نوافذ واطلالات
علي يس الكنزي
2 February, 2014
2 February, 2014
alkanzali@gmail.com
... ولعلهم يتفكرون
تطور الجنين بين العلم والدين
(1-7)
الدعوة للتفكر والتدبر
عنوان المقال (... ولعلهم يتفكرون) مأخوذ من الآية (٤٤) من سورة النحل، هادفاًمن ورائه حمل الناس على التفكر والتدبر في آيات الله، وهي دعوة الخالق لعباده، والآية التي أخذنا منها عنوان المقالتؤكد دعوة الله للإنسان أن يتفكرُ في ملكوته (وأنزلنا أليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
حث الله الإنسان في كثير من الآيات بالتَدَبُرِ والتَفَكُرِ فيالآيات المحيطة به، أكانت هي في الأفاق،أم في أنفسنا، أم الأثنين معاً. فالله ميز الإنسان عن غيره من المخلوقات وبذر فيه ملكة التفكُر والتدبر في خلق الله للوصول إلى ذات الله مستهديا بأنبيائه ورسله، وعلى صدرهم يأتي رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
حالة التفكُر هي من الحالات العصية على النفس البشرية،فهي لا تغشى الناس إلا لماماً، لأن جل سوادنا لا يقوى ولا يرغب في الاستزادة، بل يأخذ بما جاء به الأولون: (بل قالوا إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على أثارهم لمهتدون) آية ٢٢ من سورة الزخرف.فأكثر من في الأرض يترك جهد التَفَكُرَ جانباً ويدعه لغيره كأنه فرض كفاية.لهذا نجد أغلب الناس منا يتبع الظن ويعتقد أن الحقيقة فيما يظن، متجاهلاً أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وفي مثل هؤلاء جاء قول الله: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) آية ١١٦ سورة الأنعام.
في عصرنا هذا، بل منذ عصور سبقت ترسخ لدى بعض العلماء والباحثين حالة التَفكُر والتدبُر البَنْاء والموضوعي في آيات الله في الكون، مع التفكير الناقد لما يجري حول الإنسانبحثاً عن الحق واليقين.
قليل منا تغشاهُ حالة التفكُر والتدبُر في آيات الله. فهي كالخريف لمن حُظِيَ بها، قد تأتيهم بكرةً وفي رعيان شبابه،أو وتأتيه عند أوسط العمر، أو أرزله، وقد لا تأتيه أبداً.وقد تكون خريفاً متوازناً يسمح ماؤه بإنبات الزرع وحصاده، وقد يكون خريفاً متقطعاً، يأتيك في أوله فتنبت أرضك زرعاً أخضراً يعجب الزراع، ثمتكف السماء عن فيضها فيحترق الزرع وييبس الضرع، وتحل بأرضك سنوات عجاف يأكلن ما قدمت لهن. وقد يأتيك التفكر والتدبر في آخر العمر حيث لا يسعفك الزمن أن تزرع فيه ما ينبت إلا رمزاً. وهو ما أنا فيه من حال. فقد أتتني حالة التفكُر في آيات الله وأنا على شفا قبري، فإن سمح لي العمر وهذا الخريف الذي ترعد سحبه، بخلاص نفسي من الجدب الروحي فذلك خير، أما والفسيلة بيدي وقد أزفت ساعة الفراق، فهانذا غارسها عملاً بقول الرحمة المهداة صلى الله عليه وآله وسلم: “ إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، لعل الله يغيض لها أن تكون نباتاً حسناً يستظل بظلها إنسان غيري، أما وإن رعاها فذلك فضل من الله عظيم. ولعل روحي تجد اليقين وأنا على ظهر الأرض قبل أن أكون ببطنها (وفي الأرض آياتٌ للموقنين) آية ٢٠ من سورة الذاريات،لتستوي النفس اللوامة على الجودي ثم لتتراجع مفسحة المكان للنفس المطمئنة،ليمتزج القلب مع اليقين حيث لا آسىً علي ما مضى،ولا فرحاً بما أتي، وليطمئن القلب بأن القرآن الذي بين أيدينا، والذي نتلوه أناء الليل واطراف النهار،ما كان حديثاً يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء،وهو من عند الله أنزله على عبده نبي الهدى، الرحمة المهداة، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم.
