس الشُرْب، إلا أنّه رفض. فحلف عليه محجوب بالطلاق أن يجلس ويشرب. فانصاع مصطفى سعيد بامتعاض وجلس وشرب وحينما دبّت الخمرُ في بدنه، واستبدت به نشوة السكر، طفق ينشد شعراً إنجليزياً بلغةٍ سليمة، وهو ممسكٌ الكأسَ بكلتا يديه، ماداً رجليه، دافناً قامته في المقعد:
Those women of Flanders,
Await the lost,
Await the lost who never will leave the harbour,
They await the lost whom the train never will bring
To the embrace of those women with dead faces,
They await the lost, who lie dead in the trenches,
The barricades and the mud,
In the darkness of night,
This is Charing Cross Station, the hour past one,
There was a faint light,
There was a great pain.
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجيء بهم القطار،
إلى أحضان هؤلاء النسوة ذوات الوجوه الميتة،
ينتظرن الضائعين الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل،
هذه محطة تشارنغ كروس، الساعة تجاوزت الواحدة،
ثمة ضوء ضئيل،
ثمة ألم عظيم".
لم يصدّق الراوي أذنيه. قفز من مكانه ووقف فوق الرجل وصاح فيه: ما هذا الذي تقول؟ ما هذا الذي تقول؟ لم يرد مصطفى سعيد بكلمة بل هبّ واقفاً ودفع الراوي بعنف بيده، وخرج من الغرفة. وكان محجوب مشغولاً يضحك مع بعض من بالمجلس فلم ينتبه لما حدث.
هذه الواقعة أكدت للرواي أن مصطفى سعيد شخصٌ آخر غير ما يزعم. ذهب إليه في حقله ثاني يوم وتعمد أن يبادر سؤال مصطفى سعيد باللغة الإنجليزية. ولكن مصطفى سعيد رد عليه بقوله هل أنستك إقامتك في أوربا العربي؟
فرد عليه: ولكنك البارحة كنت تقرأ شعراً إنجليزياً. فأجاب مصطفى سعيد: السكران لا يؤاخذ على كلامه. فقرر الراوي أن يرغمه على الكشف عن حقيقته وإلا سوف يكون له معه شأن آخر.
لم يطُلْ انتظارُ الرواي إذ جاءه مصطفى سعيد في مساء نفس اليوم وطلب منه الحضور إلى بيته، وكان مصطفى سعيد قد عزم تلك الليلة أن يبوح بسر حياته الأخرى إلى الرواي مبرراً ذلك بقوله: "خِفت أن تذهب وتحدث الناس وتقول لهم إنني ليس الشخص الذي أزعم فيحدث بعض الحرج لي ولهم". ومن هنا تبدأ قصة مصطفى سعيد، أو بالأحرى تبدأ حكاية موسم الهجرة إلى الشمال.
يقول الراوي إنه وجد فيما بعد أن القصيدة التي أفلتت من لا وعي مصطفى سعيد في جلسة الشراب تلك هي من بين قصائد الحرب العالمية الأولى.
فلماذا تلى مصطفى سعيد في تلك الساعة قصيدة من قصائد الحرب العالمية الأولى تحديداً؟ وما هي فلاندرز؟ وما قصة الجنود الذين يرقدون في الخندق والطين وتلك النسوة اللائي ينتظرن دون جدوى عودة هؤلاء الجنود بمحطة تشارنغ كروس بلندن؟ ومن هو شاعر القصيدة؟ وما موقع القصيدة وعلاقتها ببنية الرواية، وقصة مصطفى سعيد ككل؟
فلاندرز إقليم في بلجيكا ويشمل أجزاء من شمال فرنسا. وكانت فلاندرز أكبر مسرح للحرب العالمية الأولى، وهو ما عرف بالجبهة الغربية للحرب حيث دارت العديد من المعارك الشرسة المدمرة طوال فترة الحرب من أكتوبر 1914 وحتى نهايتها في نوفمبر 1918.
والمعروف أن الحرب العظمى كانت تدور على جبهتين كبيرتين الجبهة الغربية ومسرحها إقليم فلاندرز ببلجيكا وشمال فرنسا، والجبهة الشرقية حيث يدور القتال بين روسيا من جهة وألمانيا ومناصريها من جهة أخرى، إلى جانب جبهات أخرى ثانوية كالجبهة التركية وفلسطين.
والأبيات التي تلاها مصطفى سعيد في تلك الجلسة هي من قصيدة انتويرب Antiwerp للشاعر فورد مادوكس هويفر أحد جنود الحرب العالمية الأولى. وانتويرب هي إحدى أكبر مدن إقليم فلاندرز ببلجيكا، وقد شهدت أشرس المعارك وظلت محاصرة من قبل الألمان إلى أن انتهت الحرب. وتتكون القصيدة من ست مقاطع اختار الطيب صالح هذه الأبيات من المقطوعة الأخيرة والتي تعد أكثر أجزاء القصيدة رمزيةً وغنائيةً. وأغلب الظن أن الطيب صالح كتب هذه الأبيات من الذاكرة حيث أننا وجدنا اختلافاً طفيفاً في بعض الألفاظ بين نص القصيدة والأبيات المقتبسة في الرواية.
