هذا التقرير “الإدانة”، سيلاحقكم أينما ذهبتم -3- … بقلم: صديق عبد الهادي

 


 

 

مقال الاحد

الحلقة الثالثة وقبل الاخيرة     
    Siddiq01@sudaneseeconomist.com  

عرضنا في الحلقة الفائته، اي الثانية، وبتركيزٍ، لقضيتين هامتين تناولهما تقرير "لجنة بروفيسور عبد الله عبد السلام". الأولى، كانت هي قضية التصرف الجزافي في ممتلكات وأصول المشروع بذلك الشكل غير القانوني الذي وصل حد النهب والسرقة، وذلك ببيعها لمحظيِّ سلطة الانقاذ من الرأسماليين الطفيليين الاسلاميين، مما نتج عنه إستيلاؤهم وبالكامل على البني الاساسية للمشروع ، وواحدٌ من أمثلتها الحية مرفق سكك حديد  الجزيرة الذي بيع على قاعدة "الحديد الخردة"!!!. أما القضية الثانية فهي مجزرة تصفية الخدمة المدنية بكل جوانبها الفنية والمهنية والإنتاجية وتشريد كل العاملين بمشروع الجزيرة. وهي التصفية الاكبر في تاريخ السودان. ولقد تمت الاشارة إلى حقيقة أنها أًنجزت ونُفذت على ضوء الدراسة التي تقدم بها الأتراك في هذا الشأن!!!. وفي كلتا القضيتين إنطوى نقد التقرير على بيناتٍ صلبة وإحصائياتٍ دقيقة اغنت علميته وأكدت موضوعيته للحد الذي جعل من الصعب جداً الطعن في مصداقيته هذا اولاً، او التقليل من جدواه ثانياً. وذلك بالقطع مما سنشير إليه في خاتم هذا العرض.
التقرير و"مخاضة" أو "مخادة" قانون سنة 2005م، سيئ الذكر!!!:
قدم التقرير نقداً للقانون في اهم جوانبه. واول تلك الجوانب كانت تجربة "روابط مستخدمي المياه". ويمكن في هذا المقام القول بأن فكرة "روابط مستخدمي المياه" كانت هي احد اهم الفوارق بين قانون 2005م وما سبقه من قوانيين في تاريخ مشروع الجزيرة. جاء نقد اللجنة عميقاً حيث انه لم يتوسل ما هو نظري بقدر ما انه إعتمد على واقع تجربة الري وكيفية إدارة التصرف في المياه في المشروع ، وهي تجربة وضح انها لا تنفصل عن مجمل الجوانب الفنية التي صمم عليها المشروع نفسه. ولقد اوضحت اللجنة بأن عملية الري وإدارتها التي تبدأ من تحت والى اعلى ليست بتلك البساطة حتى يتم تركها لنفر لا يربط بينهم تدرجٌ في المسئولية يعين فى التعامل مع قضية مثل قضية المياه، وفي مشروعٍ على قدر عال من الاهمية على كل المستويات، وفي وقت اصبحت فيه "المياه" قضية امن قومي ليست للسودان وحسب وانما لكل الدول المشاركة في حوض النيل، بل وللعالم حيث جاء في التقرير،" وأيضاً هناك سبب اساسي لم توضع له التحوطات اللازمة وهو ما يتعلق بطلب المياه، فقد ألغيّ دور مكاتب التفتيش الزراعية والتي كانت تقوم بعملية طلب المياه من اقسام الري في المنطقة المعنية. فهناك صعوبة حقيقية لطلب المياه بواسطة الروابط ولا توجد الآلية المناسبة لعملية طلب المياه كما كانت سابقاً، تتم عبر 114 مكتب تفتيش لـ 23 قسم مرة واحدة في الاسبوع  (الثلاثاء) ويومياً حسب الضرورة أثناء فترة الخريف، والآن فإن وزارة الري تمد المشروع بالمياه إجتهاداً منها أو إستجابة للشكاوى الواردة لها وليس هناك طلب رسمي بكميات محددة من