(٢ـ٧)
أولم يروا
كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ...
آية ١٩ من سورة العنكبوت
اكثر ما استوقفني في القرآن العظيم، آيات الآفاق، التي قُدِر لي أن اقرأ فيها عدداً من الكتب.كما جالستُ وحاورت من له فيها باع ومتاع وإمتاع.ألا وهو استاذنا وشيخنا الأمين محمد أحمد كعورة أمد الله في أيامه.وإني لأتعجب، ويزدادُ عجبي من المؤسسة الرئاسية السودانية التي ما فات عليها أن تقدر جهد صحفي رياضي، فسارعت بتكريمه أيما تكريم، وهو بذلك جدير، إلا أنها اغفلت من هم أحقُ منه بالتكريم، ويأتي على صدر هؤلاء هذا العالم الجليل المتفرد، ليس على مستوى السودان ولا العالم العربي فحسب، بل على مستوى العالم أجمع.فهو من القلائل الذين وهبوا وقتهم وجهدهم وفكرهم ومالهم في مجال زهدت فيه العقول ليضئ لنا نحن أمة الأسلام ويؤكد لنا أن هذا القرآن ما هو بقول بشر، وذلك من خلال كتبه العديدة التي اصدرها عن (آيات الله في الآفاق). فهلا التفتت إليه مؤسسة الرئاسة وكرمته قبل ينعاه من يعرفون قدره،حتى لا يصدق علينا القول بأننا نكرم الموتي ونغفل الأحياء “ فماذا يفيد النخل تلقيحه بعد يباسه؟”.
يبقى علم آيات الله في الآفاق عندي علم غير محسوس ولا ملموس، لأن معرفتي به أنحصرت على ما هو في صفحات الكتب ويزيدها ضعفاً ضآلة معرفتي وفهمي لعلم الفيزياء، والفيزياء الفلكية وعلم الفلك الذي لا امتلك أدواتها.علاوة على خلو يديمن مُعِينات التحقيق المعملية التي تمكن الباحث من ترسيخ معرفته. ولكن برغم محدودية معرفتي لا بد لي الإقرار بإن هذا العلم (آيات الله في الأفاق) أفادني وأعانني كثيراً على اكتشاف وفهم عظمة الخالق وقدرته على كل شئ. أما الذي قادني أو كاد يقودني إلى اليقين،فهو علم الأجنة، وإن شئت تحديداً علم (الجنين) أي تطور خلق الإنسان في رحم أمه.
علم الأجنة هو فرع من علوم علم الأحياء،أنطلقت بدياته في القرن السادس عشر على يد ثلاثة علماء ايطاليين، إلى أن تطور وأصبح علماً يدرس في المراحل الأولى من كليات العلوم. ثم ليصبح علم الأجنة في عصرنا هذاعلم في متناول يد كل راغب في المعرفة، خاصة بعد النقلة النوعية في الخمسينات من القرن الماضي واكتشاف DNAمما أتاح للإنسان معرفة أوسع في علم تطور الجنين ومكن العلماء والباحثين في أصدار كتب علمية أبانت ما خفي عنا. أما من الجانب الغيبي والإيماني وما يتصل بالخالق، فلم يتيسر لي أن اعثر على كتاب، إلا أنني قرأت أن عالم الاجنة المشهور كيث مور Keith Moor استاذ التشريح في كلية الطب جامعة تورينتو المتخصص في علم الأجنة، وفي الطبعة الثالثة من كتابه نمو الإنسان The developing Humanقد أعترف بالسبق القرآني في هذا المجال، وقال في إحدى محاضراته أنه لا يستبعد أن يأتي بعد مائة عام عالم آخر يكتشف شيئاً أخبر عنه القرآن قبل اربعة عشر عاماً! وفي مثله نزلت الآية ٨٣ من سورة المائدة: " وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ أمنا فأكتبنا مع الشاهدين". كما قرأت أن الشيخ الدكتور عبد المجيد الزنداني المؤسس للهيئة العالمية للإعجاز في القرآن والسنة ومقرها مكة المكرمة، قد أصدر كتاباً بهذا الصدد.
