هل ستقوم الثورة السودانية؟ وهل نحتاجها؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
ثلاثة مصائر تنتظر الوطن: انفتاح النظام واستباقه للانهيار بتحول ديمقراطي متفق عليه عبر حكومة قومية لا تعزل أحدا، أو ثورة مقتدرة تسبح باتجاه الوطن الغريق وتنتشله قبل أن يُقضى عليه، أو سوف يحدث المحذور لا قدر الله وما عنه يحيد كل وطني غيور! ذكرنا في المقال السابق مواصفات الحل الاستباقي بيد النظام ولا نعول عليه كثيرا لأنا لم نلحظ عقلا في الحاكمين طيلة خمس قرن ولكن لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون! ونزمع أن نتحدث عن المصير الثاني وهو ليس نزهة على شاطئ النيل.. كيف، متى ومن؟ هي أسئلة سوف نحوم حولها في مرة قادمة بإذن الله، ولكن قبل ذلك يبرز السؤال: هل ستقوم الثورة أصلا؟ وهل من حاجة للثورة في السودان؟ وهذا هو موضوعنا اليوم.
بادر شعبنا بثورات شعبية عديدة في تاريخه بعضها عثر وبعضها تعثر. الثورة المهدية الظافرة ضد حكم الباب العالي في أواخر القرن التاسع عشر، عثر الشعب فيها على حريته ووحدته وأنشأ حكمه الذي تكالبت عليه عوامل ضعف ذاتي وهجمة إمبريالية أردته. وثورة 1924م التي كانت تناغما مع الهبة المصرية السعدية (نسبة للبطل سعد زغلول) وحركت أشواق النخبة في المدن وإن لم تفلح في التغلغل في الريف وقطاعات الشعب العريضة فسجلت نقاطا من البطولة ولكنها لم تظفر. ثورتا أكتوبر 1964 وأبريل 1985م الظافرتان وصلتا لعتبات في تاريخ الشعوب لم تطأها أقدام العالم قبل شعبنا، وإن لم تفلحا في تأسيس الحكم المنشود في ملامح عدالته وتوازنه إلا أنهما شكلتا نضجا وخبرة ومعرفة تراكمية للشعب السوداني. فتاريخنا يلقي بدروس قيمة حول كيفية قيام الثورة والمعوقات أمام بلوغ أهدافها، ولذلك لم تكن أستذة محضة أن يتبرع مفكرونا ونشطاؤنا أمثال السيد الصادق المهدي والدكتور أمين مكي مدني وغيرهما بالدروس والعبر على الثوار المصريين والتونسيين، فهذا الرصيد من خلفنا هو من أهم الأسلحة لمقابلة التحديات من أمامنا.
هل ستقوم الثورة؟ لننظر بعين الصقر المحلّق أولا، ثم لنر ماذا تقول الدودة التي تدب على وجه الأرض وتختبر الثنايا والحنايا من قرب. الصقر يرى الصورة الكاملة من بعيد ولا يستطيع التفرقة كثيرا بين أرض تنمو عليها النجيلة وأخرى عليها "السعدة"، ولكنه يستطيع رؤية خيل سليمان القادمة نحو الدودة المأخوذة بوصف الفرق ولربما حطمها سليمان وجنوده في مكانها ولم تتنبه كما فعلت النملة يومها وتبسم سليمان ضاحكا من قولها!
تحدث بعين الصقر كثيرون ومن أبرزهم الأمير السعودي طلال بن عبد العزيز الذي أكد أن ما جرى في ميدان التحرير كان حاسما، وأن التغيير قادم لكل المنطقة. قال نفس الشيء الإمام الصادق المهدي مؤكدا أن عجلة التغيير يمكن أن تبطئ في هذا البلد أو ذاك لعوامل ولكن حتمية التغيير والإطاحة بالاحتلال الداخلي هي مثل حتمية الاستقلال من الاحتلال الإمبريالي في النصف الثاني من القرن العشرين.
أما عين الدودة اللصيقة فتؤكد الظروف المختلفة داخل البلدان. والغريبة أن منطق الاختلاف والتركيز عليه استخدمه سدنة الأنظمة الحاكمة في كل البلاد ما عدا تونس التي ابتدأت! وكلهم قاموا بالتالي:
- اتخاذ إجراءات تسكينية بالاستجابة لبعض المطالب بمواجهة العطالة والغلاء والفساد..الخ
- الانتباه لآلية الثورة الشبابية (الإنترنت) والسعي للسيطرة عليها.
- المناداة بحوار يخاطب بعض التركيبة ويستثني بعضا.
