هجرة الصحابة رضوان الله عليهم الى أرض صدق في الحبشة
عبدالجليل الشيخ
27 January, 2023
27 January, 2023
قَالَ الْمُبْرِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ رضي الله عنه- من مهاجرة الحبشة:
يا راكباً بلّغن عنّي مغلغلة ** من كان يرجو بلاغ الله والدين
كلّ امرئ من عباد الله مضطهد ** ببطن مكّة مشهور ومفتون
إنّا وجدنا بلاد الله واسعة ** تنجي من الذلّ والمخزاة والهوان
فلا تقيموا على ذلّ الحياة ولا ** خزي الممات وعيب غير مأمون
إنّا تبعنا رسول الله فاطّرحوا ** قول النبي، وكالوا بالموازين
فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا ** وعائذ بك أن يعلو فيطغوني
(1)
وفق معطيات التاريخ، فإن الحبشة ذات ارتباط بالحضارة العربية الجنوبية منذ الأزل. حيث الهجرات المتتابعة، التصاهرات الاجتماعية، و شتى مناشط الحياة كافة. و من الشواهد اللغات و المعرفة المتبادلة ، و الأحداث مثل مملكة أوسان التي حكمت بين ضفتي البحر الأحمر حتى سقطت- لم يبق من اسمها بعد حذف النون (أوسا) إقليم العفر حالياً- تحت ضربات مملكة اكسوم بنو سبأ منذ عهد الدولة المعينية،مركزها الجوف بين نجران و حضرموت(الرحيق المحتوم– ص:29). وكانوا ضد الدولة الحميرية الأولى التي أسقطت أسلافهم. مما أدى لعودتهم الى اليمن (340م) و الخروج منها قبل سَيْل الْعَرِمِ في 451م، و خراب العِمران وتشتُّت الشعوب(الرحيق المختوم – ص:30). و عاد بنو سبأ الأكسومين لليمن مرة أخرى لنصرة نصارى نجران"قصة أصحاب الأخدود" سورة البروج، و القضاء على دولة حمير الثانية. و تمكن أبرهة الذي أصبح تابعاً لهم من السيطرة على اليمن و القبائلية العربية ما بين أحلاف و أضداد حتى تمادى و سار بجيشه من الأحلاف لهدم الكعبة (570-571م)، و أهلكهم الله بطير أبابيل (سورة الفيل).
هذه أحداث حاضرةً في أذهان العرب، و مع هذا لم تؤثر في تجارة مكة . فقد ورد في الطبري، و سيرة ابن هشام، و كتاب السير أن غزوة ابرهة لم تؤثر في تجارة مكة، بل سرعان ما عادت الى الانتظام الذي كانت عليه في السابق، فكانت ارض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها من الرزق وامنا ومتجرا حسنا. واغلبها من العطور والجلود و الاقمشة والسيوف. و يصدرون لها الادم. و كانت التجارة عبر اليمن. أو مباشرة بين مينائي عدّولية و الشعيبة. وفي الشعيبة ميناء مكة،(تكسرت سفينة) أخذت قريش خشبها، و سمحت لمن فيها دخول مكة دون ان تعشرهم(لا يدفعون العشور)، حيث بنى القرشيون الكعبة بأخشاب سفينة حبشية تحطمت على ساحل البحر.
(2)
ربما، من هنا جاء اختيار الحبشة لتكون مكاناً ياوي اليه الصحابة رضوان الله عليهم. حيث ان المسلمين يكسبون حليفاً قويًّا، كما أن الهجرة لم تكن الى الحبشة عموماً، و إنما الى أرض في الحبشة(جزء)، مكان أطلق عليه "أرض صدق"، و ملك عادل. حسب ما ورد في الحديث:" لو خرجتم إِلى أرض الحبشة، فإِن بها ملكاً عادلاً، لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه". أرض صدق، مملكة مستقلةً لا تتبع لأي قوة أنذاك من الرومان(النصرانية البزنطية)، الفرس(عبدة النار)، و أحلافهم من العرب في اليمن و بلاد الشام. و بالعدل يحظى النجاشي بالإحترام و التقدير، حيث أن العدل من أساسيات حكمه بغض النظر عن العقيدة. حيث انهم أهل كتابً، و أقرب الناس للمسلمين. قال تعالى:(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ و الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).سورة المائدة (الأية:14).