لهذا سيكون محور مقالي عن (تطور الجنين في رحم الأم) أي خلق الإنسان، وتحديداً قبل خروجه لهذه الحياة الدنيا، وهو خروج يماثل خروجنا من الأجداث سراعاً. فالإنسان في رحم أمه كان في غيبة مؤقتة (قبر)، ثم جاء بعثه بميلاده وخروجه من رحم أمه، ليعود لغيبته الثانية المؤقته مرة آخرى، وذلك بعد مماته (مكوثه في قبره)، ثم تنجلي عنه الغيبة الثانية يوم بعثه وخروجه من الأجداث سراعاً ذلك حشر على الله يسير.قال تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحيكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) آية ٢٨ سورة البقرة.
جعلني ظهيراً للمجرمين".
(٣ـ٧)
أطوار الخلق
في رحم الأم من الناحية القرآنية
(أفرأيتم ما تمنون* أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)
الآية ٥٨ و ٥٩ من سورة الواقعة
لنَعُدْ لقصة الخلق وأيات الله في أنفسنا، ولنقف على ما وصفهلنا القرآن عن كيف جئنا لهذه الحياة الدنيا.وبعد ذلك لندلف سوياً ونطلع على ماتوصل إليه العلم الحديث، ثم لنشهد ونحكم هل هناك توافق أو تضارب بينهما؟
ولنبدأ في النظر لجزء من الآية ٦ من سورة الزمر: “... يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق...” أي يخلقنا الله في أرحام أمهاتنا ونحن ننتقل من مرحلة إلى أخرى، أي خلقاً من بعد خلق. وهذا لعُمْرِكَ ما نريد التفكُر التدبر فيه. فهذه الآية تقودنا للآيات الخاتمات لسورة القيامة لنعرف كيف بدأ خلق الإنسان. والأيات تقول: (أيحسب الإنسان أن يترك سدىً* ألم يك نطفة من مني يمنى* ثم كان علقة فخلق فسوى)، لنلج منها مُتَدْبرينِ مُتَفْكرين فيالآية (٥) من سورة الحج لنرى ماذا حدث من تطور للعلقة: (يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمىً ثم نخرجكم طفلاً ...).
لإكتمال صورة خلق الإنسان بشتى مراحله وأطواره، فقد أعلمنا الله أفي الأيات السابقات من كتابه الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أنه خلقنا خلقاً من بعد خلق، في ظلمات ثلاث، ثم أعلمنا بأننا كنا نطفة من مني يُمنى، ثم صرنا علقة، ومن العلقة مضغة مخلقة وغير مخلقة، لتأتي الآيات من (١٢) حتى (١٤) من سورة المؤمنينلتبين لنا حقيقة تطور الجنين في رحم أمه وأكتمال بنيانه، لتزول الغشاوة من أبصارنا وأسماعنا. ولنقف عند الآية (١٤) من سورة المؤمنين، لنعلم أن المضغة صارت عظاماً، ثم كسى الله تلكم العظام لحماً ( ..فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر ...).
وبهذه الآية من سورة المؤمنين تكتمل صورة تطور الجنين في رحم الأم عند قارئ القرآن، فإذا به وهو يتلو متدبراً كأنه يملك منظاراً يسمح له بالتجول داخل رحم الأم يتحسس ويلمس ويرى بعيني قلبه الموقن أن الماء المهين تنقل في الأطوار، وتبدل في الأحوال، طوراً من بعد طور، حتى أصبح إنساناً في أحسن تقويم (فتبارك الله أحسن الخالقين).