- الاستهانة بالشباب واستتفاههم.
- الاستعداد لأقصى درجات العنف مواجهة للثورا لإعادتهم إلى بيوتهم أو إلى القبور.
- نكران أن يكون الحال سيئا في بلادهم مثل البلاد التي قامت فيها الثورة، وربما شذ الطاغية الليبي بأن أنكر على التوانسة ثورتهم بقوله إن "الزين أحسن الناس"، وأن مبارك فقير ليس له مال! وقد ثبت بالفعل أن زين العابدين أفضلهم جميعا، ولكن مثل (عاقلة بنات حسن) كما في المثل أو (خيار أم خير الما فيهم أخير ومن خيار أم خير.. الخلا أخير)!
ماذا حول السودان
تقول الإحصائيات إن الحال في بلاد السودان أسوأ مما هو في البلدان التي ثارت. وسنورد بعضها:
- في دراسة "ترتيب الزعماء الأفارقة" التي أصدرتها مجلة (شرق أفريقيا) في يناير 2011م لترتيب 52 من الزعماء الأفارقة وفقا للحكم الراشد والديمقراطية وحرية الإعلام والفساد والتنمية البشرية وغيرها من أوجه الأداء جاء الرئيس السوداني في الخانة قبل الأخيرة (رقم 51) بمعدل أداء 15.67% وكل رؤساء الدول التي هبت فيها الثورات: مصر وتونس وليبيا في خانة أفضل منه. الرئيس التونسي حاز على الترتيب رقم 23 بمعدل أداء 49.01% ، والمصري رقم 30 بأداء 40.47%. والليبي رقم 27 وحاز على 44.46%.
- الخدمات: لو أخذنا الأمية كمقياس فنسبة الأمية في تونس 10% وفي مصر 28% وفي ليبيا 11.5، وفي السودان يقال رسميا إنها 52% ولكن كثير من المنظمات العالمية العاملة في مجالات التعليم تقدر أن النسبة الفعلية هي 64%.
- صنف "التقرير الأفريقي لرفاه الطفل" للعام 2011م الدول الإفريقية إلى ثلاثة أصناف: دول تصرف أقصى ما يمكنها على الأطفال، ودول تصرف بشكل معقول، ودول تصرف أقل ما يمكن. وكان السودان هو أسوأ بلد أفريقي قاطبة في الصرف على الأطفال، بينما هو ثامن أفضل الاقتصاديات في أفريقيا، وذلك بسبب ارتفاع الإنفاق الأمني والعسكري. يصرف السودان 6.3% من ميزانية التنمية على الصحة، والسجل الأسوأ للسودان هو في مجال الصرف على التعليم حيث يصرف ما نسبته 0.3% من ميزانية التنمية على التعليم وهي نسبة من ضآلتها ليست قريبة لأي بلد آخر فثاني الطيش يصرف حوالي خمسة أضعافها!! وفي المقابل نجد أن تونس من الفئة الأفضل أداء من ناحية تخصيص أقصى حدود مواردها المتاحة للأطفال، وتأتي مصر ثم ليبيا في خانة الصرف المعقول.
- وبحسب مؤشر مو إبراهيم للحكم الراشد في أفريقيا جاء ترتيب السودان رقم 48 (من بين 53 دولة) وكانت درجته 33% (بعده إرتريا وزمبابوي والكونغو وتشاد والصومال) أما تونس ومصر فكانتا في (العشرة الأوائل) وترتيب تونس الثامنة بدرجة 60%، ومصر العاشرة بـ59%، أما ليبيا فكانت رقم 23 ودرجاتها 53%.
- وبحسب مؤشر حرية الإعلام الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود، فإنه وللعام 2010 تم ترتيب 178 دولة في درجات من الأخضر (الحرية القصوى)، للأصفر، للبرتقالي، وحتى الأحمر (التقييد الأقصى) لقياس درجة القيود على الإعلام وجاء السودان في إقليم الحمرة وترتيبه رقم 172 بقيود نسبتها 85.33% (بعده سوريا وبورما وإيران وتركمانستان وكوريا الشمالية وإرتريا). تونس وليبيا كانتا برتقاليتان بقيود 72.5% لتونس و63.5% لليبيا، ومصر صفراء بقيود 43.33%.
- الفساد: في تقرير مؤشر إدراك الفساد لمنظمة الشفافية العالمية لعام 2010م فإن درجة الشفافية الأفضل في تونس ومقياسها 4.3 (ترتيبها رقم 59) تليها مصر وشفافيتها 3.1 (رقم 98) ثم ليبيا شفافيتها 2.2 (رقم 146) والأسوأ هو السودان شفافيته 1.6 (رقم 172) تفوقه في السوء ست دول فقط في العالم هي تكمانستان وأوزبكستان والعراق وأفغانستان ومايمار والصومال!
