هلّا فكّرت معي في هذا

 


 

 

إن كل يوم يضاف للحرب يعني مزيداً من الموت للأطفال والكبار، للنساء والرجال وقبلها موت من هم في طرفي القتال ممن كانوا يمكن أن يكونوا معاً في وئام ويبقوا رصيداً قوياً لصد الغزاة على السودان وحماةً للديار، في عقيدة تعصمهم من قتل مواطنيهم، بدلاً من أن يكونوا لهم الحصن الذي بهم يُجَار. كل يوم يضاف للحرب تعني تشريد وحياة ذلّة في مختلف البلاد والأمصار، وقد وجد الجميع أنفسهم يهربون من الموت ومن بين الأنقاض والدمار تحت أزيز الطائرات القاذفات والشظايا والراجمات والدانات وأرتال المركبات ومقاتلون عددهم جرار. استمرار الحرب لافتة يحملها دعاتها لتقرأ الأمم عنّا هول ما نكنّ لبلادنا من عداء وحجم ما يبين في السيماء من عار، وما نستهدي به في إدارة شأن بلادنا من عمى في البصيرة والأبصار.

وقف الحرب هي فرض عين على كل سوداني حادب على حفظ الأنفس والوطن من التمزّق، بل يعي ويدرك أن المسؤولية الأخلاقية لا تحتمل الصمت بل تفترض القول، ولا تدعو للتقاعس، بل للعمل في سبيل وقف إراقة المزيد من الدماء، في سبيل مسح دمعات الثكالى من النساء، في سبيل ألّا يجهر الرجال بالبكاء، في سبيل ألا يُذلّ ولا يُضام السودانيون في بلاد اللجوء وإن أبدوا في استقبالهم بعضاً من الحياء. في سبيل ألا يمد السودانيون أيديهم للأخذ بعد أن كانت ممدودة دوماً للعطاء. في سبيل ألا يطأطئ أطفالنا ونساؤنا وشيوخنا الرؤوس تحت القهر والبأساء، وحتى لا تتمرغ دون رأفة أنوفنا بوطأة الحاجة وبنتائج ما صنعت أيدي دعاة الحرب من بلاء. بوقف الحرب نصون طاقات شبابنا وتُدّخَر للبناء بدلاً من تبديدها في حرب وإن طالت قروناً ستنتهي، ولكن يومها سيبكي من سيكون موجوداً وهو يحصي أعداد من حصدتهم حرب رعناء.

عندما ندعو لوقف الحرب، نحن بذلك لا نأت ببدعة، نحن فقط نكرر ونذكّر بما يعنيه المنطق وما يجب أن تجسّده الحكمة وما تمليه الواقعية. نحن فقط نأخذ من إرث التجارب البشرية وما أكثره، لنحفظ ما يقتضيه حفظ الإنسانية فما أوجبه. لقد كررنا وكرر غيرنا بأن هذه الحرب لا تعني إلا العبثية، قادة طرفي القتال، أسميا هذه الحرب بأنها حرب عبثية. إذن، فأولئك الذين يريدون لها أن تستمر، لا نملك إلا أن نقول أن طعامهم أشلاء وشرابهم دماء، وأمانيهم للأحياء منايا، بل يزيدون عليها بقتل الحوايا. "هذه الحرب عبثية" قالها البرهان، "دي حرب عبثية" قالها حميدتي، لماذا إذن مفتونٌ هوانا في العبثية؟
فإن كان رفضنا نثراً واضح في رابعة النهار، نقوله بالشعر أوضح كما العاري بلا كساء أو دثار.