اى جهة حسب العقود الموقعة مع الروابط لان هذه الطلبات يفترض ان تتغير اسبوعياً حسب نمو المحاصيل مكاناً وزماناً". وتمضي اللجنة وتقريرها خطوة أبعد في نقد فكرة وتجربة الروابط  وذلك بتسليط الضوء على ارث المشروع وعلى ما هو مجرب من نظمه فى مجال الري، " وحسب نظم الري المعمول بها منذ نشأة المشروع أن تتم طلبات المياه من الخلف إلى الامام بمعنى ان تجمع طلبات الاقسام الطرفية في نهاية المشروع وترسل  إلى الاقسام التي امامها لتضاف إلى احتياجاتها ومن ثم ترفع إلى الاقسام الامامية قرب الخزان، وبعد تجميع كل إحتياجات المشروع تطلب بواسطة القنطرة الرئيسية عند الكيلو 57 من الخزان (على الترعة الرئيسية) من ادارة الخزان، وبعد تنفيذ طلبات المياه تأخذ الاقسام الامامية إحتياجاتها وتمرر الباقي للخلف ليأخذ كل قسم إحيتاجاته. هذه العملية توقفت بعد تنفيذ قانون عام 2005م، ولم تنشأ آلية جديدة لتحل محلها لذا هناك فوضى  وإهدار للمياه بالمشروع، وقد ذكر السيد مدير خزان سنار أن المياه التي مرت من خلال الخزان خلال الموسم 2008 ـ 2009 قد تجاوزت الـ 36 مليون متر مكعب في اليوم الواحد وهذا يشكل خطورة حقيقية على الترعة الرئيسة للمشروع ويزيد عن الاحتياج الحقيقي بحوالي 8 مليون متر مكعب وفي هذا إهدار لمورد عزيز وغالي" ـ التقرير ص 27 ـ. هذا المقتطف المطول حتمته ضرورة تبيان الخطر الماثل من وراء التوقعات غير الواقعية وإعطاء دور لروابط مستخدمي المياه هو في واقع الامر اكبر منها ولا يمكن لها ان تطلع به بأية حال من الاحوال.
جاء هذا النقد في شأن روابط مستخدمي المياه مختلفاً عن نقد متعدد قام به آخرون، ومن ضمنهم كاتب هذا المقال، حيث لم يكن نقدهم بعمق ما تضمنه تقرير هذه اللجنة. هناك ثلاثة ملاحظات متعلقة بنقد هذا التقرير لتجربة روابط مستخدمي المياه/
اولاً/ على ضوء الحقائق والواقع الذي تعيشه حالة الري اليوم في المشروع يبدو انه لابد من إعادة النظر في دور وطبيعة روابط مستخدمي المياه، هذا إن لم يكن في وجودها نفسه، لانه قد وضح ان قضية المياه والري اكثر تعقيداً من ان يتم التصدى لها بواسطة أشكال تفتقر للتخصص العلمي والتأهيل الفني، وتلك متطلبات لايمكن المزايدة حولها.
ثانياً/ وضح من تجربة السنوات القليلة الماضية ان العمل الذي تقوم به روابط مستخدمي المياه فعلياً حتى يومنا هذا هو اقرب لعمل الجبايات منه لاي شيئٍ آخر، بل وانه وبإستقدام شركة الهدف الامنية التابعة للنافذين من الرأسماليين الطفيليين الاسلامين أضحت الروابط وهذه الشركة اقرب لان يكونا وجهين لعملة واحدة مما دفع بالروابط إلى خارج حيز العمل الذي كان مناطاً بها القيام به اصلاً. وهذا بدوره يعضد مما جاء في النقطة السابقة حول دور وطبيعة وجدوى روابط مستخدمي المياه!!!.
ثالثاًً/  يبدو من الإضاءات الواردة في التقرير حول مسألة الروابط أن إستشارة  ذوي الدراية والخبرة لم تكن ركناً اساساً في صياغة قانون 2005م، خاصة فيما يتعلق بإدراج فكرة روابط مستخدمي المياه، وإلا لما تمّ إغفال مثل تلك الملاحظات بالغة الخطورة في شأن الري وقضية المياه التي لخصتها اللجنة بالاستناد إلى ما كان حادثاً في المشروع، هذا من جانب التطبيق.
