هذه الحرب باطلة وما نتج عنها من مفاسد لا يكسبها شرعية “جهاد الدفع”

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
عقِب نشر مقالي السابق بتاريخ 20 يوليو 2023 بعنوان "وقف الحرب بين الجيش والدعم السريع واجب شرعي"، والذى أشرت فيه الى أن هذه الحرب بين طائفتين مسلمتين وأنها قد تسببت في مفاسد عظيمة أخرجتها من أي مسوغ شرعي لذا يتوجب على السلطة القضائية في البلاد التدخل للأمر بوقف القتال والفصل بين طرفي النزاع كما أمر الله سبحانه وتعالى في الآية التاسعة من سورة الحجرات، تحدث نفر من الناس قائلين بأن الحرب التي يخوضها الجيش جهاد شرعي لدفع بغى وظلم من استولوا على بيوت وأموال المواطنين ظلما وعدوانا وهتكوا أعراض النساء وقتلوا المواطنين المسالمين. فى هذا المقال ابين المزيد من التفاصيل المتعلقة بهذا الأمر وأرد على من وصف هذه الحرب بأنها “جهاد دفع" أنه قد حكم على نتائج الحرب وأغفل الحكم على الحرب التي هي منشأ ومنبع البلاء، وأبين أن وقف الحرب هو الأصلح لدرء آثارها ونتائجها وأن تمديد أمد ونطاق الحرب سوف يجلب المزيد من المفاسد العظيمة المحرمة شرعا. والله ولي التوفيق.

في البدء أود أن ابين أحكاما تتعلق باندلاع الحرب وأحكاما أخرى تتعلق بمفاسد وجرائم عظيمة نتجت عن الحرب وارتكبت في حق المدنيين الذين لم يشاركوا في الحرب وهم ليسوا جزءا منها. هذه المفاسد العظيمة محرمة تحريما مطلقا ولا تجوز في زمن الحرب كما لا تجوز زمن السلم على السواء، ولا أرى سبيلا لمنع هذه المفاسد إلا بالوقف الفوري للحرب التي شكلت مناخا من غياب القانون ترتكب فيه المفاسد دون رادع.