(3)
البداية رحلة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، لإستكشاف الطريق جنوباً، حين قصد برك الغماد، موضع على طريق تهامة التجاري الى اليمن، تسلكه قوافل قريش وغيرها. و يؤدي في احدى طرقه الى الساحل.
ورد في كتاب البداية و النهاية لابن كثير (ج:3)، عزم أبو بكر الصديق للهجرة الى الحبشة:"خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال:أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجنى قومي، فأريد أن أسيح فى الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية فى أشراف قريش فقال لهم:إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة).
بعد فترة طلب ابن الدغنة رد ذمته:(أن ترد إلى ذمتي، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت فى رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل). فكأن ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ، حيث اكرمه الله بالهجرة مع النبي (صلى الله عليه وسلم). بسم الله الرحمن الرحيم:"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"(التوبة:40).
(4)
في رجب سنة خمس من النبوة، هاجر أول مجموعة من الصحابة الى"باضع"(مصوّع-إريتريا حالياً)، حيث تلقى عثمان بن عفان – رضي الله عنه -، التوجية بالهجرة حسب ما أخرجه محدث الشام الحافظ ابن عساكر المتوفي عام 571هجرية، و نقل عنه الحافظ السيوطي في جمع الجوامع، و عنه نقل حسام الدين الهندي في كنز العمال، في كتاب الهجرتين:"عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت أحمل الطعام إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبى وهما في الغار، فجاء عثمان إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال:يا رسول الله! إني أسمع من المشركين من الأذى فيك ما لا صبر عليه، فوجهني وجها أتوجه فلأهجرنهم في ذات الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:أزعمت يداك يا عثمان؟ قال: نعم، قال: فليكن وجهك إلى هذا الرجل بالحبشة - يعني النجاشي، فإنه ذو وفاء، واحمل معك رقية فلا تخلفها، ومن رأى معك من المسلمين مثل رأيك فليتوجهوا هناك، وليحملوا معهم نساءهم، ولا يخلفوهم، فودع عثمان نبي الله صلى الله عليه وسلم وقبل يديه، فبلغ عثمان رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم:إني خارج من تحت ليلتي، ونقيم لكم بجدة ليلة أو ليلتين، فإن أبطأتم فوجهي إلى باضع- جزيرة في البحر . و قال عنهما النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إنه لأول من هاجر بعد إبراهيم ولوط". كما ورد في سيرة ابن هشام(398:1):(أول من خرج من المسلمين من بني أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان و معه امرأته رقيّة بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم). وكان خروجهما مع نفرٌ من الصحابة ليلاً بالخفاء؛ إلى الشاطئ واستقلّوا سفينَتَين تجاريتين للوصول إلى أرض الحبشة. ولم يتجاوز عددهم ستة عشر نفراً(محمد الغزالي، فقه السيرة،ص:119. بتصرّف). و مع استمرار تعذيب المسلمين في مكّة، و حصار بني هاشم و بني المطلب في شِعَب أبي طالب، أشار الرسول على المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرةً ثانيةً. و عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشر امرأةً على رأسهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عُميس. حيث وصلوا أرض الحبشة وهم آمنين، واستقبلهم النجاشي خير استقبالٍ .(راغب السرجاني،السيرة النبوية،ص:2. بتصرّف).