دعاة الحـرب فــي بعدهم
يرفلون في نعيم وأمان

يلقوا الكلمات رصاصا يقتل
لا يطالهـم فــي ذاك المكـان

سـعيهم ماض بنفــخ أوارها
فـي وهـم البعد من النيـران

ليس للحــرب دار يـا هـؤلاء
ستندلع حيث يكون الإنسان

لا تعتقـدوا أنكم ناجـون منها
ستطالكم يوماً منها الســنان

يومهــا تندبــوا ســوء فعـال
قيـل اتركـوها فإنــها شــنآن

مضيتم بالغي غير عابئين
فلمّـا طـال لهيبهـــا الجَنَـان

حينها تقولـوا انقـذونا بربكم
ولكـن حسـرتاه، فـات الأوان

أيها السودانيون في كل مكان، هذا خطاب للعقول والضمائر والقلوب، هي هزّة عنيفة لذهنك ليلقي رطب ما يختزن من الآراء في ثمار، هي طَرْق بهدوء على أذنيك أن تسمع النداء وتعي الذي يقال سراً قبل أن تُجبر على سمعه جهراً. هو نداء لضميرك أن يستيقظ، لينام غداً في هدوء قبل أن يسبقه الموت فيميته أبداً، هو دغدغة للقلوب أن تهفو وتحتضن الوطن بعاطفتها فلا تقوم عليه وتلفظه بقساوتها. يجب أن يكون باب التواصل بينكم مفتوحاً، فإن دب الخلاف وأضحى نزاعاً بالقتال، فلا ينبغي أن يكون العنوان بين السودانيين المقاتلين وغيرهم هو العداء، إذن، فلا خطوط حمراء في سبيل واد الفتنة. من يرسم في ذلك خطوطاً حمراء، إنما يريد أن يجسّدها جداولاً تملأها الأجساد والجماجم وتغطّيها الدماء، وهي هدية لن تقبلها الأنفس التي أفزعها الخوف والهول والتشريد، بل لن يستطيع كائن أن يجد لها تبريرا.

في سبيل درء كل الذي أشرنا إليه والذي مدخله هو وقف الحرب، فالضرورة تقتضي أن يلتقي البرهان حميدتي، والضرورة ذاتها تفرض أن يلتقي حميدتي البرهان، في سبيل وقف الحرب وحقن الدماء وانتشال الوطن من التمزّق والفناء، والبحث عن حلول دائمة، هذا هو المنطق والحكمة والواقعية التي تفرض على أي مواطن يؤلمه الذي يجري في الوطن وتبدو له الصورة واضحة، وإلى أين سيذهب السودان إن استمرت الحرب، أن يقول ذلك. ترتيب الأولويات هو المفتاح الأقوى لمعالجة المعضلات. هذا لا يعني أنه سيكون هناك نسيان أو تجاوز، فالأخطاء ستُعالج حتماً، كما تؤخذ الخطايا أيضاً بمقتضياتها الجنائية، ويُسقَط عليها العُرف باستحقاقات التسامح، من الاعتراف والاعتذار والإقلاع والندم ورد الحقوق وجبر الضرر، ولكن كلها لها أوقاتها وتتم في أوانها ولها حلولها العادلة، كله بغرض الانتقال مما نحن فيه من فشل إلى مرافئ النهوض بالأمل والعمل. أما الآن، فلا يجب أن نقيّد الوطن ونسجنه في محراب العجز ونطعمه الشعارات ونسقيه الأمنيات، ذلك يحتاج أيضاً إلى أن نتبع الأمل بالعمل، ولكن بالمنطق والحكمة والواقعية. لن نعدم الحلول لأي مشكلة ولن نتقاعس عن التصدي للتحدي الذي هو الواجب الوطني والأخلاقي لكل السودانيين. لن تنزل الحلول من السماء إن صمتنا واستسلمنا لما هو ماثل من عجز اعترى غالبنا، بيد أن هناك من الحلول الناجعة ما لا يقال على الهواء، فإنها إن قيلت عياناً وجهراً أفسدها دعاة الحرب الهراء. تذكّروا دائماً، لن يرانا الآخرون إلا بمنظار السخرية، فهل هذا كافٍ لإيقاظ نخوتكم النائمة.

عبد الجبار محمود دوسة

jabdosa@yahoo.com

 

آراء