- الهجرة: تعاني بلاد الحروب والقهر والعسف عادة من الهجرة القسرية. أصدر آخر تقرير نشرته رابطة الصحافة الاستقصائية السودانية (سودانير) أرقاما مخيفة أنه في سني الإنقاذ هاجر نحو عشرة مليون للخارج (9,858,176) بأسباب مختلفة سياسية واقتصادية وأمنية تفرقوا في أصقاع الأرض الأربعة وذهبوا بحثا عن ملاذ آمن حتى في الصومال وإسرائيل! ونشرت صيحفة الجيروسلم بوست في 3 أبريل الجاري أن المهاجرين الأفارقة لإسرائيل حتى ديسمبر 2010م بلغوا نحو 23 ألفا من جهات مختلفة في أفريقيا أكثريتهم من إرتريا (حوالي 19 ألف) ثم من السودان (حوالي 8 آلاف) والبقية- أي أقل من ستة آلاف بقليل- من مناطق مختلفة بأفريقيا!ّ
- أما مؤشر الدول الفاشلة للعام 2010م والذي يرتب 21 من الدول التي تعاني مشاكل تضعها في حافة الانهيار فقد جاء السودان في المرتبة الثالثة بعد كل من الصومال وتشاد.
يضاف للسوء السوداني:
- غبينة التعامل المتوحش مع التنوع الثقافي وجريمة الانفصال بسببه.
- الحرب الضروس في دارفور والانتهاكات والجرائم البشعة المتعلقة بها.
- الفوارق الاجتماعية المتزايدة بين من يملك ومن لا يملك. وبين الأقاليم المختلفة، وبين الحضر والريف داخل كل إقليم.
- خرق النسيج الاجتماعي في البلاد وبعث القبلية والطائفية وضرب الولاءات بين زعاماتها واستخدام شراء الولاءات بشكل جعل شروخا غائرة في كيانات كانت راتقة.
- تجريف الأحزاب وتجفيفها من كادرها الفاعل بالتهجير والإفقار والترغيب والترهيب والحرب النفسية والإعلامية المنظمة والمقتدرة. وينطبق ذلك على النقابات ومنظمات المجتمع المدني بشكل عام.
هذه الحقائق وتلك الأرقام تتكلم بنفسها لخصها المثل (الممعوط روقا.. الفي الفريق كله فوقا)! إنها تقول إننا كثامن اقتصاد في أفريقيا لم نصنع شيئا للمواطن المسحوق، لا نصرف على تعليمه، ولا على صحته، بل تذهب الأموال للصرف الأمني والعسكري أو تقع من ثقب الجيب الوطني بالفساد، ثم نغلق الأفواه لئلا تقول إن البغلة في الإبريق عبر الإعلام. وبلادنا تقابل مخاطر ومهددات على كيانها، ولا ريب أن نحو ربع سكانها قد فروا من البلاد!
ولو لاحظنا إذن ملاحظة أولى هي أن الثورة بالرغم من أن مسبباتها الفساد والقهر وسوء الأداء الحكومي إلا أنها بدأت بالبلاد الأقل سوءا، وهذا له علاقة برأينا بما أشار له كثيرون من دور الطبقة الوسطى في قيادة التغيير وكلما تم تجفيف هذه الطبقة وتجريفها كان التغيير أبطأ. وله علاقة كذلك بأشياء أخرى كالمخاوف من العاقبة لأي تحرك داخل دولة هشة.
الأرقام تقول إننا نحتاج الثورة/ التغيير/ التحول الديمقراطي/ الحكم الراشد/ الانفتاح، سمه ما شئت مما يقلب صفحة التفريط الحالي.
هل ستقوم الثورة؟ هل سيحدث التغيير؟ كيف ومتى؟
قال الدكتور حسن حاج علي متهكما في منتدى الأمة في أبريل هذا الجاري: لنفرض أن ما تقولونه من سوء صحيحا فلماذا لم تقم الثورة؟ ولنفرض أن حاجتنا لها صحيحة فماذا نفعل وقد تخلفت في السودان هل نقدم عطاء بإقامة ثورة؟ أم ننتظرها كما ينتظر الإمام الغائب؟
هذه أسئلة تتحدانا.. وسوف نحاول الإجابة عليها في مساحة لاحقة بإذن الله،
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]