وكان مصطفى سعيد وصل لندن سنة 1916 أي بعد عامين من نشوب الحرب العالمية الأولى التي امتدت لمدة أربع سنوات (1914 - 1918). وفي ذات العام الذي وصل فيه دارت بالجبهة الغربية أكبر المعارك كلفة وهي معركة السوم وفردان بشمال فرنسا. فقد تكبد الألمان في معركة فردان خسائر ناهزت ربع مليون قتيل.
أما في معركة السوم (نهر السوم بفرنسا) فقد خسر الجيش البريطاني في اليوم الأول وحده ستين ألف قتيل وجريح، ومع ذلك تمكن من إجبار الألمان على التقهقر. وقد استعملت الدبابة في هذه المعارك لأول مرة كما استُعملت الطائرات لضرب المدنيين في المدن مباشرة. ولهذا أزهقت ملايين الأرواح في تلك الحرب.
من هنا اتخذ مصطفى سعيد من هذه الحرب، ومن معركتي السوم وفردان على وجه التحديد، رمزاً على العنف الأوربي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب:
"إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان. جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ".
وقد كان مصطفى سعيد يراقب مجريات الحرب، ويتتبع أخبار النصر والهزيمة، وينتقد الطريقة التي أُنهيت بها الحرب في فرساي، بينما يواصل حربه هو الآخر ليلاً بالقوس والسيف والنشاب مع فتيات الإنجليز، انتقاماً من ذلك العنف الأوربي الذي فتك بالعالم. وبالنهار يواصل تأليف الكتب في فضح الاستعمار، وفي دعوته الإنسانية للاقتصاد القائم على العدالة والمساواة والاشتراكية:
"كنتُ أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والنشاب. رأيت الجنود يعودون، يملؤهم الذعر من حرب الخنادق والقمل والوباء. رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي. ورأيت ديفيد لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية".
هذه حرب وتلك حرب، وإن اختلفت الوسائل والغايات. والإشارة هنا إلى معاهدة فرساي التي انهت الحرب الأولى بين ألمانيا والحلفاء وقد أملت الاتفاقية على ألمانيا شروطاً مذلة، كان من نتائجها أن أشعلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية في 1939. لذلك قال مصطفى سعيد رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في فرساي.
كينز وتوني علماء اقتصاد إنجليز أدخلا إصلاحات ذات طابع اشتراكي على النظام الراسمالي. وديفيد لويد جورج هو رئيس وزراء بريطانيا عن حزب الأحرار والذي اضطر إلى خوض الحرب إلى جانب حليفته فرنسا وبقية الحلفاء، وكان قد أدخل إصلاحات اقتصادية واجتماعية جعلت من بريطانيا دولة شبه اشتراكية.
وقد ألهمت معارك فلاندرز بالجبهة الغربية الكثير من الشعراء الجنود. ومن أشهر هذه القصائد قصيدة In the fields of Flanders "في ميادين القتال بفلاندرز" للشاعر الطبيب محارب جون ماكريJohn McCrae من كندا. وقد اشتهرت هذه القصيدة أكثر من غيرها من قصائد الحرب الأخرى لغنائيتها وقصرها ورمزيتها المحببة.
إلا أن أهم وأشهر قصيدة نشرت في أعقاب الحرب وكتبت بوحي مباشر من الويلات التي خلفتها، هي قصيدة (الأرض الخراب) 1922 وعنوانها باللغة الإنجليزية The Waste land" لشاعر الحداثة الإنجليزي الأمريكي تي. اس. اليوت.
ومن الأعمال السينمائية التي خلدت ذكرى الحرب فيلم "كل شيء هاديء على الجبهة الغربية"، وهو الفيلم المأخوذ من رواية الكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك التي نشرت سنة 1929 وتحمل ذات الاسم All quiet on the Western Front"
في قصيدة انتويرب التي قرأ منها مصطفى سعيد الأبيات الواردة آنفا، يواسي الشاعر نساء فلاندرز بالجبهة الغربية اللائيء كنّ في انتظار عودة الجنود سالمين من جبهة الحرب. إلا أن الجنود الذين فقدوا في الحرب سوف لن يعودوا مرةً أخرى إلى أمهاتهم وزوجاتهم اللائيء ينتظرنهم في خوفٍ وترقب، وبوجوه واجمةٍ كوجوه الموتى، على الأرصفة في تشارنغ كروس بلندن وغيرها من المحطات.
إن القطار الذي تنتظر عودته أولئك النسوة بمحطة تشارنغ كروس بلندن، يستدعي تغني مصطفى سعيد بتلك الجملة الشاعرية التي هي أشبه ما تكون باللازمة الموسيقية المتكررة في لحن شجي: "وحملني القطار إلى محطة فكتوريا وإلى عالم جين موريس"، وتتكرر بصيغة أخرى وفي أكثر من موضع من الرواية: "وحملني القطار إلى لندن وإلى المأساة".
ومحطة فكتوريا التي حمل إليها القطار، مصطفى سعيد، حيث عالم جين موريس، من أكبر محطات القطارات بلندن. لاحظ أنه قال: "إلى عالم جين موريس". فاللقاء بين عالمين وليس بين شخصين فقط.
ومثلما حمل القطار الجنود إلى مأساة الحرب في فلاندرز، فقد حمله القطار هو الآخر إلى مأساة أخرى. أو بالأحرى إلى حربٍ أخرى يخوض غمارها هنا في لندن بالقوس والرمح والنشاب وبأجندة مختلفة.
*من كتابنا (في عوالم الطيب صالح)2010
abusara21@gmail.com