أهمية التفكر في تسلسل الأحداث والأسباب والنتائج قبل الحكم:
قيادة القوات المسلحة وصفت الحرب في بدايتها في الخامس عشر من ابريل بأنها تمرد من الدعم السريع والذي هو جزء من القوات المسلحة ضد قيادة القوات المسلحة، أي أنه شأن داخلي وسط العسكر لم يكن المواطن الآمن في داره طرفا فيه. وهذا الوصف للحرب ينطبق عليه حكم الله سبحانه في الآية التاسعة من سورة الحجرات: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
يوم أن اندلعت هذه الحرب في الخامس عشر من ابريل لم يكن الدعم السريع قد انتهج الاستيلاء على منازل المواطنين وأموالهم وانتهاك أعراضهم كاستراتيجية للقتال في الخرطوم، وإن كان نفس هذا النهج قد مارسه الدعم السريع في دارفور لسنين عديدة في ظل مباركة وغطاء وتعتيم وانكار كاذب من حكومة المؤتمر الوطني. عندما اندلعت الحرب في الخامس عشر من ابريل استخدم الجيش استراتيجية القصف الجوي لمعسكرات الدعم السريع في الخرطوم فيما يبدوا كخطة لإبادة كل من فيها وحسم الحرب بضربات جوية خاطفة وحاسمة فى وقت وجيز. كانت النتيجة معاكسة تماما. هرب جنود الدعم السريع من قصف معسكراتهم الى داخل الأحياء السكنية وبدأت استراتيجية الاستيلاء على بيوت المواطنين والاختباء فيها. وبعد أسابيع قليلة أصبح الاستيلاء على أحياء بكاملها وطرد سكانها والاستيلاء على سياراتهم وأموالهم وانتهاك أعراضهم هو المنهج المطرد والاستراتيجية الواضحة للقتال من قبل الدعم السريع. رد الجيش بقصف وتدمير المنازل والمرافق التي استولى عليها جنود الدعم السريع وأخذت الحرب داخل الخرطوم نفس النمط الذي ساد دافور لسنين عديدة وسط إدانة المجتمع الدولي ومطالبته بالعدالة لأهل دارفور مقابل الانكار والاستعلاء والازدراء من قبل حكومة المؤتمر الوطني.
إن اُسلوب القتال الذي يتبناه طرفا القتال ينطوي على مفسدة وضرر متعمد بالمواطنين والوطن. فأحد طرفي القتال يقوم باقتحام واحتلال بيوت المواطنين بقوة السلاح بعد أن قصف الطيران معسكراتهم، فشرّدوا الاُسر واتخذوا من منازل المدنيين سكنى وقواعد عسكرية لشن حربهم. ويقوم الطرف الآخر بدكّ وهدم هذه المنازل مستخدما الطيران والقذف المدفعي. فأصبحت بيوت المواطنين وأعراضهم وأموالهم ومرافقهم الخدمية من مستشفيات ومدارس وجامعات هي أرض المعركة والهدف الذي يسعى طرفٌ للاستحواذ عليه ويسعى الطرفُ الآخر لدكه على رؤوس محتليه. لذا، فإن القول بأن الجيش يخوض "جهاد الدفع" الشرعي ردا على استيلاء الدعم السريع على منازل وأموال المواطنين واستباحة أعراضهم قول مبتور وحكم ناقص بني على أساس النظر الى المفاسد التي نتجت عن الحرب وأغفل حكم الله تعالى في شأن الحرب نفسها. فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الحرب التي اندلعت في الخامس عشر من ابريل كانت لأسباب تخص كل من الجيش والدعم السريع لم يكن المواطن طرفا فيها. وأن استراتيجية الحرب التي انتهجها الجيش بقصف معسكرات الدعم السريع نتج عنها تبنى الدعم السريع استراتيجية الاستيلاء على منازل المواطنين وما صاحبها من مفاسد عظيمة ثم جاء رد الجيش بدك هذه المنازل فوق رؤوس محتليها. فهذه حرب لا خير فيها أو يرجى منها، جلبت الخراب والدمار على كل السودان. فلمن يدعى أن الحرب جهاد دفع يقوده الجيش ضد من احتل منازل المواطنين واستولى على أموالهم وانتهك أعراضهم، أقول لهؤلاء أن يتقوا الله ويقولوا قولا سديدا. إن السبيل الناجع والطريق المختصر لوقف المفاسد التي نتجت عن الحرب من استيلاء على منازل وأموال المواطنين وهتك أعراضهم هو وقف الحرب وليس بإذكاء نارها. هذه الحرب فتنة يجب إخمادها وإلا فإن مفاسدها تزداد وتتمدد وعما قريب لن تُبقى من السودان أخضرا ولا يابسا. فكل من له عقل يعلم أن أي جيشا مهما كان محترفا ومتمرسا سيتكبد خسائر بشرية كبرى إذا خاض حربا مع جيش آخر مدجج بالسلاح يختبئ ويقاتل من داخل مئات الألوف من منازل المواطنين في مدينة مترامية الأطراف يقضنها الملايين من المواطنين، فما بالك بالزج بشباب لا خبرة لهم بالحرب واستعمال السلاح في هذه الحرب باسم جهاد الدفع. إن الشرع يقتضي عدم الخوض في حروب تجر الوبال على المسلمين (راجع الأدلة الشرعية فى مقالي السابق: وقف الحرب بين الجيش والدعم السريع واجب شرعي)، ولنتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فوقف الحرب هو الأيسر لوقف مفاسد الحرب من قتل ونهب واغتصاب، وتوسيع دائرة هذه الحرب اثم كبير.
ولنتذكر أن الحروب التي وقعت بين جيشي على بن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان حول الخلافة واستمرت حتى بعد وفاة على بن أبى طالب رضي الله عنه جلبت الوبال على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه، فبسببها قتل كل من الحسن والحسين (حفيدي النبي صلى الله عليه وسلم) واسرت فيها نساء من بيت رسول الله في كربلاء. ولنتذكر أن اعتزال عدد من كبار الصحابة لتلك الحرب كان مبنيا على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا الْتقى المسلمان بسيفَيهما، فقتل أحدُهما صاحبَه، فالقاتلُ والمقتولُ في النَّارِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ هذا القاتلُ فما بالُ المقتولِ؟ قال: إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه (حديث صحيح أورده السيوطي فى الجامع الصغير)، وقوله: (لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ) (صحيح البخاري). فالأحرى بكل مسلم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتبع هوى النفس والتكتلات الحزبية. ولنتذكر أن الرسول صلي الله عليه وسلم أخبرنا بأنه ستقع حروب وفتن يكون الأذكى والأفضل للمسلم أن يكسر سيفه ويؤثر أن يموت مقتولا ولا يسفك دم مسلم.