(5)
أرسلت قريش رجلين من أفذاذها:عبد الله بن أبي ربيعة، عمرو بن العاص - من دهاة العرب-، حيث روى أحمد وغيره بسند حسن عن أم سلمة -رضي الله عنها- ابنة أبي أميّة، زوج النبي(صلى الله عليه وسلم) قالت:لمَّا نزلنا بأرض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشيّ، أمِنّا على ديننا، وعبدْنا الله لا نُؤذَى، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلمّا بلغ ذلك قريشاً، ائْتَمَرُوا أن يبعثوا إِلى النجاشيّ فينا رجلين جلْدَين، وأن يُهْدُوا للنجاشيّ هدايا مما يستطرف من متاع مكّة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إِليه الأَدَم، فجمعوا له أدَماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إِلا أهْدَوْا له هديّةً، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السّهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إِلى كلّ بطريق هديّته قبل أن تكلّموا النجاشيّ فيهم، ثم قدّموا للنجاشيّ هداياه، ثم سلوه أن يُسلمهم إِليكم قبل أن يكلّمهم!... قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير داره وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إِلا دفعا إِليه هديّته قبل أن يكلّما النجاشيّ، ثم قالا لكل بطريق منهم: إِنه قد صَبَا إِلى بلد الملك منّا غلمانٌ سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إِلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردَّهم إِليهم، فإِذا كلّمْنا الملك فيهم، فتُشيروا عليه بأن يسْلمهم إِلينا، ولا يكلِّمهم، فإِن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم!. ثم إِنهما قرّبا هداياهم إِلى النجاشيّ فقبلها منهما، ثم كلّماه، فقالا له: أيها الملك، إِنه قد صبا إِلى بلدك منا غلمان سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنَا إِليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردَّهم إِليهم، فهم أعلى بهم عَيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبْغض إِلى عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص، من أن يسمع النجاشيّ كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صَدَقوا أيّها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمْهم إِليهما، فليرُدّاهُم إِلى بلادهم وقومهم، فقالت: فغضب النجاشي، ثم قال:" لا أُسلمهم إِليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهُم ما يقول هذان في أمرهم، فإِن كانوا كما يقولان، أسْلَمتهم إِليهما وردَدْتُهم إِلى قومهم، وإِن كانوا على غير ذلك، مَنعْتُهم منهما، وأحسنْتُ جوارهم ما جاوروني!
اللقاء الأول أمام النجاشي بين وفد قريش و المهاجرين:
قالت -الحديث لأم سلمة -رضي الله عنها- ثم أرسل إِلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدعاهم، فلمّا جاءهم رسوله، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إِذ اجئتموه؟ قالوا: نقول والله! ما علمنا، وما أمرنا به نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) كائنٌ في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشيّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدّين الذي فارقْتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحدٍ من هذه الأمم؟!... قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث الله إِلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافَه، فدعانا إِلى الله لنوحِّده ونعبَده، ونخلَعَ ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان!... وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة!... وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدّد عليه أمور الإِسلام- فصدّقناه، وأمنّا به، واتبعناه على ما جاء به!... فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلّ لنا، فَعَدَا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليرُدُّونا إِلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على مَن سواك، ورغِبنا في جوارك، ورجَوْنا أن لا نُظْلم عندك أيّها الملك! . قالت: فقال له النجاشيّ: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نَعَم، فقال له النجاشي: فاقْرَأْ عليّ، فقرأ عليه صدْراً من (كهيعص) قالت: فبكى، والله! النجاشيّ حتى أخضل لْحيته، وبكتْ أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال له النجاشي: إِن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله! لا أسلمهم إِليكم أبداً، ولا أكاد!
اللقاء الثاني أمام النجاشي بين وفد قريش و المهاجرين:
