نصر محمد علي: عصفور حلق عاليا واخترق الغلاف الجوي
حسين الزبير
13 March, 2014
13 March, 2014
توفي والده و هو في الثالثة من عمره، و لم يحس غيابه او يدرك يتمه للرعاية التي وجدها من امه و خالاته ، ثم الرعاية الاستثنائية التي وجدها من جدته العظيمة مسكة سعيد، و لم يستوعب انه يتيم الا في مرحلة المدرسة، و زاد هذا الاحساس عنده، يوم فقد الجدة التي كانت تمثل له اسوار الامان.
كان ذكاؤه حادا و مبهرا منذ الطفولة ، اذكر اسئلته الغريبة عندما كان في المرحلة الابتدائية و كنت ازوره في كل اجازة و اتأمل شغبه هو و امين حامد زبير، يسخرون من كل شي في القرية ، من الناس و الاشياء، اذكر سؤاله لي ماذا بعد السماء، و عندما ضحكت فسر سؤاله: اذا احدثت ثقبا في سقف الغرفة ستجد السماء، ماذا نجد لو احدثنا ثقبا في السماء؟!!
ظل متفوقا في جميع مراحل الدراسة حتي تخرج من كلية طب جامعة الخرطوم ، و منذ تخرجه اصبح بقعة ضوء مبهرة، ناجح في مهنته و محبوب في كل مكان عمل به ، خصوصا مستشفي سنار. و ايام جامعة الخرطوم انتمي للاتجاه الاسلامي و حمل معهم السيخ، و قبل مغادرته للجامعة اكتشف حقيقتهم و تركهم.
كان يصر علي ان ارافقته لسينما النيل الازرق، لانه كان يعتقد ان علاج الاكتئاب لا يكون بالتفرانيل فقط، لا بد من البحث عن مصادر الفرح! اليس هذا هو لب العلاج الذي تقدمه "السايكولوجية الموجبة Positive Psychology " ؟؟! لو تسني له ان يعدل عن اصراره في التخصص في الباطنية و اختار الطب النفسي لكان احد علماء هذا الفرع الجديد في العلا ج النفسي!
في سينما النيل الازرق كانت تسبق العرض الحان جميلة لكبار الفنانين و كان يدندن مع الكابلي: من مسكة خنيصره المو شديد لاواي ..... بصوت جميل و كنت امازحه بانه لا يشبه الاخوان، و احرضه علي شرب البيرة و كان يرفض. و يوم تعاطاه لاول مرة بحث عني في اليوم التالي ليعتذر لي انه لم يبدأ هذه التجربة معي. في السنوات الاخيرة كنت اطالبه بالاقلاع عن التدخين و كان يذكرني بتحريضي له لشرب الخمر. و كان يضيف ان ذاك حرام و هذا مكروه.
و في السنوات التي مارس فيها مهنته في السودان ، كان شابا وسيما تملأ جوانحه احلام و طموحات و اماني عريضة و في تلك الفترة قابلته اولي احباطات الحياة ، فقد احب مرة واحدة في حياته، و عندما اكتشف ان حبه من طرف واحد و انها اختارت غيره، بكي بكاء الاطفال، و بعد مرور اللحظات القاسية احترم رغبتها و احترمها.
و للاستعداد لرحلته لبريطانيا للتخصص، سافر لليبيا و جمع المال اللازم للدراسة ، و سافر لبريطانيا بنفس الآمال العريضة و الحماس لمهنته، لكن يبدو ان سفره ذاك كان تماما كرحلة الشاعر حسن ابو العلا للقاهرة:
سفري السبب لي ازاي
و لانه طوال مشوار العلم ، كان بقعة الضوء المبهرة، لم يتحمل ان يخفت ضوؤه و يفشل في اجتياز امتحان ما اكثر من مرة، فتآمرت هذه التجربة مع جينات تحمل بذور المرض النفسي، فاضطرب و لم يتحمل فحلق عاليا في فضاءات الخيال مصطحبا معه احلامه و امانيه ، و لم تسعه دنيانا فحلق بعيدا حتي اخترق الغلاف الجوي. يعيش معنا ببدنه ، و في بيئة ال "survival"، الا انه الغي و اقعنا هذا في عقله و عاش في واقع من صنعه.
كنا علي اتصال دائم عندما كان في بريطانيا، و التقينا هناك عند زيارتي لبريطانيا في مرض زوجتي الراحلة، و بعد تأكيد تشخيص اطباء ابوظبي ، رافقنا للمطار و هو يطمنها و يشكك في علم الاطباء، و في المطار انتحي بي جانبا و قال لي ان هذا المرض لا علاج له و الحالة التي وصلت اليها فايزة تؤكد ان ايامها قليلة بمنطق العلم و الاعمار بيد الله. تركته علي هذه الحالة من الوعي و العقل، لكن بعد شهور تسلمت منه رسالة لم افهم منها شي و عندما ذكرت ذلك للدكتور الهادي علمت منه انه تسلم منه رسالة شبيهة، فتأكد لي انه وصل فضاءات الخيال خارج الغلاف الجوي.
لكن العلي القدير الرحيم بعباده يبتلي الانسان و يرسل مع ابتلائه قليلا من اللطف، و اللطف في حالة نصر انه كان يدخل لمكتبه في المستشفي، و يكون طبيبا مهنيا كفؤا و مقتدرا فظل معتمدا علي نفسه بالكامل، و هذه رحمة كبيرة ، جعلت منه الاخ الاكبر لزملائه في ميز مستشفي القضارف، فتحملوه و احبوه رغم ما اصابه من لسانه، و هذه المعلومة حكاها لي في لحظات العودة للواقع.
ظللت امني نفسي فترة طويلة، ان ينعم علي الرزاق الكريم بقدرة ما دية تمكنني ان املكه الشقة و السيارة و عيادة في شارع المستشفي ، لعل ذلك يحي فيه الآمال القديمة و يشتهي زينة الحياة الدنيا. لكن يبدو ان الرحمن الرحيم ، عالم الغيب و الشهادة ، اراد له امرا آخر اجل و اعظم، جنات الفردوس في دار البقاء.
رغم انها لحظة من لحظات الحزن القاسية، الا ان هنالك شكر واجب، لمن خففوا عليه وطأة المرض، اعراضها و مآلاتها: ابدأ بطبيب انسان رافقه في ليبيا عند عودته من بريطانيا ، و ليعذرني الدكتور فقد هرمنا و خربت الذاكرة، الشكر لك و لاسرتك لرعايتكم و اهتمامكم به، و الشكر لاخوانه جميعا الا انني اخص بالذكر الاخ باقر مصطفي و الاخت عاقلة مصطفي. والشكر الجزيل لزملائه في القضارف، في مقدمتهم ابن عمنا الدكتور عثمان صادق بخاري، و كل الذين آذروه في محنته ان كان في بريطانيا، ليبيا، المملكة العربية السعودية و في المناقل.
اللهم ان عبدك نصر محمد علي بين يديك الآن و انت اعلم به منا، اللهم اغفر له و ارحمه ، و اغسله من خطاياه بالماء و الثلج و البرد، و تقبله عندك مع الصديقين و الشهداء و حسن اؤلئك رفيقا.
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي اشرف الخلق و المرسلين.
Hussain Al Zubair [hussain772003@yahoo.com]