من الذي يحكم على أحد طرفي النزاع بأنه معتد وباغ:
كل من الجيش والدعم السريع له مزاعمه وادعاءاته وروايته عمن أطلق الرصاصة الأولى وأشعل نار الحرب والفتنة. وهناك أدلة كثيرة تشير الى طرف ثالث هو من جر الطرفين الى الاقتتال بعد أن كانا جسما عسكريا واحدا. في ظل هذا الوضع لا يمكن عقلا ولا شرعا قبول ادعاء أحد الطرفين بأنه على حق وأن الطرف الآخر هو المعتدى والباغي. فلا بد من طرف آخر محايد يقوم بفحص ووزن البينات وتحديد الطرف المعتدى والباغي. كما أنه لابد من التحقيق والنظر في الأدلة التي تؤكد وجود طرف ثالث هو المسؤول الأول عن هذه الحرب الكارثية. وما زلت أدعو أن تطلع السلطة القضائية السودانية بهذا الدور قبل أن ينفتح الباب على مصراعيه لجهات خارجية لملْ هذا الفراغ. لذا فإني أدعوا من يقولون إن هذا الطرف أو ذاك هو المعتدى أن يتحروا الحق.
وفيما يلي الأدلة الشرعية على ضرورة صدور الحكم بين طرفي النزاع من قبل طرف آخر غير منحاز أو مرتبط بطرفي القتال:
أولا: قال الله تعالى في سورة الحجرات: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، ففي هذه الآية جاء ذكر طائفتين متقاتلتين من المؤمنين وفرقة ثالثة من المؤمنين هي التي خاطبها المولى عز وجل وأمرها أن تقوم بدور الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين. ثم أمرها بقتال الطرف الذي يرفض الوساطة لوقف الحرب وقبول الصلح والإصلاح (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)، ثم أمرها أمرا ثالثا بالعودة لمنهج الإصلاح والعدل بين المتقاتلين حين يكفا عن الاقتتال ويقبلا بالصلح (فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا). لذا فإني فى هذا المقال والمقال السابق أشدد على ضرورة أن ينبري طرف محايد ملتزم بشرع الله بلعب دور الوساطة والإصلاح والحكم بالعدل. وآمل أن تقوم السلطة القضائية السودانية بهذا الدور نسبة لعدم وجود سلطة تشريعية وأن الحرب قائمة بين أطراف تمثل السلطة التنفيذية.
ثانيا: حالة الحرب والاقتتال بين الجيش والدعم السريع شديدة الشبه بفتنة الحرب والاقتتال الذي وقع بين جيشي على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان على الخلافة. فإن الصحابة الذين اعتزلوا طرفي القتال ونسبة لعدم وجود طرف مصلح في أول الأمر امتنعوا عن اصدار حكما مسبقا عمن هو الباغي الى أن تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي ياسر بن عمار بأنه سيقتل على يد الفئة الباغية. ولما قُتل ياسر بن عمار على يد جيش معاوية تبين لهم من الباغي وفقا لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.

حرمة وعقوبة الاستحواذ على بيوت واموال المواطنين وتعمد قتلهم وانتهاك أعراض النساء:
كل أنواع الاعتداء الجنسي على النساء واغتصابهن في ظل هذه الحرب تعتبر من أبشع أشكال الإفساد في الأرض ويجب أن يعاقب فاعلها ومن قام بتوجيه المغتصب أو الإيحاء له بالإقدام على هذا الفعل بالقتل أو الصلب أو القطع من خلاف وفقا لأمر الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الآية 33 من سورة المائدة ). وإلحاق من أمر أو حرّض على اغتصاب النساء من حيث العقوبة بفاعل الاغتصاب أمر بديهي. ونفس هذا الحكم يجب أن يطبق على قتل أهل دارفور وإحراق قراهم وتشريدهم وهتك أعراض نسائهم، فكل أهل السودان تتساوى حرمة دمائهم وأعراضهم وأموالهم.
اكراه المواطنين المسالمين على الخروج من ديارهم واستحواذ منازلهم ونهب أموالهم وترويعهم بالسلاح أيضا يدخل في حكم الإفساد في الأرض الذي أشرت اليه سابقا. واعتقاد البعض أن هذه الأموال غنائم حرب فهو جهل بالدين إذ أن المسلم لا يغنم مسلما ولا يسبى مسلما. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام؛ ماله وعرضه ودمه) (صحيح ابن ماجه، وكذلك صحيح مسلم وصحيح ابى داود).
ومعلوم حرمة قتل المسلم أخاه المسلم عمدا. فكل من قتل عمدا مواطنا لم يحمل السلاح ويشارك في الحرب فيجب القصاص منه (النفس بالنفس).
المفاسد العظيمة التي ذكرتها هنا ما هي إلاّ نذر قليل مما تنتجه هذه الحرب في كل دقيقة تمر. هذه حرب لا نصر فيها والسبيل الوحيد لوقف مفاسدها من سرق ونهب واغتصاب وسفك دماء الأبرياء يتمثل في وقف الحرب نفسها فورا، يليه التحقيق والحكم بالعدل بين طرفي القتال واي أطراف أخرى ساهمة في اشعال هذه الفتنة. علما بأن وقف الحرب لا يعنى أن تسقط العقوبات الشرعية في حق من ارتكب المفاسد العظيمة في حق المواطنين الذين ليسوا بشريك في الحرب، إذ أن احكام قتل واغتصاب ونهب المواطنين الآمنين تختلف عن أحكام القتل والضرر الذي يلحقه كل من طرفي الحرب بالآخر.
أسال الله أن يهدينا سبل السلام.
د. محمد المنير أحمد صفى الدين
6 أغسطس 2023
msafieldin@gmail.com
//////////////////

 

آراء