قالت أم سلمة: فلمّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله! لأنبئنّه غداً عَيْبَهم عنده، ثم أستأصِل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتْقَى الرجلين فينا: لا تفعل، فإِن لهم أرحاماً، وإِن كانوا قد خالفونا، قال: والله! لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدًا عليه الغد، فقال له أيّها الملك: إِنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأَرْسِلْ إِليهم فاسألهُمْ عما يقولون فيه، قالت: فأرسَل إِليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إِذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله! فيه ما قال الله وما جاء به نبيّنا، كائناً في ذلك ما هو كائن، فلمّا دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيّنا: هو عبد الله ورسوله ورُوحه، وكلمته ألقاها إِلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشيّ يده إِلى الأرض، فأخذ منها غوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العُودَ. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإِن نَخَرْتُم والله! اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي (والسُّيُوم: الآمنون) هَنْ سَبَّكُم غُرِّمَ، ثم من سبّكم غُرِّم، ثم من سبّكم غُرِّم، فما أحِبُّ أن لي دبْراً ذهباً وإِنِّي آذيت رجلاً منكم (والدّبر بلسان الحبشة: الجبل) رُدّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله! ما أخذ الله منّي الرِّشْوة حين رَدَّ عليّ مُلكي، فآخُذَ الرَّشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه، قالت فخرجا من عنده مقْبوحين، مردوداً عليهما ما جاءا به. قالت : أقمنا عنده بخير دار مع خير جار!.. قالت: فوالله! إِنا على ذلك إِذْ نَزَل به، يعني من يُنازعه في حُكمه، قالت: فوالله! ما علمنا حُزْناً قطّ كان أشدَّ من حُزن حَزِنّاه، عند ذلك، تخوّفاً أن يظهر ذلك على النجاشيّ، فيأتي رجل لا يعرف من حَقّنا ما كان النجاشيّ يعرف منه، قالت: وسار النجاشيّ وبينهما عرْض النّيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم):مَنْ رجلٌ يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت فقال الزّبير بن العوام: أنا، قال: وكان من أحدث القوم سِناً، قالت: فنفخوا له قِربةً، فجعلها في صدره، ثم سَبَح عليها، حتى خرج إِلى ناحية النيّل التي بها مَلْتَقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعوْنا الله للنجاشيّ بالظّهور على عدوّه، والتمكين له في بلاده، واستَوْسَق عليه أمر الحبشة، فكنّا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يطول الحديث عن الهجرة الى الحبشة دار امان للمسلمين و لغيرهم. فقد عمد اليها عمرو بن العاص خوفاً من المسلمين بعد غزوة الخندق. و سبحان الله، عاد مسلماً بعد أن أسلم بين يدّي النجاشي رضي الله عنهما. حيث روى أحمد وغيره بسند حسن(4/198)، كما في المجمع (9/351)، و البيهقي في الكبرى(9/123)، منقول باختصار:عن حبيب الثقفي قال:حدثني عمرو بن العاص، فقال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم:تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا، وإني قد رأيت أمرًا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن تلحقوا بالنجاشي فتكونوا عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير. قال -الحديث لعمرو بن العاص-،:ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذا جاءه، عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده. قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطينه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه، ثم قلت له:أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال:قلت:أيها الملك، أكذلك؟ قال:ويحك يا عمرو:أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق،وليظهرن على من خلفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي).
هكذا أسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، و لحق بالمهاجرين العائدين الى المدينة ليعلن اسلامه بين يدّي النبي صلى الله عليه و سلم في السنة الثامنة من الهجرة.
هذه شذرات منقولة بتصرف عن هجرة الصحابة رضوان الله عليهم نذكرها كلما هل هلال رجب من كل عام
،"اللهم بارك في رجب و شعبان و بلغنا رمضان". و دمتم في حفظ الله أجمعين.
jaliloa1999@gmail.com
//////////////////////////
يا راكباً بلّغن عنّي مغلغلة ** من كان يرجو بلاغ الله والدين
كلّ امرئ من عباد الله مضطهد ** ببطن مكّة مشهور ومفتون
إنّا وجدنا بلاد الله واسعة ** تنجي من الذلّ والمخزاة والهوان
فلا تقيموا على ذلّ الحياة ولا ** خزي الممات وعيب غير مأمون
إنّا تبعنا رسول الله فاطّرحوا ** قول النبي، وكالوا بالموازين
فاجعل عذابك في القوم الذين بغوا ** وعائذ بك أن يعلو فيطغوني
(1)
وفق معطيات التاريخ، فإن الحبشة ذات ارتباط بالحضارة العربية الجنوبية منذ الأزل. حيث الهجرات المتتابعة، التصاهرات الاجتماعية، و شتى مناشط الحياة كافة. و من الشواهد اللغات و المعرفة المتبادلة ، و الأحداث مثل مملكة أوسان التي حكمت بين ضفتي البحر الأحمر حتى سقطت- لم يبق من اسمها بعد حذف النون (أوسا) إقليم العفر حالياً- تحت ضربات مملكة اكسوم بنو سبأ منذ عهد الدولة المعينية،مركزها الجوف بين نجران و حضرموت(الرحيق المحتوم– ص:29). وكانوا ضد الدولة الحميرية الأولى التي أسقطت أسلافهم. مما أدى لعودتهم الى اليمن (340م) و الخروج منها قبل سَيْل الْعَرِمِ في 451م، و خراب العِمران وتشتُّت الشعوب(الرحيق المختوم – ص:30). و عاد بنو سبأ الأكسومين لليمن مرة أخرى لنصرة نصارى نجران"قصة أصحاب الأخدود" سورة البروج، و القضاء على دولة حمير الثانية. و تمكن أبرهة الذي أصبح تابعاً لهم من السيطرة على اليمن و القبائلية العربية ما بين أحلاف و أضداد حتى تمادى و سار بجيشه من الأحلاف لهدم الكعبة (570-571م)، و أهلكهم الله بطير أبابيل (سورة الفيل).