 أما من ناحية التنظير فهناك العديد من الاستفهامات، ومن بينها ذلك السؤال الذي اوردناه من قبل في التعقيب على المقالات الموسومة للدكتور سلمان محمد احمد سلمان، خبير البنك الدولي المعروف، حول مشروع الجزيرة، والمنشورة في يونيو 2008م، وقد جاء فيه، "نعلم أن د.سلمان واحدٌ من المنظرين على مستوى العالم لمسألة المياه ولروابط مستخدميها على وجه الخصوص. التساؤل هو كيف سيتسنى له حل التناقض أو بالسوداني حل "الشِبْكة"، على الأقل، على المستوى النظري بين حُلمِه بأن تضع "روابط مستخدمي المياه" وبما لها من طبيعة تضامنية وتعاونية مسألة المياه بين أيدي المنتجين والعامة من الناس، وبين مبدأ سياسة الخصخصة التي يتبناها البنك الدولي كوسيلة للتعديل الهيكلي للاقتصاد ويحاول بشتى السبل الضغط على الدول النامية والفقيرة الإلتزام بها كشرط لمنح المساعدة؟. أسأل هذا السؤال واضعاً في الإعتبار طبيعة الملكية الحالية للأرض والحواشات في مشروع الجزيرة، والتي تؤهله دون شك لتطبيق فكرة روابط مستخدمي المياه حيث يوجد حوالي 128 ألف مزارع. وذلك وضعٌ ستلغيه الخصخصة حين يصبح المشروع مملوكاً لمؤسسات رأسمالية ضخمة محدودة العدد!!. وأمر خصخصة مشروع الجزيرة أصبح اليوم ممكن الحدوث أكثر من أي وقتٍ مضى وبنص قانون سنة 2005م الذي إستند في صياغته على توصيات البنك الدولي".(راجع كتاب مشروع الجزيرة وجريمة قانون 2005م، (ص100- 101).
ومن الملاحظات الدقيقة التي ابداها أعضاء اللجنة في تقريرهم أن "قانون مشروع الجزيرة لعام 2005م لم يحدد اجلاً او قيداً زمنياً لمجلس الإدارة وهو من الامور البديهية مما يدل ان القانون وضع على عجل" (التقرير ـ ص 28). وهذه ملاحظة لا يمكن غير الاتفاق معها وخاصة فيما يتعلق بـ"وضع القانون على عجل" وهناك شواهد أخرى عديدة على ذلك أقلها عدم تفصيل القانون فيما يخص اصول المشروع وعدم إعترافه بأن هناك ممتلكات خاصة من تلك الاصول تابعة للمزارعين وبسندات توضح اسهمهم الفردية فيها!!!.
ومن ضمن قضايا كثيرة تتفاوت في اهميتها تعرض التقرير لما سُميّ بمبدأ "إختيار المحاصيل" وخلص إلى انه يتعارض مع طبيعة المشروع والاسس التي قام عليها تصميمه.
وفي ختام هذه الحلقة لابد من التوضيح بأن موضوعة "روابط مستخدمي المياه" حظيت بالتوقف المطول والتناول الخاص لان الفكرة نفسها وتطبيقها في مشروع الجزيرة مثَّلا واحدة من اوجه الاختلاف بين قانون سنة 2005م والقوانيين الاخرى التي تمّ العمل بها في مشروع الجزيرة  منذ إنشائه. وقد كان نقد اللجنة لها هو الاكثر دقة بحسب ان اعضاء اللجنة إتخذوا من تجربة المشروع في الثمانين عاماً الماضية معياراً في الحكم عليها  وذلك كان، بالقطع، منحاً اكثر موضوعية من سواه.
ـــــــــــــــ.
(*) نشرته الايام في يوم الأحد الموافق 17 أكتوبر 2010م.

 

آراء