هذه أحداث حاضرةً في أذهان العرب، و مع هذا لم تؤثر في تجارة مكة . فقد ورد في الطبري، و سيرة ابن هشام، و كتاب السير أن غزوة ابرهة لم تؤثر في تجارة مكة، بل سرعان ما عادت الى الانتظام الذي كانت عليه في السابق، فكانت ارض الحبشة متجراً لقريش يتجرون فيها من الرزق وامنا ومتجرا حسنا. واغلبها من العطور والجلود و الاقمشة والسيوف. و يصدرون لها الادم. و كانت التجارة عبر اليمن. أو مباشرة بين مينائي عدّولية و الشعيبة. وفي الشعيبة ميناء مكة،(تكسرت سفينة) أخذت قريش خشبها، و سمحت لمن فيها دخول مكة دون ان تعشرهم(لا يدفعون العشور)، حيث بنى القرشيون الكعبة بأخشاب سفينة حبشية تحطمت على ساحل البحر.
(2)
ربما، من هنا جاء اختيار الحبشة لتكون مكاناً ياوي اليه الصحابة رضوان الله عليهم. حيث ان المسلمين يكسبون حليفاً قويًّا، كما أن الهجرة لم تكن الى الحبشة عموماً، و إنما الى أرض في الحبشة(جزء)، مكان أطلق عليه "أرض صدق"، و ملك عادل. حسب ما ورد في الحديث:" لو خرجتم إِلى أرض الحبشة، فإِن بها ملكاً عادلاً، لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه". أرض صدق، مملكة مستقلةً لا تتبع لأي قوة أنذاك من الرومان(النصرانية البزنطية)، الفرس(عبدة النار)، و أحلافهم من العرب في اليمن و بلاد الشام. و بالعدل يحظى النجاشي بالإحترام و التقدير، حيث أن العدل من أساسيات حكمه بغض النظر عن العقيدة. حيث انهم أهل كتابً، و أقرب الناس للمسلمين. قال تعالى:(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ و الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).سورة المائدة (الأية:14).
(3)
البداية رحلة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، لإستكشاف الطريق جنوباً، حين قصد برك الغماد، موضع على طريق تهامة التجاري الى اليمن، تسلكه قوافل قريش وغيرها. و يؤدي في احدى طرقه الى الساحل.
ورد في كتاب البداية و النهاية لابن كثير (ج:3)، عزم أبو بكر الصديق للهجرة الى الحبشة:"خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال:أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجنى قومي، فأريد أن أسيح فى الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية فى أشراف قريش فقال لهم:إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة).
بعد فترة طلب ابن الدغنة رد ذمته:(أن ترد إلى ذمتي، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى أخفرت فى رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإنى أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل). فكأن ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ، حيث اكرمه الله بالهجرة مع النبي (صلى الله عليه وسلم). بسم الله الرحمن الرحيم:"إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"(التوبة:40).
(4)
في رجب سنة خمس من النبوة، هاجر أول مجموعة من الصحابة الى"باضع"(مصوّع-إريتريا حالياً)، حيث تلقى عثمان بن عفان – رضي الله عنه -، التوجية بالهجرة حسب ما أخرجه محدث الشام الحافظ ابن عساكر المتوفي عام 571هجرية، و نقل عنه الحافظ السيوطي في جمع الجوامع، و عنه نقل حسام الدين الهندي في كنز العمال، في كتاب الهجرتين:"عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت أحمل الطعام إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبى وهما في الغار، فجاء عثمان إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال:يا رسول الله! إني أسمع من المشركين من الأذى فيك ما لا صبر عليه، فوجهني وجها أتوجه فلأهجرنهم في ذات الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:أزعمت يداك يا عثمان؟ قال: نعم، قال: فليكن وجهك إلى هذا الرجل بالحبشة - يعني النجاشي، فإنه ذو وفاء، واحمل معك رقية فلا تخلفها، ومن رأى معك من المسلمين مثل رأيك فليتوجهوا هناك، وليحملوا معهم نساءهم، ولا يخلفوهم، فودع عثمان نبي الله صلى الله عليه وسلم وقبل يديه، فبلغ عثمان رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم:إني خارج من تحت ليلتي، ونقيم لكم بجدة ليلة أو ليلتين، فإن أبطأتم فوجهي إلى باضع- جزيرة في البحر . و قال عنهما النبي صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده إنه لأول من هاجر بعد إبراهيم ولوط". كما ورد في سيرة ابن هشام(398:1):(أول من خرج من المسلمين من بني أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان و معه امرأته رقيّة بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم). وكان خروجهما مع نفرٌ من الصحابة ليلاً بالخفاء؛ إلى الشاطئ واستقلّوا سفينَتَين تجاريتين للوصول إلى أرض الحبشة. ولم يتجاوز عددهم ستة عشر نفراً(محمد الغزالي، فقه السيرة،ص:119. بتصرّف). و مع استمرار تعذيب المسلمين في مكّة، و حصار بني هاشم و بني المطلب في شِعَب أبي طالب، أشار الرسول على المسلمين بالهجرة إلى الحبشة مرةً ثانيةً. و عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشر امرأةً على رأسهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عُميس. حيث وصلوا أرض الحبشة وهم آمنين، واستقبلهم النجاشي خير استقبالٍ .(راغب السرجاني،السيرة النبوية،ص:2. بتصرّف).
(5)
أرسلت قريش رجلين من أفذاذها:عبد الله بن أبي ربيعة، عمرو بن العاص - من دهاة العرب-، حيث روى أحمد وغيره بسند حسن عن أم سلمة -رضي الله عنها- ابنة أبي أميّة، زوج النبي(صلى الله عليه وسلم) قالت:لمَّا نزلنا بأرض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشيّ، أمِنّا على ديننا، وعبدْنا الله لا نُؤذَى، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلمّا بلغ ذلك قريشاً، ائْتَمَرُوا أن يبعثوا إِلى النجاشيّ فينا رجلين جلْدَين، وأن يُهْدُوا للنجاشيّ هدايا مما يستطرف من متاع مكّة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إِليه الأَدَم، فجمعوا له أدَماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إِلا أهْدَوْا له هديّةً، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السّهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إِلى كلّ بطريق هديّته قبل أن تكلّموا النجاشيّ فيهم، ثم قدّموا للنجاشيّ هداياه، ثم سلوه أن يُسلمهم إِليكم قبل أن يكلّمهم!... قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير داره وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إِلا دفعا إِليه هديّته قبل أن يكلّما النجاشيّ، ثم قالا لكل بطريق منهم: إِنه قد صَبَا إِلى بلد الملك منّا غلمانٌ سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إِلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردَّهم إِليهم، فإِذا كلّمْنا الملك فيهم، فتُشيروا عليه بأن يسْلمهم إِلينا، ولا يكلِّمهم، فإِن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم!. ثم إِنهما قرّبا هداياهم إِلى النجاشيّ فقبلها منهما، ثم كلّماه، فقالا له: أيها الملك، إِنه قد صبا إِلى بلدك منا غلمان سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنَا إِليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردَّهم إِليهم، فهم أعلى بهم عَيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبْغض إِلى عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص، من أن يسمع النجاشيّ كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صَدَقوا أيّها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمْهم إِليهما، فليرُدّاهُم إِلى بلادهم وقومهم، فقالت: فغضب النجاشي، ثم قال:" لا أُسلمهم إِليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهُم ما يقول هذان في أمرهم، فإِن كانوا كما يقولان، أسْلَمتهم إِليهما وردَدْتُهم إِلى قومهم، وإِن كانوا على غير ذلك، مَنعْتُهم منهما، وأحسنْتُ جوارهم ما جاوروني!
اللقاء الأول أمام النجاشي بين وفد قريش و المهاجرين:
قالت -الحديث لأم سلمة -رضي الله عنها- ثم أرسل إِلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدعاهم، فلمّا جاءهم رسوله، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إِذ اجئتموه؟ قالوا: نقول والله! ما علمنا، وما أمرنا به نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) كائنٌ في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشيّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدّين الذي فارقْتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحدٍ من هذه الأمم؟!... قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث الله إِلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافَه، فدعانا إِلى الله لنوحِّده ونعبَده، ونخلَعَ ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان!... وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة!... وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدّد عليه أمور الإِسلام- فصدّقناه، وأمنّا به، واتبعناه على ما جاء به!... فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلّ لنا، فَعَدَا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليرُدُّونا إِلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على مَن سواك، ورغِبنا في جوارك، ورجَوْنا أن لا نُظْلم عندك أيّها الملك! . قالت: فقال له النجاشيّ: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نَعَم، فقال له النجاشي: فاقْرَأْ عليّ، فقرأ عليه صدْراً من (كهيعص) قالت: فبكى، والله! النجاشيّ حتى أخضل لْحيته، وبكتْ أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال له النجاشي: إِن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله! لا أسلمهم إِليكم أبداً، ولا أكاد!
اللقاء الثاني أمام النجاشي بين وفد قريش و المهاجرين:
قالت أم سلمة: فلمّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله! لأنبئنّه غداً عَيْبَهم عنده، ثم أستأصِل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتْقَى الرجلين فينا: لا تفعل، فإِن لهم أرحاماً، وإِن كانوا قد خالفونا، قال: والله! لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدًا عليه الغد، فقال له أيّها الملك: إِنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأَرْسِلْ إِليهم فاسألهُمْ عما يقولون فيه، قالت: فأرسَل إِليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إِذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله! فيه ما قال الله وما جاء به نبيّنا، كائناً في ذلك ما هو كائن، فلمّا دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيّنا: هو عبد الله ورسوله ورُوحه، وكلمته ألقاها إِلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشيّ يده إِلى الأرض، فأخذ منها غوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العُودَ. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإِن نَخَرْتُم والله! اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي (والسُّيُوم: الآمنون) هَنْ سَبَّكُم غُرِّمَ، ثم من سبّكم غُرِّم، ثم من سبّكم غُرِّم، فما أحِبُّ أن لي دبْراً ذهباً وإِنِّي آذيت رجلاً منكم (والدّبر بلسان الحبشة: الجبل) رُدّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله! ما أخذ الله منّي الرِّشْوة حين رَدَّ عليّ مُلكي، فآخُذَ الرَّشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه، قالت فخرجا من عنده مقْبوحين، مردوداً عليهما ما جاءا به. قالت : أقمنا عنده بخير دار مع خير جار!.. قالت: فوالله! إِنا على ذلك إِذْ نَزَل به، يعني من يُنازعه في حُكمه، قالت: فوالله! ما علمنا حُزْناً قطّ كان أشدَّ من حُزن حَزِنّاه، عند ذلك، تخوّفاً أن يظهر ذلك على النجاشيّ، فيأتي رجل لا يعرف من حَقّنا ما كان النجاشيّ يعرف منه، قالت: وسار النجاشيّ وبينهما عرْض النّيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وسلم):مَنْ رجلٌ يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت فقال الزّبير بن العوام: أنا، قال: وكان من أحدث القوم سِناً، قالت: فنفخوا له قِربةً، فجعلها في صدره، ثم سَبَح عليها، حتى خرج إِلى ناحية النيّل التي بها مَلْتَقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعوْنا الله للنجاشيّ بالظّهور على عدوّه، والتمكين له في بلاده، واستَوْسَق عليه أمر الحبشة، فكنّا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
يطول الحديث عن الهجرة الى الحبشة دار امان للمسلمين و لغيرهم. فقد عمد اليها عمرو بن العاص خوفاً من المسلمين بعد غزوة الخندق. و سبحان الله، عاد مسلماً بعد أن أسلم بين يدّي النجاشي رضي الله عنهما. حيث روى أحمد وغيره بسند حسن(4/198)، كما في المجمع (9/351)، و البيهقي في الكبرى(9/123)، منقول باختصار:عن حبيب الثقفي قال:حدثني عمرو بن العاص، فقال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم:تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا، وإني قد رأيت أمرًا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن تلحقوا بالنجاشي فتكونوا عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير. قال -الحديث لعمرو بن العاص-،:ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذا جاءه، عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده. قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطينه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه، ثم قلت له:أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال:قلت:أيها الملك، أكذلك؟ قال:ويحك يا عمرو:أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق،وليظهرن على من خلفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي).
هكذا أسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، و لحق بالمهاجرين العائدين الى المدينة ليعلن اسلامه بين يدّي النبي صلى الله عليه و سلم في السنة الثامنة من الهجرة.
هذه شذرات منقولة بتصرف عن هجرة الصحابة رضوان الله عليهم نذكرها كلما هل هلال رجب من كل عام
،"اللهم بارك في رجب و شعبان و بلغنا رمضان". و دمتم في حفظ الله أجمعين.
jaliloa1999@gmail.com
//////////////////////////